الفصل الثالث مكتوب

5.8K 109 18
                                    

شدت أسوار حقيبتها لجسدها وهي تجد السير في الطريق المنحدر صعباً، فقد قررت بعدما أنزلها سائق السيارة الأجرة على رأس الطريق أن تقطع سيراً على الأقدام مسافة ليست بقليلة كي تصل إلى وجهتها المعتادة.... تنهدت بينما كادت تتعثر مجدداً، يملأها الاستياء من ذلك السائق، وقد كانت حجته أن الطريق المتعرج والغير ممهد سيفسد موتور السيارة! بل أنه حاول عندما نقدته أجرته أن يعرض توصيلها وانتظارها أيضاً... ولكن بمبلغ خيالي لن تستطيع إيجاده بحقيبتها لو أرادت!

كانت قد عادت لتوها إلى قصر عمها... لكن ما إن دخلته حتى شعرت باختناق الموت يكاد يختطفها لذا خرجت مسرعة... وكل غايتها أن تجلس في أحب مكان لقلبها، حيث تنتمي... بجوار الموت ذاته، ربما يأخذها بغتة!

نظرت للمدفن الخاص بأمها، ذاك المعتم... حتى خلال ساعات النهار، صغير... لا يكاد يراه أحد، مكانه يتوارى بين مدفنين آخرين كبيرين... لكنها لم تكن ترى ما حولها، فقط أقدامها تتحرك بتناغم منتظم مكوّنة خطواتها، تقودها نظراتها المثبتة على مكانها الحبيب.
نعم، تشعر بالراحة مع ثرى دُفِنَت فيه أمها... تكون تلك طقوسها المعتادة كلما تختنق، تشتاق... أو حتى ترغب بالكلام، فقط تجلس وتقرأ أجزاء من القرآن الكريم... ثم تنام بجوارها ساعة أو ربما أقل على تلك المرتبة التي وجدتها داخل المدفن الرخامي، وكأن كان أحدهم بالداخل... يحيا حياة زاهدة، وسط الأموات.... بعيداً عن زيف الآدميين.

منذ حوالي خمسة أعوام،، جلست مع فرسان لتفاجئها بإصرار... لقد كانت تطالب ذات الطلب منذ أعوام، ولكن تلك المرة شعرت حقاً أنها تحتاج أن تكون على يقين بالمعرفة: "فرسان، أريد أن أعرف أين قبر أمي..."

ولكم شكرتها عندما منحتها عنوانه ومفتاحه بعد أيام قليلة فقط لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومنذ ذللك الحين... تأتي كلما شعرت بحاجتها للحنان.... ببساطة، كلما طلبت الحياة!

أجل، هنا تطلب الحياة... حيث وجدت مَنْ تنتسب إليه، حتى لو بين تراب المدافن... سيظلّ ترابها حياتها.
وسط رحلتها، وجدت على جانب الطريق أحد الباعة لمخبوزات الرحمة فاشترت منها عشرة فتكون اليوم طعاماً لعدد من الأطفال المنتشرين بالمكان، إن حياتهم أيضاً هنا... قلباً وقالباً.

دوماً يشغل تفكيرها ذاك المزيج الغريب، موت تجاوره حياة.... موت تساويه حياة، وموت تلاحقه نَفْس الحياة... كذلك الشاب المسكين، كانت في زيارة من زياراتها حيث حضرت سيدة عجوز وابنها الذي لا يتجاوز الخامسة عشر من عمره هنا بالمدافن... تقريباً لجنازة أحدهم، وبذات اليوم... وهم مغادرون مع الجمع ممَنْ حضروا ذات الجنازة... سقط الشاب بجانب أمه التي التاع كبدها عليه، وإن لم يقدر الصراخ على جعلها تخرج من مدفن أمها... فلوعة أمه أجبرتها أن تشاهد ما يحدث، لوعة أخبرتها بحسرة أن قبر جديد سينضم حديثاً لتلك العائلة... فقيد جديد يعانون التكيّف مع هذه الحياة دون وجوده...

عبث أسألك [الجزء الأول من سلسلة حد العشق]حيث تعيش القصص. اكتشف الآن