الفصل الخامس

670 27 2
                                    

🌲5-لقاء الماء والنار🌲

تنهدت ستاسي وهي تسند رأسها إلي الوسادة , وتربت بحنان علي الكلب الراقد بجانها , بينما انسلت موجات شعرها البني في إهمال حول عنقها ملامسة حافة ردائها بلونيه الأصفر والبرتقالي .
وبقليل من المساحيق , أخفت ستاسي احمرار أنفها , أخر علامات نوبة البرد التي هزت كيانها بالحمى في الأسبوع الماضي , ولكنها شفيت سريعا نظرا لجهود دكتور بوكانان الذي عالجها فور ظهور علامات المرض.
كانت ستاسي مشغولة بالمناظر المحيطة بها خارج المنزل , حتى أنها لم تسمع وقع الخطوات الوئيدة علي أرض الشرفة الحجرية حين اقتربت منها وفي الحال تعرفت عليها , ألم تنصت لسماعها خارج غرفتها طوال الأسبوع الماضي ؟ إنها خطوات كورد هاريس. ونظرت إليه فإذا به ينظر إليها. جالت عيناها بقميصه الأزرق ذي الرقبة العالية الذي يبرز عرض منكبيه إلي وسطه النحيل. كان يرتدي بنطلونا اسود وحذاء عاليا. فأدهشتها أناقته غير المعهودة، وهي اعتادت رؤيته بثياب المزرعة. وكانت تعلم أن معظم الرجال الذين يعملون في الهواء الطلق، لا يستريحون إلا في ثيابهم العادية. كما لاحظت عدم وجود أثر للفح الشمس عند نهاية خط القبعة، أو بداية كم القميص مما يدل علي انه يسبح كثيرا في مياه الغدير.
واحمر وجهها لإحساسها بأنها كانت تتفحصه , بينما مد لها يده بكوب من الشراب المثلج . فأخذته بخجل وهي تلمح ابتسامته الحائرة , ولكن كورد لم يعلق علي نظراتها بل جذب كرسيا وجلس بجانبها . وقال برقة :
"تبدين بصحة جيدة . أرجو أن يروقك الشراب".
" أشكرك , إنه طيب"
شعرت بقربه منها , وشمت رائحة عطر الحلاقة الذي يستخدمه وهو يقول:
" شعور جميل أن يخرج الإنسان بعد طول بقاء داخل البيت ".
قالت ستاسي بعصبية وهي تشعر بحاجتها للاستمرار في الحديث:
" نعم . أن لديك منظرا جميلا هنا . لا بد أنك فخور بمنزلك ".
" ألا يضايقك قدمه ؟"
صاحت وعيناها تتسعان :
" لا . إنه جميل , لا بد أنك قمت بالكثير من التجديدات"
قال مبتسما :
" نعم . كان البيت الأول يشمل هذا الجزء . وكان يستخدم لرد هجمات الأعداء . وقد ألغيت الجناحين الجنوبي والغربي . وحتى ألان أعتقد أنه أوسع من احتياجات رجل عازب"
نظرت ستاسي لجدران الطوب النيئ البيضاء قائلة:
" ولكنه سيكون بيتا مثاليا عندما تتزوج وتنجب".
قال ببرود وتباعد وقد ركز انتباهه علي الجبل البعيد :
" بلا شك ".
تلعثمت قائلة :
" كنت أعني أن حجمه ..."
" أفهم ما تقصدين يا آنسة آ دامز , ولكني لا أتوقع تحقيق هذا في المستقبل القريب".
بالطبع كان يشير إلي سوء حظه في حبه للفتاة التي حدثتها عنها ماري .
فقالت ستاسي بتفاؤل :
" لا تعلم . ربما كانت هناك الكثير من الفتيات اللواتي يحرصن علي تغيير رأيك ".
رفع حاجبيه قائلا :
" هل أنت إحداهن ؟"
قالت بشيء من الغضب :
" لم أكن أشير إلي نفسي".
" أن الزواج من رجل يملك هذه الأرض الشاسعة, يبدو شيئا رومانسيا ولكن الحقيقة شيء مختلف تماما . فهذه الأرض شاقة تتطلب الكثير حتى في عصرنا المتقدم . فساعات العمل طوال ولا يمكن التنبؤ بالنتأيج . وعلي الزوجة أن تبقي بمفردها وقت طويلا . ولا يوجد نوع من التسلية إلا في مناسبات اجتماعية قليلة . ولا توجد المتاجر الضخمة التي تعودت عليها . فإذا أردنا التسوق ذهبنا لإلي سان أنطوان أو الباسو . صعوبة هذه الحياة أكثر من أن تتحملها فتيات المدينة".
وقفت وقد احمر وجهها وأجابت :
" لم أتقدم لشغل هذه الوظيفة يا سيد هاريس ".
وقف وأخذ بيدها في اتجاه البركة , وعيناها تلمعان ثم قال:
" نادني باسم كورد فقط , تعالي هنا . أريد أن أريك شيئا".
قالت بصبر نافذ :
"ما هو؟"
أنبها بسخرية قائلا:
" حقا يا آنسة آدمز , كنت أظن أنك تعلمت أن تتقبلي شيئا من المزاح".
" قابلت رجالا أنانيين يصور لهم غرورهم أن كل النساء سيقعن عند إقدامهم".
" وأنا قابلت نساء يشعرن أنهن استجابة دعاء كل رجل وأن عليه أن يستسلم لسحرهن ".
وصلا للجانب الآخر من البركة , ووقفا وجها لوجه في تحد . وتكهرب الجو بهذا التحدي الصامت . وقال بصوت خفيض وهو ينظر للأفق :
" لن يجدي الاستمرار في هذا الموضوع . لكل منا رأيه الخاص".
" بالضبط . والآن أرني ما أردت أن تريني إياه حتى أعود لغرفتي".
" لن تهتمي ".
سألت في فضول بالرغم من ضيقها به وبعجرفته :
"ماهو؟"
أجاب بسخرية وهو يدير لها ظهره:
" مجرد مقبرة العائلة. أنا واثق من أنها لن تعجب ذوقك الرفيع".
" أود أن أراها".
أجاب كما لو كانت ستاسي تعتذر:
" ليس ضروريا ".
" سيد هاريس . إن آخر ما أريد هو أن أتذلل لك . قلت عاينا أن تنسي عداءنا ونصبح صديقين , ولكن غرورك الجريح لا يفهم إلا الوفاء الأبدي . والآن أريد أن أري المقبرة , فإذا لم تشأ اصطحابي صف لي مكانها لأذهب وحدي".
كان صوتها لاذعا , فاستدار إليها كورد ليتأكد من صدق رغبتها في الذهاب وقال:
" إنها قريبة من هنا , ولكنها علي مرتفع ولا أريدك أن تجهدي نفسك في أول مرة تخرجين فيها, ربما ينبغي أن نؤجلها".
وأضاف عندما رأي اعتراضها :
" ولكن إذا كنت واثقة أنك تريدين الذهاب سأصحبك ".
" إني واثقة".
" حسنا "
رفضت أن يأخذ بيدها في المسير إلي حيث أشار وهو يتبعها , لهثت ستاسي بالرغم من الارتفاع البسيط , ولكنها تجاهلت لمعة السخرية في عيني كورد واتجهت نحو الباب الحديدي .
تضاءلت الصلبان وأحجار المقابر إلي جانب النصب الكبير في الوسط. وكان المكان معتني به بالرغم من قدم معظم المقابر . فقد طليت التركيبات الحديدية حديثا بطلاء أسود , ولم تترك لتصدأ . وكست الحشائش الخضراء المقابر برقة . وفتح كورد الباب فدخلت ستاسي
وقفا قرب الوسط كانت معظم التواريخ في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . وأشارت أربعة صلبان صغيرة إلي مقابر أطفال . وكان تاريخ أحدث المقابر منذ ثماني سنوات وكتب عليه , ستيفان هاريس الأب .
سألت ستاسي بهدوء وكلمة الأب تكسو صوتها بالحزن :
" أهذا قبر والدك؟"
"نعم "
" لم ألحظ وجود قبر والدتك . أهي مدفونة هنا؟"
" إنها مدفونة مع عائلتها . لم تتحمل حياة المزرعة ومتطلباتها , وعادت لعائلتها بعد ولادتي بسنين قليلة ".
كان صوته سريعا وعيناه جامدتين.
سألت ستاسي وقد رق قلبها للرجل المتوفى , وابنه المهجور :
" تركتكما ؟"
قال وعيناه ترفضان عطفها:
" لم يعطها والدي أي خيار , أشك أنك ستفهمين, هذه أرض صعبة ويجب علي المرء أن يأخذ ماله ويحارب للحفاظ عليه .كانت أمي طفلة مدللة معتادة وجود من يخدمها , ولم يكن المستقبل المأمول يعني لها شيئا , كانت تريد كل وسائل الترف التي اعتادتها , فلم تكف عن مطالبتها لأبي للحصول علي اهتمامه وماله . ولم يكن هناك ما يكفيها من أيهما".
همست ستاسي بذكاء :
"كانت الأولية للمزرعة !"حدثنيسألها كورد وهو يشير للنصب المركزي :
" أترين هذا الشاهد ؟ إلينا تيريزا هاريس جدتي . كانت نبيلة أسبانية , أحبت جدي الذي كان مزارعا مكافحا في تلك الآونة , وكانت أملاكه كثيرة . أما هي فكانت امرأة بحق . م يكن لديه ما يقدمه لها سوي منزل حجر قديم من ثلاث غرف . وبعض رؤوس الماشية , وأرض شاسعة وجافة في معظم الأوقات ولكنها لم تنزعج لهذا ".
كان صوته يفيض احتراما وإعجابا وهو يتحدث . ثم خطأ للأمام في تلك اللحظة . وفتح الباب لستاسي ثم تبعها للخارج . وقبلت أن يأخذ بيدها لانهماكها في الحديث وهما يسيران إلي حافة الهضبة المطلة علي فناء البيت . وأشار كورد بيده الأخرى إلي الجبال الغريبة وقد كساها الشفق باللون البنفسجي :
" كان هنود اآباتش من قبيلة ماسكاليرو يستخدمون هذا الجبال كحصن يغيرون منه كما يشاءون علي المستوطنين وصغار المزارعين . ويقع أثر حرب الكومسانشي قريبا من هنا أيضا . وقد انتهي تهديد الهنود عند بداية هذا القرن , وامتلأت هذه المنطقة من الغرب بمربيي الماشية طلبا لهذه المراعي الغنية بالحشائش . ولكن معظم المستوطنين جاؤا بماشية أكثر من احتمال الأرض .أي رعتها الماشية أكثر مما يجب ولذا انتشرت الصحاري في هذه البلاد ".
لفعت ستاسي وجهها باهتمام قائلة :
" ألا يمكن إعادة زراعتها ثم تترك لتنمو ثانية ؟"
" فات أوان الاستصلاح , فإما أن تحمل الريح التقاوي بعيدا عن هنا أو لا ياتي المطر عندما نحتاجه , أو يجرف التقاوي قبل أن تعمق جذورها . إن الجهل والطمع أكثر ضررا علي المستقبل من ضررهما علي الحاضر. ولكن أبي وجدي فهما هذا وعلي أن أشكرهما لما لدي الآن لأكثر من سبب".
ابتسمت ستاسي قائلة :
" لا بد أنك فخور جدا بهما . لقد تغيرت أمور كثيرة منذ أيام جدك ".
قال كورد وهو يضحك ضحكة خافتة :
" لقد كان مربي بقر وسيتقلب في قبره أذا رأي الغنم ترعي في أرضه"
"غنم ؟ هل تربي غنما ؟"
" نعم , إن لي عدة مئات من الرؤوس المسجلة في المراعي العالية".
" ألا تربيها مع الأبقار ؟"
" أحيانا . عادة في الصيف , عندما ننقل الأبقار للتلال . ولدينا أيضا ماعز الأنجوراه , ولكنها في طور التجربة في مزرعتنا . هناك عدد كبير من المزارعين الذين نجحوا في تربيتها . وهناك أيضا الجياد , لدينا مجموعتين فريدتين ونأمل في إنتاج كبير فقد ضاعفت عدد الإناث , وفي كل ربيع نقيم مزادا لبيع الصغار , في سن عام أو عامين , التي نستغني عنها والكبار التي نود استبدالها بدم جديد ".
قالت ستاسي بتأمل وقد راعها حجم عمليات المزرعة :
" لم أكن أعرف أن لك كل هذه المشاريع المختلفة . أعتقد أن هنا آبار بترول أيضا في المزرعة"
ضحك كورد بهدوء للانبهار الذي بدا علي وجهها وقال:
"لا تكتمل مزرعة متحضرة في تكساس دونها , أن لدين أربعة علي الحدود الشرقية , اثنان منها فقط لا تزالان تنتجان . ومعظم أرض المزرعة تقع خارج المنطقة المنتجة للبترول ".
" بدأت افهم معني لفظ بارون الأبقار ".
حذرها قائلا :
" لا تظني من كبر حجم المشاريع أن الحياة هنا سهلة , فكلما تفرعت مشاريع المزرعة كلما ازدادت عبء العمل , وازدادت صعوبة السيطرة عليها ".
وتجهمت ستاسي لكلماته . كان من الصعب عليها أن تتصور هذا الرجل القوي فاقدا سيطرته علي المزرعة . كان واثقا مما يريد لدرجة أنه يمنع أي شيء م الوقوف في طريقه .
وقال كورد وقد رأي سيارة تقف خلف المنزل بعيدا عنهما :
"يبدو أن سيارة الدكتور بوكانان قد وصلت , ويحسن بنا أن نعود كما أن ماريا ستجهز العشاء بعد وقت قصير"
"وأومأت ستاسي بالإيجاب وتبعته عبر المنحدر . وعندما بلغا شرفة المنزل وجدا وجه الطبيب الشاب باسما تحية لهما . وكانت مفأجاة سارة لستاسي عندما وجدت أن ماري زوجة الطبيب قد رافقته. خطت إليها المرأة السعيدة ذات الشعر الأحمر وذراعاها ممدودتان .
صلحت ماري وهي تشد علي يدي ستاسي بحرارة:
" تبدين رائعة".
ثم أضافت مداعبة في صوت خفيض :
" قولي لي يا ستاسي هل أنتما علي وفاق ؟إني لا أري أثر لجراح المعركة ..."
أجابت ستاسي ضاحكة :
" لقد تصالحنا , كورد وأنا . أليس كذالك؟"
ثم أضافت وهي تنظر لكورد الواقف إلي جانب الطبيب :
" لقد وجدنا بعض الأشياء المشتركة بيننا ".
كان المزارع هو الشخص الوحيد الذي فهم إشارتها لحديثهما السابق عن رأي كل منهما في الآخر. قابلت عينيه الداكنتين ببرود وهي تمنع شفتيها من الابتسام بصعوبة. ولكن ماري استنتجت اشياء مختلفا تماما، وفي ذهنها احتمال أقدامهما عل الزواج.
علق بيل بوكنان:
"هذه أخبار جديدة. لقد كنت في اشد العجلة للرحيل في آخر مرة جئت فيها هنا"
و أضاف قائلا لكورد وعلي وجهه الصبياني ابتسامة:
"ربما كانت مريضتي تعاني من نكسة"
وأجاب كورد مبتسما:
"اعتقد أنها بدأت تحس بوجود بعض الأشياء الجذابة هنا. ففي وجود فتاة جميلة مثل ستاسي ينبغي لي أن أقوم بدور المرشد، لمنع الشبان من الوقوع تحت تأثير سحرها".
لاحظت ستاسي كيف شدد كورد علي اسمها حين نطقه. وقد فهمت انه لاحظ استعمالها لاسمه الأول، وتعمدت أن تقابل نظرته المتهكمة وكلماته اللاذعة.
لم تستطع ستاسي أن تفسر لنفسها سبب اشارتها للكلمات الغاضبة التي جرت بينهما من قبل. لقد استمتعت بصحبته عل التل وبالحديث الغني بالمعلومات. لماذا إثارته بكلماتها؟ هل تشعر أكثر بل أمان مع كلماته المتهكمة وابتسامته الساخرة؟ وتعمدت أن تغير موضوع الحديث إلي الحديث عن طفلي ماري . وأحست عدة مرات بعيني كورد تتأملان وجهها ولكنها تجنبت النظر إليه .
حاولت ستاسي أن تخفي اضطرابها لقرب كورد منها, فقالت بصوت خفيض:
"اخشي إن نكون مضيفين سيئين ياكورد. فحن لم نقدم للدكتور ماري أي مشروب".
وبلا أي سبب ارتفعت يدها لتمسك زراعه
رماها كورد بنظرة دهشة ولكنه كتم تلك النظرة سريعا بابتسامه لضيفيه بينما أبعدت ستاسي يدها بخجل.
"سأطلب من ماريا ان تحضر لنا شياء. أهناك شيء خاص تفضله يابيل وأنت ياماري "
ضحك بيل قائلا:
" لا. أي شيء بارد في كوب كبير".
تركهم كورد لإحضار المشروبات. واثنا غيابه جلست ماري وزوجها علي كرسيين من كراسي الحديقة، بينما جلست ستاسي علي اريكة ذات وسائد، وعاد كورد بعد بضع دقائق تتبعه المكسيكية البدينة وهي تحمل صينية المرطبات، واغتاظت ستاسي عندما جلس كورد علي الأريكة إلي جانبها.ولكن الضيفان لم يلحظا غيظها في غمرة توزيع المرطبات بينما ظهرت من ابتسامة كورد انه لاحظ ضيقها.
اتخذ الحديث طابعا خفيفا مما أراح ستاسي, ولكنها أحست عدة مرات بعدم ارتياح لإدراكها إن العينين البنيتان تراقبانها, وضايقها قربه منها , واحتكرت ماري الحديث بشخصيتها الحيوية, وأخذت تروي النوادر عن طفليها, ولكن الحديث عاد مرة أخري لموضوع ستاسي و الحادثة. فقالت ماري وهي تثرثر:
"عندما اخبرني بيل عن حادثتك صممت إن تأتي إلينا في المدينة. ولكنه أكد لي إن بقائك هنا أفضل حتى تكون لديك فرصة كافية."
قال الطبيب بابتسامة:
"في الواقع قصدت الهدوء والراحة وهذان الشرطان من الصعب تحقيقهما في بيتنا "
فسرت ماري كلامه قائلة:
" انه دائم الشكوة من الصبيين ولكنه يحبهما بقدر حبي انا لهما.في أي حال أري انه علي حق فأنت تبدين صورة حية لصحة، وبالطبع منذ الذي يستطيع البقاء في الفراش وسط كل هذا الجمال الطبيعي؟"
نظرت ماري لكورد نظرة جانبية وعيناها تومضان . وتكلمت ستاسي حتى لاتعطي الفرصة لمزيد من التلميح:
"هذه المزرعة جميلة , وكل الأرض حولها ساحرة . تذكر المرء بأنها كانت حدودا منذ وقت غير بعيد"
وامن الطبيب علي كلامها قائلا:
"إن تاريخ تكساس حقا مثير ."
ووجهت ماري سؤالها لكورد:
" " هل كنتما في المدافن عندما حضرنا ؟"
ثم أضافت بدون أن تنتظر جوابا:
" ليتك قابلت جدته يا ستاسي , كانت عجوزا رائعة , ولكن أبدا لم تشعر بأنها عجوز , كانت مليئة بالنشاط والحيوية . كنت في التاسعة أو العاشرة عند وفاتها , ولكني أذكرها جيدا ."قالت ستاسي :
" لقد حدثني كورد عنها قليلا ."
واستمرت ماري في حديثهما :
" كانت رائعة . لقد ورثت عن أحد جدودها الاسبان روحا رائدة لا تعرف الكلل . ولكن كان لها طريقة في رفع رأسها , ونظرة ثاقبة للأنسان تذكر الناس بدمها الأزرق . كانت أمي دائما تقول أن دونا الينا هي الوحيدة القادرة علي السيطرة علي كورد."
وأضافت محدثة ستاسي في لهجة المتامرين :
" لقد كان مرعبا وهو طفل . عصبي المزاج للغاية."
ضحك كورد لهذه الكلمات قائلا:
" نسيت أن تذكري مزاج جدتي العصبي . كنت دائما أعتقد أنها تحبني كل هذا الحب لأنني ورثت عصبيتها ."
ثم أضاف في لهجة حانية لستاسي :
" الحمد لله أنني تعلمت اهز بيل بوكانان رأسه في شك وابتسم قائلا:
"أخشي أن تكون قد جعلتها تشك في كلامك كثيرا . ولكن لا تخطئي فهمي يا ستاسي , أنا واثق أن المرأة المناسبة تستطيع التعامل معه , ولكني أكره أن أتلقي عصبيته عندما يفقد السيطرة علي نفسه."
شعرت ستاسي بحرج لمحاولات الزوجين التوفيق بينهما بخبث , فأجابت إجابة مبهمة , ولحسن الحظ قاطعتها ماريا معلنة أن العشاء قد أعد.
"سأل كورد :
" سنتعشي سويا ... أليس كذلك ؟"
وبدات ماري في الأعتذار ولكن كورد قاطعها قائلا:
" لن أقبل منكما اعتذارا . فمن النادر أن يأتينا ضيوف , ولن نترككما هكذا سريعا . أليس كذلك ستاسي ؟"
ومد لها يده فلم تستطع رفضها حتى لا تلفت الأنظار . وانشغل بالها فلم تتنبه للزوجين , وهما يقبلان الدعوة بدعابة خفيفة , ولم تشعر بنفسها إلا وهي تدخل غرفة الطعام خلفهما , والمزارع وراءها . توترت عضلاتها وهي تكتم رغبتها في انتزاع نفسها من أمامه بعنف.
لقد أمدته بالطعم في أول الأمر بحديثها عن خلافهما السابق, ثم تصرفت كمضيفة بينما هي نفسها ضيفة عليه , كانت هذه اللعبة تسلية لستاسي في البداية , لأنها استمتعت برؤية الدهشة في عيني كورد , ولكنها أحست الآن بأنه يهزأ بها . لقد استطاع أن يقلب الوضع بأن يجعلها هي الأضحوكة , ولم يكن ذلك ليعجبها بأي حال.
همس لها كورد عندما أجلسها إلي المائدة كما لو كان قد قرأ أفكارها:
"كان عليك أن تتأكدي من قواعد اللعبة ".
نظرت إليه بقلق ولكنها لم تجد ما ترد به عليه . كان تعبير وجه وهو جالس أمامها لطيفا , غير أن عينيه تجمدتا عندما راقب حمرة خديها وهي تستدير لترد علي سؤال لماري . واضطررت أن تنظر بعيدا عن نظرته الغامضة مرتين خلال العشاء . وبدا كما لو كان العشاء سيستمر إلي الأبد , وقد بلغ بها التوتر مبلغا أحست معه أنها تجلس علي برميل بارود سينفجر في أي لحظة . ولكن الحديث ظل في مواضيع غير شخصية حتى جاءت ماريا بالقهوة والحلوى , شعرت بالارتياح لقرب انتهاء هذا الموقف.
وداعبتها ماري وهي تهز يدها أملم ستاسي :
" " هاي ... عودي إلينا . ألم تسمعي ما قلت ؟"
" آسفة يا ماري , أخشي أن أكون قد سرحت في أحلام اليقظة"
" كنت أتساءل عما أذا كانت الحادثة قد تسببت في تغير نيتك في البقاء؟"
أجابت ستاسي وهي تتجنب نظرة الاهتمام في عيني كورد :
"لا . سأبقي أسبوعين آخرين قبل العودة."
قال كورد بابتسامة:
" أخشي أن تكون بلادنا قاسية عليها . فأنا وأنت قد نشأنا هنا , واعتدنا في هذه الحياة , أما ستاسي فمن الشرق وأعتقد أن هذا المكان ممل بالنسبة لها."
وأجابت ستاسي بصبر نافذ :
" هذا ليس صحيحا بأي حال من الأحوال "
وداعبت شفتا كورد ابتسامة ساخرة وهو يقول :
"كل ما في الأمر أنه ليس أمامك مستقبل في هذه البلاد . أليس كذلك ؟"
تلعثمت ستاسي وهي تشعر أنه يهاجمها خفية:
" نعم ... أعني لا."
وبدأت ماري تقول:
"الآن يا كورد."
فقاطعها قائلا :
" لا بد أنك تفهمين أن حداثة المغامرة قد ولت بالنسبة لها. فالجبال كلها متشابهة... أناس كثيرون يأتون إلي الغرب بأفكار عظيمة , ثم يعودوا عندما يجدون العزلة والمضايقات فوق احتمالهم"
وأنكرت ستاسي كلامه قائلة:
" لا يهمني كل ذالك فأنا أحب هذه البلاد".
ونمد كورد أن يتجاهلها , فوجه كلامه لماري الجالسة عن يمينه:
" أتعلمين يا ماري أن بناء مستقبل في هذه الأرض يحتاج مقدرة كبيرة علي التحمل ؟ إن الرفاهية تصبح في غاية الأهمية عندما يحرم الإنسان منها بعد طول اعتياد عليها ".
وفكرت ستاسي بغضب إنه يقارنني بوالدته.
ثم قالت وهي تطوي فوطة السفرة :
" إنك لا تعلم عم تتحدث."
وأجاب ساخرا:
" بالطبع ... يالغبائي . كان علي أن افهم أن المظاهر تخدع . كان يجب أن أفهم أن وراء الثياب الأنيقة والسيارة السبور الثمينة , والحصان الأصيل , ينبض قلب فتاة ريفية لم تفسدها حياة التدليل".
امتلأ جو الغرفة بالتوتر, بينما تفرس كورد وستاسي كل منهما في الآخر .
تمنت ستاسي أن تهاجمه غير أنها كانت تعلم أنه سيستغل هذا لصالحه. وشعرت بانزعاج الزوجين فاغتصبت ضحكة ضعيفة وقالت:
" يبدو أنك قد فهمتني . إنني مجرد فتاة ريفية بسيطة."
مر علي وجه الأسمر تعبير إعجاب سرعان ما استبدله بنظرة تهكم وأجاب:
" إن كلمة بسيطة مناسبة للغاية , إذ أنها تشير إلي قلة العقل . لقد أظهرت قلة عقلك عندما جئت إلي هما وحدك حيث لا يوجد لك معارف , وعشت وحدك في كوخ منعزل بدون أية حماية , ثم ركبت حصانا لا تستطعين السيطرة عليه وذهبت إلي أماكن لا تعرفينها. إنها ضربة حظ كونك لم تصبحي جثة هامدة".
أجابت ستاسي وهي تدفع كرسيها بعيدا عن المائدة :
" لا أظن أن رائك في شخصي وفي تصرفاتي يهم ضيوفك."
ولحقت بها ماري في غرفة الطعام وسألتها :
" ما الذي يجري بينكما ؟"
أجابت ستاسي ويداها معقودتان :
"إننا لا نتفق , هذا كل ما في الأمر."
ونظرت خلفها بعصبية إلي الغرفة الآخري . واستمرت ماري في الحديث :
" لقد بدا لي إنكما صديقان عندما جئنا, حتى إنني وللحق تمنيت أن تتزوجا ."
صاحت ستاسي بغضب واشمئزاز :
"هذا مستحيل . اننا نستطيع ان نتحدث حديثا مهذبا بين حين وآخر, ولكننا ننتهي دائما وكل منا يمسك بخناق الآخر . ليس هناك أية فائدة في أن تدعي أن كلا منا يتحمل الآخر . إنه ساخر وأناني , إلي درجة يعتقد أن علي الجميع أن يركعوا عند قدميه , وهو لا يجدني خاضعة كما يريد."
ما أن نطقت ستاسي بهذه الكلمات حتى شعرت بوجود كورد في الغرفة , استدارت في تحد لتواجه نظرته الغاضبة . وبدا كما لو كان يملأ الغرفة بطوله الفارع وكتفيه العريضتين مصغرا كل ما عداه
تكلم كورد أخيرا قائلا
" إن ضيفينا سيرحلان ... هل توصلينهما للباب؟"
لم تجبه ستاسي بل استدارت لتمشي مع ماري التي أخذت حقيبتها واتجهت للباب الخارجي. شعرت ستاسي بظهرها يوخذها إنذارا بالشر لعلمها أن المزارع يمشي خلفها مباشرة . واعتذرت ستاسي لماري قبل أن تصل إلي ساحة الدار:
" إني آسفة لإقحامك في معركتنا يا ماري . لكم استمتعت بمجيئك هنا."
ونصحتها ماري :
" لا تدعي هذا يقلقك . انه يحدث لأحسن الناس . وما عليك إلا أن تسرعي بالشفاء."
أضاف بيل ويده علي كتف ستاسي :
" إنني أؤيد هذا الكلام , وكطبيب أنصحك بالراحة يومين آخرين علي أن تحدي من نشاطك , وبعد ذالك تستطيعين فعل كل ما تريدين ."
نظرت ستاسي إلي وجه الطبيب اللطيف بابتسامة وجلة . لقد طغي وجود الرجل الأسمر إلي جانبها علي كل إحساسها بالسعادة لطيبة أصدقائها الجدد . ومشي الزوجان إلي سيارتهما وهما يهتفان بعبارات الوداع المرحة , وأخذت ستاسي تنظر الي السيارة وهي تختفي في ثنية الطريق وقد أحست بالبؤس . واستدارت وهي عازمة علي مواجهة كورد وعينيه الساخرتين فوجدته قد ذهب . ونظرت حولها بسرعة فرات قوامه المألوف يخطو نحو الإصطبلات . وشعرت بالحيرة والارتياح في نفس الوقت ثم مشت إلي البيت.

🌲مزرعة الدموع 🌲جنيت ديلي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن