خريف العمر البارت الأول

61 0 0
                                    

لا شيء في الحياةِ يمرّ كأنَّه لم يكن.. حتى عثراتنا الصغيرة وأخطائنا التي  تناسيناها ستعودُ - يوماً - باسطةً كفيّها لتأخذ الثمن..
وما حياتُنا إلا كبحرٍ ساكنٍ حيناً،  وثائرٍ أحياناً، وبين هذا وذاك نحنُ في مُعتركٍ مع ذاتنا والحياة.. نُصارع.. نقاتل.. نستسلم.. نُهزَم.. نقع.. ثمّ نقومُ من جديد.. تتناوب علينا الفصول و تُطاردنا الذكريات حتى تناسينا أحلامنا و أنفسنا حتى أصبحت غايتنا إدراكُ شاطئ الأمان...
ليا في بداية ربيعها الواحد والعشرين، فتاة بيضاء البشرة، شديدة الجمال ذات عينان بنيتان و شعر طويل حالك الظلام، ذات قوام ممشوق، ليا الوحيدة لوالديها، كانت مُدللة جداً، لكنها كانت تتمنى لو كان لها أختٌ او أخٌ كبقية رفيقاتها، لكن ظروف والدتها الصحية لا تسمح بالأنجاب، كانت حياتها مثالية؛ فهي محبوبة من قِبل الجميع، كانت بريئة وخجولة وإبتسامتها جميلة كإبتسامة الأطفال، تخرجت ليا من معهد الحاسوب التقني بمعدل إمتياز؛ شاركها الجميع فرحتها و أهداها والدها سيارة حديثة الطراز ووعدها بأنه سيوظفها معه في شركة الأجهزة الكهربائية لإدراة الحسابات، في ذات ليلة، كانت ليا تجلس في صالة المنزل، و سمعت صوت والديها يتشاجران، لم تعرف سبب الشجار لكنها سمعت والدها يقول: سأخبرها الأن لأنني لا أعرف هل سأعيش أم أموت بعد إجراء العملية! دخلت ليا على والديها، إلتزما الصمت عندما رآها؛ فقالت: ما الذي يحدث؟ لماذا تتشاجران؟
أجابتها أُمها: لا شيء يا أبنتي أذهبي للنوم.
والدها: أود أخباركِ بشيء مهم تعالي معي إلى غرفتي.
ليا: حاضرٌ أبي.
أمها: لن تخبرها بشيء! أياكَ أن تخبرها!
والدها: سأخبرها الأن فقد رتبت كل شيء؛ وصيتي و الإرث.
أم ليا: منذ سنين و أنت تبحث عنه أن كنت تريده منذ البداية لما تخليت عنه؟
ليا(بتفاجأ): من الذي تبحث عنه يا أبي؟ عن ماذا تتحدثان، أخبراني!.
_تعالي معي يا أبنتي؛ سأخبركِ بكل شيء...
ذهبت ليا مع والدها الى غرفته، ومئات الأفكار تراود رأسها، دخلت الغرفة معه و جلست أمامه، وبادرته بالقول: ما الأمر أبي؟ أخبرني.
_سأخبركِ بكل شيء منذ البداية، و أتمنى منكِ يا أبنتي العزيزة أن تفهميني جيداً، و الأ تتغير نظرتكِ إليَّ بعدما سأقوله.
_لن تتغير نظرتي أليك يا أبي، فقط أخبرني ما الأمر؟
_حسناً، القصة بدأت عندما كنتُ في مرحلة الشباب، كنت أعمل مع أبي في إدارة الشركة و كنت معجب بأمكِ كثيراً، وكنت أُفكر بوقت مناسب للأعتراف لها، وطلبها للزواج، لكن في ذلك الوقت قمت بصفقة خاسرة ولامني أبي ووبخني كثيراً، كنت منزعجاً جداً حينها فذهبت مع أحد أصدقائي الى أحد النوادي الليلية لأرفه عن نفسي، و كانت هذه غلطة حياتي فأنا لم يسبق لي الذهاب من قبل لأماكن كهذه، ثم..."صَمَت"
_ثم ماذا يا أبي؟ أكمل، ما الذي حدث؟
_كنت مخموراً في تلك الليلة و أخطأت مع أحدى فتيات الهوى، ثم بعد شهرين، وفي الوقت الذي نسيت مافعلته في تلك الليلة، جائت تلك الفتاة وأخبرتني بأنها حامل بطفلي، و أن عليَّ الزواج منها.. "صَمَت"
تفاجأت ليا بما سمعته؛ لأن والدها كان مثالاً وقدوة لها في الوقار والأخلاق، كيف له أن يفعل ذلك؟!
تنهدت و بالكاد قالت: أكمل أبي، ماذا حدث بعد ذلك؟ هل تزوجتها؟
_كلا؟ مستحيل أن أتزوج فتاة مثلها كانت تسعى وراء المال، أعطيتها مبلغاً كبيراً من المال، و قلتُ لها أن تجهض الطفل، و أن لا أرى وجهها بعد ذلك، لأنني في ذلك الوقت أعترفتُ لوالدتكِ بحبي وإتفقنا على الخطوبة، و بعد ماحدث تعجلت بالخطوبة و بعد 6 أشهر تزوجنا أنا و أُمك، ِ و كنا في غاية السعادة لكن بعد شهرين تقريباً، عادت تلك المرأة اللعينة وهي تحمل طفلاً عمره شهر أو أكثر بقليل، لم أكن مهتماً آنذاك، كنت شديد الغضب؛ لأنها قالت لي: إنه طفلي وعلينا الزواج و أنني يمكنني إجراء التحليلات لإكتشاف أن كان طفلي أو لا؟ لكنني رفضت، حتى لو كان طفلي حقاً لن اقبل به، لن اعترف به، أخبرتها بأن تأخذ الطفل، و تذهب بعيداً؛ لأنني متزوج، كانت تظن بأنني لازلت عازباً حتى تتزوج مني، هددتها بالقتل و فقدتُ أعصابي وقمت بخنقها بكلتا يدي، تخيلتُ بأن حياتي و سعادتي مع أمكِ سَتُهدم..."صَمَت"
_و ماذا حدث بعد ذلك؟
_بعد ذلك شَعرتْ بالخوف،  رأيتُ الخوف في عينيها، ثم أخذت الطفل، و غادرت، و لم أرى وجهها حتى هذا اليوم.
_ألهذا السبب كنت تتشاجر مع أمي؟
_نعم لأنني أُريد البحث عن إبني.
_أُبنك؟؟!!! ألم تقل بأنه ليس إبنك؟
_أنه أبني! عندما أحضرت الطفل لي، أردت خنقه لكنني تراجعت؛ عندما رأيت عينيه البريئتين تنظران إليَّ، ثم سحبت شعرة ناعمة من رأسه دون أن تنبته تلك المرأة، و عندما غادرت خبأتها في منديلي و بعد عدة أيام أجريت تحليل و أتضح بأنه أبني 100%..
_لكن يا أبي لماذا لم تبحث عنه في ذلك الوقت؟ لماذا الأن؟
_لأنني لم أخبر أي شخص في ذلك الوقت، لأنني كنت خائفاً أن أخسر أمكِ حُب حياتي، كُنا في بداية زواجنا و حياتنا، لذلك قررت أن أبحث عنه في وقت لاحق، بعد ذلك إفتتحنا فرعاً جديداً لشركتنا في العاصمة، وكان عليَّ أدارتها بنفسي، و قبل أن ننتقل سألتُ عن تلك المرأة في النادي الليلي و أخبروني بأنها تركت العمل منذ مدة طويلة، ثم سألتهم عن مكان أقامتها و أخبروني بأنها كانت تسكن في أطراف المدينة فقط، و لا يعرفون عنوانها،لم يكن لدي الوقت لأبحث عنها و إنتقلنا الى العاصمة، ثم بعد عدة أشهر حملت والدتكِ بكِ و عندما ولدتكِ أصبحتِ كل حياتي، خاصة أن والداتكِ لم تستطع الأنجاب بعدها، لكنني كنتُ طوال الوقت أتسائل أين يعيش إبني و كيف حاله؟ هل لازال يعيش مع تلك المرأة؟ أم تخلت عنه؟ حتى  أنني لا أعرف إسمه، هذه كل القصة يا إبنتي، و قررتُ أنني إذا خرجتُ سالماً بعد العملية سأبحث عنه، و سأعوضه عن كل لحظة عاشها بدوني، أتمنى الإ يزعجكِ أو يجرحكِ هذا الشيء، وأعلمي بأنكِ الأغلى في حياتي وأحبكِ كثيراً.
_أنا أتفهمك تماماً أبي و شكراً لأنك حافظت علينا أناو أمي، لكنني أعتب عليك بشيء.
_ماهو؟
_لماذا لم تخبرني منذ وقت طويل عن أخي؛ لبحثنا عنه أنا و أنت.
_حقاً!! أنا أشعر بالسعادة، خبئتُ الأمر عنكِ لأنني ظننت بأنكِ ستنزعجين و تكرهيني و أصغر بنظركِ، و أمكِ كانت تقول لي أن أخبرتها سآخذها ونرحل عنك.
_كنتُ أتمنى دائماً بأن يكون لي أخ او اخت، وأنتَ تعلم هذا يا أبي.
_أذاً؟ هل تَعديني يا أبنتي بأن تبحثي عنه في حالة أن حصل لي شيء أو مُت بعد العملية؟
_لا تقل ذلك يا أبي ستنجح العملية وستكون بخير و سنبحث عن أخي معاً و سنجده و نعيش بسعادة، كم أنا متشوقة لرؤيته قلبي ينبض بالسعادة.
_حمدلله لم يخِب ظني بكِ يا أبنتي الرائعة، أنا في غاية السعادة، أنتِ مكسبي الوحيد في هذه الحياة...
بعد يومين في المستشفى، ودّع والد ليا إبنته وزوجته، وبعدها رافق الممرضين إلى غرفة العمليات، جلست ليا على الكرسي في صالة الإنتظار تفكر في كلام والدها قبل يومين، بدأت تتخيل أن والدها سيتعافى ويذهبان معاً للبحث عن أخيها المجهول، سرحت بخيالها كثيراً وبدأت تتخيل ملامح وجهه، تنهدت بعمق وقالت بصوتٍ خافت" ساعده يارب" بعد مرور عدة ساعات من الإنتظار، خرج الفريق الطبي من صالة العمليات، إستوت واقفةً مع والدتها وقالت بلهفة: طمئنا دكتور  هل أبي بخير؟
رد عليها الطبيب بتعب: لا أعلم، لقد أنهينا العملية ولاشيء واضحٌ حتى الآن، من هُنا إلى نهاية اليوم إذا لم يصحو فهذا يعني أنه دخل بغيبوبة، علاماته الحيوية مُنخفضة، وهذا سيءٌ نوعاً ما، قُمنا بما نستطيع، أدعوا له.
ردت عليه بدموع تتلألأ: سنفعل بالتأكيد... مضى ذلك اليوم على ليا بساعاتٍ طويلة قضته تدعو لأبيها بالشفاء وتذهب وتعود من وإلى قسم الإنعاش، مرَّ يومان والوضع كما هو عليه، كانت نائمة على الكرسي قُرب قسم الإنعاش حين سمعت جلبة أيقظتها من نومها الخفيف، نهضت بسرعة وتوجهت الى داخل القسم، أمسكتها ممرضة ومنعتها من الدخول إلى غرفة والدها صرخت بها ليا بقوة: ما الذي يحدث اخبريني، أتركيني أريد أن أرى ابي، قلتُ اتركيني ألا تسمعين!؟
هدئتها الممرضة قائلة: إهدأي يا آنسة، الأطباء في الداخل ولايُسمح لكِ بالدخول، عندما يخرجون إسأليهم وسيجيبوكِ.، هدأت قليلاً وظَلت واقفة مكانها وهي بقلق عارم، خرج الأطباء منكسي رؤوسهم  فبادرت ليا بخوف: ماذا؟ ماذا حدث؟ ما الذي حصل؟ ليخبرني احدكم.
قال لها أحد الأطباء بأسى: فعلنا مابوسعنا، البقية في حياتكِ.
_ ماذاااا؟؟! لا! هذا مستحيل أبي لن يموت، لقد وعدني أن نبحث عن أخي سويةً، لا لا أبي لن يموت،
ظنت أنهم يمزحون معها او يسخرون، لكنها كانت مخطئة، فمن كان يظللها بجناحيه فارق الحياة ولم يعد له وجود في عالم الإحياء، سقطت على الارض مع أنهمار دموعها وحشرجة صوتها "أبــي!"..

مرت ايام العزاء عصيبة عليها، كانت تعيش صدمة قوية، فهي لم تحسب حساباً لفقد ابيها إطلاقاً، وكلماته الأخيرة برأسها حتى الآن: " ليا حبيبتي، إعتني بامكِ إن حدث لي شيء، وإبحثي عن اخيكِ وإعتذري له نيابة عني عن كل الالم الذي رآه طوال حياته...!"

قررت أن تبدأ بتنفيذ وصية والدها ليرتاح في قبره، ذهبت إلى أُمها لتفاتحها بالموضوع، حدثتها عن فكرتها فأجابتها بحدة:أجننتِ! تبحثين عنه؟
_نعم يا اُمي؛ لأنني وعدت والدي بذلك.
_وعد ماذا يا غبية!؟ والدكِ أصبح خرفاً قبل موته، دعكِ من كلامه و رافقيني الى الشركة و ساعديني في العمل.
_كلا يا أمي لن أعمل و لن أرتاح حتى أجد أخي.
_أخ ماذا يا غبية؟! أنتِ ليس لديكِ أخوة و من سيصدق أن أبن تلك المرأة اللعينة هو أبنه حقاً.
_أبي أخبرني بأنه أجرى تحليل DNA و متأكد من ذلك و أعطاني نتيجة التحليل، و شعر من رأسه في ظرف أن أحتجت له.
_أن الأمر أشبه بمن يبحث عن أبرة في كومة قش.
_سأذهب يا أمي الى المدينة و أطرافها و اسأل عن تلك المرأة فقد كتب لي أبي اسمها الكامل ربما أن سألت عنها الجيران سيعرفون أين هي و أين اخي.
_ستجلطيني بكلامكِ وأفعالكِ يا غبية أنا أريد مصلحتكِ، اسمعيني جيداً يا أبنتي أن حدث و وجدته سيأخذ نصف الميراث و ربما أكثر و أنا التي تعبت و شقيت مع والدكِ نحن أحق بالميراث و بما أن لا أحد يعرف شيئاً عن هذا الموضوع لنبقيه سراً بيننا للأبد.
_هذا حقه يا أمي ثم أن أبي كتب في وصيته السرية عند المحامي كل شيء.
_و ماذا عن سمعتنا و سمعة والدكِ بعد موته، أن يظهر له ولد من بائعة هوى.
_لا أحد سيعرف بذلك الأ اذا تكلمت أنا أو أنتِ، سنخبرهم بأنه كان متزوج بالسر و توفيت زوجته أو أي شيء في ذلك الوقت.
_تباً، عنيدة كـ والدكِ، ليكن في علمكِ أن أطراف المدينة يعيش فيها العصابات و المرتزقة و والناس السيئة و أنا لا احتمل فكرة أن تذهبي الى هناك لتبحثي عن شخص ربما غير موجود أصلاً، لن أسمح لكِ بالذهاب.
_لا تقلقي يا أمي لن أتعرض لسوء فأنا لستُ طفلة، سأكون في ربيعي الحادي والعشرون قريباً.
_لن أسمح لكِ بالذهاب، حُسمَ الأمر (تغادر)..
_أنتظري أمي..

خريف العمر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن