لعدة سنوات كنت أتابع ذلك الشيخ العجوز الذي قارب عمره الثمانين فلا أكاد أنظر إلى الشارع قبل وقت الأذان بدقائق إلا و أراه متوكئا على عصاه في طريقه إلى المسجد و قد رسمت على وجهه إبتسامة هادئة .كانت تراودني بعض الأسئلة الممزوجة بالخجل، و لكن سرعان ما كانت تواجهها مجموعة من الأعذار الدقيقة فتتلاشى هذه الأسئلة و يتلاشى معها الخجل، و أحيانا كنت أعود فأنظر إلى الشارع مرة أخرى فأجد هذا العجوز في طريقه لبيته يلقي السلام على جيرانه ؛ فأنظر إلى ساعتي متعجبا و أتذكر أحد الأعذار التي جالت بخاطري قبل الصلاة :
"إنك مشغول فلتصلِّ عندما تنتهي"فأتساءل هل حقا كنت أقوم بعمل مهم خلال هذه الدقائق ؟! حتى وإن كنت، ما يضر هذا العمل إن قطعت منه بضع دقائق !! فأنتظر تلك العاصفة من الأعذار الدقيقة والإجابات المقنعة حتى تواجه هذه الأسئلة، ولكنها لم تأت !! كانت تأتي فقط قبل الصلاة وتختفي بعدها ؛ فتتركني في صمت عال، سكوت ظاهري وضجة داخلية، لقد فاتتني صلاة !!!
و كم أيقظتني طقطقة عصا ذلك الرجل الأنيق المرح ءوهو في طريقه ليؤذن لصلاة الفجر، وما كنت أعلمه أن للمسجد إماماً يبيت فيه ويؤذن لكل صلاة إلا أنه يترك أذان الفجر لذلك الرجل.
لعدة سنوات كنت أسمع طقطقة تلك العصا، لا يمنعها برد ولا مطر، تمر السنون وتتبدل الأحوال وما زالت تلك العصا توقظني، وكلما ايقظتني واجهتها عاصفة من الأعذار التي تبدو منطقية فأغرق في سباتي موافقا أعذاري.
اقنعتني نفسي أن ذلك الرجل اعتاد أن يسهر حتى الفجر وينام بعده؛ فهو لديه عمله الخاص ولا يطلب منه ان يستيقظ مبكرا؛ لذلك كان من السهل عليه أن يحافظ على صلاة الفجر لكل هذه السنوات، أما أنا في الدراسة والجامعة ثم العمل كانوا أهم حججي لسنوات، وكلما ثارت نفسي كنت اطمئنها بأن "يوما ما" سأفعل.
حتى جاء يوم سألت فيه ذلك الرجل عن عمله وطبيعة يومه فعرفت أنه لا يسهر للفجر كما ظننت، بل ينام متأخرا لطبيعة عمله ومع ذلك يستيقظ كل يوم بعد سويعات نوم قليلة ليؤذن لصلاة الفجر.
لم تجادلني نفسي هذه المرة فلا عذر لها، ومع فجر اليوم الجديد بعد أن هممت للصلاة، همست إلى نفسي "انه فضل الله يؤتيه من يشاء، يوما ما سيهديك الله" ؛ فغرقت في سباتي وقد فاتتني صلاة!!لعدة سنوات كنت أرى ذلك العامل البسيط لا تفارق الإبتسامه وجهه، وكلما نظرت اليه شعرت بالرضا، كانت رؤيته تبعت الطاقة الايجابية بداخلي، مجرد أن يسمع الأذان يغلق دكانه ويسير في خطى هادئة إلى المسجد.
في المرات القلية التي زرت فيها المسجد لاحظت إنه يتوضأ ويأخذ مكانه بجانب الجدران و يصلي ركيعات قبل الإقامة، و لكنها لم تكن صلاة، بل حالة !! حالة من العشق بينه وبين ربه، صلاة مختلفة، كنت أسمع له أنينا خافتا فيثير في نفسي فضولا و غبطة.
كان منغمسا في صلاته وكأنه لا يرى احدا هادئا مطمئنا خاشعا، كان يستغرق في الركعة الواحدة الوقت الذي يستغرقه غيره لأربع ركعات، يطيل الركوع والقيام بعد الركوع والجلسة بين السجدتين.
تسائلت في نفسي: ماذا يقول؟ أيعرف اذكارا لا يعرفها غيره؟ أحببت صلاته، وتمنيت أن أصلي مثله، ولكني لم أستطع، لم يكن الأمر سهلا كما اعتقدت، لم أعرف لماذا فسرعان ما يئست وعدت كما كنت، فاتتني صلاة بعد صلاة!!
لعدة سنوات كنت أتابع هؤلاء وفي نفسي سؤال كثيرا ما كنت افكر فيه وأسأله:
لماذا يحافظ بعض الناس على الصلاة لهذه الدرجة في حين لا يستطيع الكثير حتى أن يصلي صلاة واحدة؟؟
ما السر في هذا؟ وهل حقا هذا أمر لا دخل لنا فيه، يؤتيه الله من يشاء ولا يؤتيه لمن يشاء. ولو كان الأمر كذلك، فلماذا سنحاسب على الصلاة أول ما نحاسب؟! لو كانت الصلاة أمر إلهي لا دخل لنا فيه لماذا إذا هذا الثواب والعقاب بشأنها ؟كل هذه التساؤلات كانت بداخلي، لذلك كان لابد أن أبحث عن إجابة لها
فكرة إنني يمكن أن أودع هذه الحياة وليس في صحيفتي سوى ركيعات قليلة كانت تزعجني وتؤلمني.قررت أن أسأل هؤلاء الذين نادرا ما فاتتهم صلاة؛ لأتعرف على أسرارهم، أيضاً درست سير عادات الناجحين في حياتهم بشكل عام، فوجدت تشابها كبيرا بين صفات وعادات الناجحين في المحافظة على الصلاة وبين الناجحين في حياتهم ممن غيروا الواقع وتركوا بصمتهم.
وها أنا أكتب لكم هذا الفصل بينما أجلس في مكتبي استمتع بتناول قهوتي بعد ان استقبلت يومي بصلاة الفجر في وقتها. تلك العادة التي كانت لها الأثر الأكبر في حياتي.
أنت تقرأ
فاتتني صلاة !! لـ ( إسلام جمال )
Spiritualitéلماذا يحافظ البعض على الصلاة ... بينما يتركها الكثير ؟ تعرف على أسرار هؤلاء الذين قلما فاتتهم صلاتهم (إسلام جمال)