الفصل الرابع مكتوب

4.9K 98 18
                                    

نفضت شعرها البني الفاتح نفضة قوية للخلف تاركة إياه مُسدلاً على منشفتها المفرودة على ظهرها لتلتقط قطرات الماء الزائدة قبل أن تقرر أن تتركه هكذا ليتخذ الشكل اللولبي... ثم دلفت لغرفتها على عجل ولم يخفَ عنها رائحة الخبز الطازج ولا رائحة الطعمية التي ملأت مسارات الهواء بالشقة الضيقة، دفعت جسدها النحيف داخل سروال من الجينز الباهت ثم أسكنت جيدها بقميص فيروزي قطني سميك يقيها الجو البارد، سحبت إحدى السترات الثلاثة التي لا تملك سواهم بعد أن حركت أصابعها فوقهم لتختار السترة الكريمية.... إنها تتناسب مع أجواء الفرح التي تتراقص داخل قلبها.

أجل، لو لديها الوقت... كانت سترقص مع أمها، فاليوم هو موعد دفع آخر قسط لسيارتها الأجرة التي تنطوي ضمن مشروع التاكسي الأبيض.

التاكسي الأبيض،، حلم خالها بملكية سيارة أجرة وهو الذي ظل سنوات عمره سائقاً على سيارات يملكها غيره... خالها وولي أمرها الذي ربّاها كابنته التي لم يرزقه إياها الله من زواجه ورفض الزواج بعد وفاة زوجته فقط ليرعاها... كم فرحت لتحقيق حلمه، وخاصة بمساعدة حبيبها نادر!
تحركت لداخل الغرفة وهي تنظر للسرير الحديدي المزدوج الذي تتشارك فيه مع أمها، جلست على حافته وتركت السترة جوارها ثم دفعت أصابعها في كسوة وسادته الطويلة من جهتها لتمسّ شريطاً مطاطياً رفيعاً سحبته ورفعته أمامها... تاركة الساعة الفضية الصغيرة المعلقة فيه تتأرجح أمام عينيها، مسّتها بسبابتها كأنها أغلى ما لديها وابتسامة عذبة تنير وجهها... ابتسامة ناقضت تلك اللمعة البارقة التي تدل على عمق أحزانها.

بين كفيها، صارت الساعة تتأرجح... تتأملها بإجلال ممزوج بعشق خالد، فتحت الساعة الدائرية بجذب مصراعها لتقع عيناها على صورة مقصوصة بعناية لوجه شاب ذا وجه مثلثي ينتهي بذقن عريض حليق... ذا عظام وجنتين بارزة وشفاه ممتلئة قليلاً تحتوى ابتسامة سخية كريمة كما كان دائماً يأسرها بها... تجولت عيناها على جبينه العريض الذي يعلوه شعر أسود فاحم يمتاز بتموجات طالما عذبته في التمشيط كي تغفو قليلاً.

ولأنها تخشى دائماً السقوط في شباك عينيه المبتسمتين... فهي تكون آخر ما تشرف عليه من صورته، أمالت ثغرها لتطبع قبلتها الصباحية على جبينه ثم شفتيه تهمهم بالصباح المعتاد: "صباح الخير، نادري."

وكالعادة، تكاد تسمع صوته يخرج لها من طيات هديته... أخيراً لملمت أوجاع نفسها كي تستحضر تلك القوة... فقط لتطل داخل عيونه، وتكتشف مجدداً أنها مازالت تبتسم.... رباه، ألم تكرهني بعد يا نادر؟ هل سترفض صحبتي بالجنة يا زوجي الحبيب؟؟

أطلقت الزفرة الحبيسة من هواء رئتيها المكتومتين لتلفح أنفاسها الحارقة كفيها فتكتوي معها، قبل أن تدفع أخيراً باب الساعة تغلقه على وجهه الحبيب... حين جلب لها باب الغرفة صوت أمها الناعم: "دينار..."
ربطت دينار الشريط المطاطي حول رقبتها ودفعت الساعة الفضية الباردة في حماية صدرها... إنها لا تنزعها سوى عند النوم فقط كون الرباط المطاطي تلتف حوله شعيرات رأسها فينزع بعضاً منها كل يوم، نهضت تعدل من ملابسها كي تخفي السلسال بينما تخشى أن تراه أمها حول رقبتها فتوبخها.... لقد حفظت الكلمات عن ظهر قلب وإلى الآن لا جدوى... فهي لن تنسى، لكن أيضاً كي لا تكدر صفوها... فهي مَنْ تعاني معها دائماً كلما ذكرت الحادث الذي راح ضحيته نادر، الحادث الذي ترك خالها قعيداً... وتركها هي بلا نادر.

عبث أسألك [الجزء الأول من سلسلة حد العشق]حيث تعيش القصص. اكتشف الآن