الفصل الخامس مكتوب

5.6K 100 24
                                    

تابع خروجها العاصف بعيونه المواسية... لا، لم يكن خروجها عاصفاً... لم يكن سوى واهناً.
قلبه كُسِرَ من أجلها، وهاله منظر عينيها الذابلتين بعد إشراق مشتعل منذ ساعات قليلة... ترفل في هيبة صامتة، ساكنة، وكأنها تريد أن تتوارى... ورغم مجهوداتها المُضنية، بدت له فاشلة بدرجة امتياز في إتقان ادعائها اللامبالاة.

منع ساقيه من متابعتها، لو فعل هذا... لو لاحقها الآن... ستخرج أشواكها القوية ولن تمنحه لحظة دعم أو مساندة، إنه يدرك ذلك جيداً... وربما حصل على عدائها الدائم بالفعل، لذا... لم يرَ داعياً من إضافة مزيداً من الحطب لنيران عداوتها تجاهه، واكتفى أن يحزن من أجلها... أن يتفتت قلبه وهو يراقبها ترحل ببطء، تتلحف بوشاح من حسرة وتتدثر بغيمة من الضياع.

ازدادت نظرته حدة عندما اخترق محراب صمت المكان صوت كاد ينسى وجوده في غمرة صوت تمزق قلبه وقلبها أشلاءاً معاً: "هاي، أنتَ منذ متى تقف هنا؟؟"
ذلك الصوت اللعين،، ذلك الصوت الذي جدّد رغبته بالانتقام لها.... الذي ينفث في قلبه لهيباً مُضاعفاً، كم يودّ أن يلقنه درساً!

إن بنات دحية ليست ألعوبة يتركها بعد أن يأخذ مآربه منها، مهما كان نوع التلاعب والهدف... كله يتساوي لديه، لكن حين تكون الألاعيب منسوجة حول فُرسان.... حينها، لا يردعه عنه سعير الجحيم نفسه.
نظرة واحدة شرسة للوجه المتعجرف كانت كفيلة لإدراك سيف أنه داعب تنيناً غاضباً.... منه هو، إن نظرته تلك حملت من الحقد ما يكفي لقتله!
تقدم جواد مترنحاً بكسل.... محاولاً اكتساب الوقت، كأنما يشحن كل غضبه وحقده يخزنهما ببطء في قبضتيه، بينما تتكوران أكثر وأكثر مع مرور الوقت... وعيناه يسكنهما غضب عظيم يتكون داخلهما كثقب أسود هائل ينذر بسحب كل ما يطاله...
لكمة واحدة فقط،،، فكّر دون محاولة لكظم غيظه بينما يتأمل ملامح الوغد الذي أمامه باحثاً عن موضع لكمته المثالي، وقلبه يؤنبه: إنه مَنْ اختارته فرسان.... إنه مَنْ كانت قد قررت أن تقضي بقية عمرها معه!

"هل أنتَ أحد العاملين الجدد؟؟" كلمات سيف استوقفته بمكانه فجأة، فقط يحدق به كمن يشاهد أعجوبة.... أي نوع من الرجال هذا المخلوق؟؟! إنه لم يهتم بها حتى، هذا الوغد!! ليته سأله عن أي اتجاه هي غادرت منه، إن كان رآها وكيف كان حالها.... أن يطمئن أنها لا تعاني مما فعلته يداه... إنما وكأن الموضوع برمته لا يعنيه، وقف يتجاذب أطراف الحديث مع رجل غريب التقاه مصادفة!!!!
وعندما استقام سيف يعدّل من هيئته واهتم برباط عنقه قبل أن يساوي من خصلات شعره براحتيه وكأنها انتهى من مرحلة ما بحياته وطوى صفحتها، كأنما لقاءهما لم يكن... ثم بكل غطرسة، لوى شفتيه آمراً: "تنح جانباً...."
حينها فقط، اتحد قلبه مع عقله مع كل كيانه، والفكرة واحدة: هذا يكفي، ربما تكون فرسان قد منحته قلبها... ربما تكون منحته وعدها على الأقل، لكنه قد جرحها... كسرها أمام ذاتها وأمامه، وجواد لن يتوانى عن ردّ الصاع صاعين... وثلاث، وأربع!
حدّق جواد لظاهر أصابع سيف ذات الأظافر المدرمة بحرفية وقد دفعه للتو بلكزة نحو كتفه بطريقة زادها استفزازاً طبقة الترفع بصوته... ثم عاد يحدق فيه بقوة ليجد غرور وصلف رجل هو ما مثل أمامه، وليته غرور بُنِيَ على هيبة... لكن على صورة طاووسية، وحين همهم الآخر بصوت مضغوم بالغطرسة: "أبله!"
طفح الكيل!!!،، هكذا رددت كل خلية داخله وشعور بالسخط يصبغ كل أوردته بانتفاخ حار ولون دموي... قبل أن يقطع السنتيمترات القليلة الباقية بينهما، أنفاسه تكاد تخترق بشرة سيف... بل فحيحها يكاد يحرق خلايا المتغطرس الذي أمامه، قبل أن يزيد الفحيح بكلمات حارة تكظم خلفها الكثير من السخط: "ألم تحذركَ أمكَ ألا تستفز الأبله، فربما يؤذيكَ؟" ثم سدّدها لأنفه الشامخ... تلك اللكمة التي انتظرها طويلاً، منذ لحظات بدت له ساعات.... منذ رأى ملامح الانكسار بادية عليها، وشاهد الخزي يُثقل كتفيها.... أجل، أخيراً... سدد لكمته في المكان المثالي، ربما كسر أنفه وعدّل من زاوية انحرافه قليلاً، قبل أن يتبعها بقبضة ثانية بكفه الآخر... يُفرغ بنفس ذات الأنف، شحنة غاضبة كان يخزنها منذ رحيلها... وبمجرد تذكره مظهرها وقت الرحيل، لم يتمالك أعصابه فعاجله بلكمة ثالثة وهو يتمتم جازّاً على أسنانه يكاد يكسرهم: "ألم تعلمكَ أمكَ ألا تتلاعب بالبشر؟!!" ثم قبض على سترته المنمقة فبعثرها وهو يدفع به للخلف حتى كاد يصدمه بالحائط.... ثم ابتعد عنه سريعاً، وكأن لمسه لملابسه يلوثه أكثر... وكأنها ليست أقمشة لعينة، وإنما مرتع لقذاراته.
سرعان ما كان سيف يتأوه مغمغماً بحقد مغرور وكبرياء رجولي مجروح: "ماذا فعلت، أيها المعتوه؟! سوف تندم على هذا!!" اكتملت جملته بصياح بينما تندفع الدماء من أنفه وتهبط على قميصه فتلوثه... والحقيقة أنها لم تُضف شيئاً جديداً في عين جواد، فقد كان ملوثاً بالفعل في نظره.
لوى جواد شفتيه باشمئزاز على نحيب سيف كالنساء من الألم وهمس بنبرة قاسية مستهزئة: "هيا، اذهب لأمك لتنظفك..." قبل أن ينقض عليه مجدداً ويقبض عليه من قميصه هذه المرة واعداً نفسه بحمام طويل الأمد يغسل يديه فيه من قذارات الحيوان الذي أمامه، يجذبه من ياقة قميصه ويهتف بفحيح مُحذر: "لا أريد أن تقع عيناي على محياكَ السمج هذا، لأن وقتها... ستكون مشحوناً في صندوق وفي طريقكَ لقريتنا.... وهناك، صدقني... ستعلم جيداً مَنْ أنا، ووقتها سأكون أكثر من سعيد وأنا أدفنك حياً هناك بالجبل!" ومع نهاية كلماته، نفض كفيه دافعاً بالوغد إلى حيث الطريق المؤدي للخروج... وليس فقط الخروج من المبنى، بل سيتأكد بنفسه أن يكون خروجه من حياتهم بأكملها.

عبث أسألك [الجزء الأول من سلسلة حد العشق]حيث تعيش القصص. اكتشف الآن