"الفصـل الأول"

530 10 0
                                    

نـوفيلا " فِي طَي النِسيـان"

"الفصـل الأول "

استندت بـ كفيهـا على الحاجـز الحديدى الذي يفصـل بينهـا و بيـن النيـل ،  رفعـت "أيـار" نظارتهـا الشمسيـة ذات اللون الأزرق على شعرهـا و راحـت تراقب بعينيها العسليتين انعكـاس أشعـة الشمس عليه فتلألأ مياهه بـ منظـر بديع يسلب الألباب ، التـوى ثغرهـا بابتسامـة واسعـة ، و سحبت شهيقًا عميقًا حبستـه في صدرهـا لـ ثوانٍ ثـم زفـرته على مهـلٍ ، راح النسيـم يُداعب خصلاتهـا البنيـة القصيـرة التى بالكـاد تصل لـ كتفيهـا  ثم تلاشت ابتسامتهـا و رفعت ساعدهـا لتنظـر الى ساعـة يدهـا و تمتمت بنبرة قلقـة :
- هـو اتأخـر ليـه ؟
لتتفاجأ بـ مـن يُغطـى عينيهـا فـ شهقت بـ ذعـر و لكنهـا سريعًا ما استكانت حيـن استمعت الى صوتـه العذب :
_ بتفكري فيـا أكيـد !
فـ تنفسـت الصعداء ، و أزاحـت كفيـه عـن عينيهـا و هـى تردد بـ عبوس :
_ خضيتنـى يا مـراد ، حـرام عليك !
فـ استدار ليستند بـ جسده الى السـور الحديدي ، و تطلع الى تعبيراتهـا مرددًا بـ نبرة هادئـة :
_ خلاص يا ستى متزعليش
فـ ظلت تعبيراتهـا عابسـة و هـي تردد بـ فتـور :
_ اتأخـرت ليـه ؟
فـ رفع أمام عينيهـا حقيبـة بلاستيكيـة ليتنغض جبينهـا و هي مرتكـزة ببصرهـا عليهـا ، ففتحهـا " مـراد" _ طويل القمة ، أسمر البشرة ، يملك عينين بنيتين و شعـر بني مجعـد _ لـ يُخرج منهـا علبـة مثلجـات بطعـم الفراولـة مرددًا بـ صـوت رخيم :
_ قولت أجيب لـك الأيس كريـم اللى بتحبيـه !
على الفـور تلاشـى العبوس عـن وجههـا و هـي تلتقطهـا منه مرددة بابتهـاج :
_ الله يا مراد ، ده بالفراولة !
ناولهـا ملعقـة بلاستيكيـة و هـو يردد بهـدوء :
_ اتفضلى ، بالهنـا و الشفـا
التوى ثغرهـا بابتسامة واسعـة و هي تتطلع الى ملامحـه مرددة بامتنـان :
_ شكرًا
فـ ردد بنبرة مشاكسـة :
_ يعنى مش زعلانـة منى ؟
فـ نفت برأسهـا مرددة باستنكار مَرِح :
_ أنـا ! هـو أنـا أقدر بردو !
فـ عقـد ساعديـه أمام صدره و هـو يتجول بعينيه على ملامحهـا ، و تنهـد بـ حرارة متمتمًا بنبرة ذات مغـزى :
_ هـانت ، كلهـا أسبـوع و تكوني مراتي
فـ تسربت حمرة الخجل الى وجنتيهـا و هـى تدس الملعقـة بـ المثلجـات و تحيـد ببصرها عنـه ، فـ ردد بـ تأفف :
_ أيـار ، مش عايزك تضايقى من كلام ماما ، انتى عارفـة انهـا ..
فـ التوى ثغرهـا بابتسامة باهتـة و هـى ترفع نظراتها اليـه :
_ مش زعلانـة يا مراد ، متكملش
فـ التوى ثغره بابتسامة هادئـة ، فـ عادت تدس الملعقـة بالمثلجـات ، ثـم رفعت نظراتهـا اليه و هـي تدسهـا بـ فمه مرددة بابتهـاج مغيرة الموضوع :
_ مش معقول انت اللى جايبه و مش تدوقـه حتى لو مش بتحبـه !
فـ اتسعت ابتسامته و هـو يردد :
_ ده عشـانك بـس !
فـ مررت نظراتهـا العاشقـة على وجهه و هـي لا تكـاد تُصدق سعادتهـا ، فـ بالرغـم من فقره و كره والدته لهـا و سعيهـا لـ خلق مشكلات بينهمـا فقط لأنهـا لا تريدهـا زوجـة لابنهـا ، الا أنهـا ستتزوج من أحبـت فهـي ليست ممن يهتمـون بالأمـوال أو غيرهـا ، انهـا تبحث عـن الحب .. و القليل من يجـده ، و قـد وجدته !
………………………………………………………………………………
فـي أحـد الأيـام التى اختبأ بهـا قرص الشمـس خلف الغيـوم فـ باتت السمـاء باهتـة و قـد تكدست بها الغيـوم مُنذرة بـ هطـول مطر وشيـك ، و بالفعـل مـا هـي الا دقائق و شرعـت زخـات المطر تتساقطت و كأنهـا دمـوع الغيـوم و سريعًا ما ازدادت قـوة ..
كـانت تنظـر للسقفيـة بـشـرود جـلي ، نظراتهـا تائهـة ، تعبيراتهـا حزينـة ، كـانت تجلس على مقعـد منحنـى مريـح "شيزلـونج" ، متشحة بالسواد ، تأملهـا " سيـف" _ذا الطول الفارع و الجسـد الرياضـي يملك عينين رماديتين و حاجبيـن كثيفيـن ذو بشـرة قمحيـة و شعر أسود ناعم  _بنظرات مترقبـة ، فـ لم تنظـر اليـه ، بل تمتمت بنبرة تائهـة تحمـل بحـور من التحسـر في طياتهـا :
_ أنا .. أنا قتلت عيلتـي !
و بالرغـم من خطـورة كلماتهـا الا أنـه تنفـس بارتيـاح لكونـه قد نجح فـي استخراج تلك الكلمـات منهـا بعد العديد من الجلسـات ، جـلس أمامهـا على أحـد المقـاعد ، و نظـر لهـا بترقـب متمتمًا بنبرة جـادة :
_ ليه و ازاي ؟
فـ نظرت له من زاويـة عينهـا ثـم عادت تغرق في بـحور من الكآبـة ، و التزمـت الصمت رافضـة اضـافـة المـزيـد ، تأمـل "سيـف" وجههـا الذابـل ، نظراتهـا الباهتـة ، لـم يرهـا يومًا بـحالٍ أفضـل منذ أن قـدمت الى عيادتـه فـصـار طبيبهـا النفسـي ، كـانت دومًا صامتـة ، أو تتحدث بكلمات مقتضبـة عـن أحـاديث لا علاقـة لها بـحالتهـا ، أطبقت جفنيهـا و هـي تعـود برأسهـا للخلف ، فـ ردد "سيـف" بنبرة متريثـة :
_ آنسـة أيـار ، الكلام اللي بتقـوليه مش مقتنع بيه ، الانسـانـة الرقيقـة اللى قدامـى عمرهـا ما تأذي حـد ، ازاي هتقتـل ؟
و كـأنـه سكب ملحًا على جراحهـا ، التفتت برأسهـا اليـه و الدمـوع تنهمـر من عينيهـا بلا وعـي منهـا ، و تمتمت بنبرة يائسـة :
_ بس أنـا قتلتهـم ! و قتلت ناس تانيـة ! أنـا .. أنـا مجرمـة !
تنغض جبينـه و قـد استشعـر مـدى سـوء حالتهـا ، و على الرغـم من ذلك كـان ثابتًا هـادئًا أمـامهـا ، انتصب في وقفته و تحرك نحو مكتبـه الخشبـي و التقط عـدة محارم ورقيـة ، بينما دفنت وجههـا بين كفيهـا لتتمتم بلا وعي منهـا :
_ أنـا قتلتهـم !
عـاد "سيف" اليهـا ، و مـد كفـه بالمحـارم الورقيـة متمتمًا بنبرة هـادئـة واثقـة و هـو يعـاود الجلوس أمامهـا :
_ مستحيـل تعملي كـده !
التقطت منه المحارم الورقيـة لتنزح دموعهـا و حاولت جاهـدة أن تتحكـم بنفسهـا و ألا تذرف الدمـوع مُجـددًا  فـ عادت ثانيـة لـ شرودهـا ، فـ استند "سيـف" بـ مرفقيـه على ركبتيـه  هـو يُطـالع قسمـات وجهها باهتمام ، مرر نظراته على بشرتها البيضاء الصافيـة ، عينيها العسليتيـن المنتفختيـن ، ملامحها التي بدت له كـ زهـرة ذبلت أوراقها ، لم يكن ليكتفـي بعد أن نجح بأن يستخرج منهـا تلك الكلمـات الخطيرة و التي ستقـوده الى علاج جـراح روحـهـا الغائـرة ، فـ التزم الصمت بعض الوقت مترقبًا أن تخرج ما بجبعتهـا و لكنهـا عادت ثانيـة لـ بحـور الصمت عـدا صوت شهقاتهـا التي خرجت بدون ارادة منهـا و هـي تحدق بنقطـة ما في الفراغ ، فـ تنهـد بـ حرارة متمتمًا بتريث  متعمدًا مناداتهـا باسمهـا فقط :
_ أيـار !
حـولت "أيـار" بـصرهـا اليـه ، فـ عمق من نظراتـه نحوهـا متابعًا بنبرة جـادة :
_ عشـان أقـدر أساعـدك لازم تحكيلـى !
فـ هـزت رأسهـا نفيًا و الدمـوع تتسابق للخروج من عينيهـا ، فـ تنهـد بـعمق مرددًا بنبرة هـادئـة :
_ لـو عايـزة نكمـل الجلسـة الجايـة مفيش مشكلـة
فـ أومـأت برأسهـا موافقـة و هي تعاود النظر أمامهـا ، ثـم استندت بـكفيهـا على المقعـد و استقامت بوقفتهـا و هي تلتقط حقيبتهـا ، استدارت بجسدهـا لتغـادر بدون أن تُضيف حرفًا ، فـ تابعهـا "سيف" بنظراته المهتمـة حتى اختفت ، فـ انتصب في وقفته و تحرك نحو مكتبـه ، و استند بجسده الى مقدمتـه  قد حـازت كلماتهـا المقتضبـة على تفكيـره بالكـامـل .
…………………………………………………………………………………
مرَّت جلسـات عديدة أخـرى عـادت بهـا لـ قوقعـة الصمت رافضـة التحـدث عـن مـا يشيـر الى ما حدث ، رأى "سيـف" في البدايـة أن عـدم الضغط عليهـا هـو الحـل الأسلـم بـ حالتهـا ، و لكنـه و بـ خبرتهِ الطبيـة كـان يتعمـد خلق نوع من الود بينهمـا على الأقـل لـ تكون ثقتهـا به كافيـة لـ تقص عليـه ما حـدث كاملًا بذاتهـا و بدون أن يطلب هـو منهـا ذلك ، و هـذا مـا حدث ، فـي احـدى الجلسـات ، كـانت تنظر للسقفيـة بـ نظرات حزينـة ، ملامحهـا ذابلـة كـ المعتـاد ، سحب "سيـف" أحـد المقـاعد و جلس على  مقربـة منهـا و هـو ينظر لهـا بترقب ، فـ ظلت على حالتهـا لـ ثوان قبـل أن تخرج من قوقعـة صمتها لتردد بـ همـسٍ وصـل اليـه :
_ انـا لوحـدى ! مفيش حـد معايا ، عشـانى قتلتهـم !
اختنـق صدره من كلماتهـا و كـأنهـا أول من يردد تلك الكلمات الحزينـة على مسامعـه ، و تنهـد بـ عمق و هـو ينظر لهـا بترقب متمتًا بنبرة واثقـة :
_ ليـه بتقـولى كـده ؟ انتى مش لوحـدك ، أكيـد في نـاس بتحبك و ..
فـ هـزت رأسهـا بالنفـى مطبقـة جفنيها مقاطعـة بـ مرارة :
_ محدش هيحب مجرمـة زيي !
زفـر بانزعـاج من ترديدهـا لتلك الكلمـة التى يرى أنهـا لا تمـت لهـا بصلـة مُطلقًا ، و لكنـه التزم الصمت و هـو يراقب تعبيراتهـا التى تشنجت قليلًا و هي تنظر له مرددة بـ مرارة :
_ أنـا .. أنـا عايزة أحكيلك !
فـ ردد بنبرة هادئة مشيرًا بـ كفه :
_ اتفضـلى ، أنـا سامعك
فـ هـزت رأسهـا بالنفـى لتردد بـ قهـرٍ :
- مش هتفهمنـى ! أنـا .. انـا عايزة أحكـى بس في حاجة منعانـى ، خـايفـة .. خايفـة تـ..تخاف منى و أنـا..
فـ تنغض جبينه من كلماتهـا ، بلا وعي منه التقط كفهـا و هو ينظر لهـا بنظرات هادئـة مرددًا بنبرة واثقـة :
_ أيـار .. أنا جمبك صدقينى هفهـمك ، انتى جاية هنـا عشـان أسمعك و افهمـك ، عشـان تفضفضـى و تحكـى اللى جواكـى !
لم تنتبـه الى كفه المحتضـن لكفها ، بل نظرت لـه بـ تحسـر متمتمة :
_ كنت غلطانة ، افتكرت انى هرتاح لما أحكى ، بس دلوقتى أنا خايفـة أحكيلك حاجـة !
رفع احـدى حاجبيه استنكارًا و :
_ ليـه خايفـة تحكيلـى ، انتى مش واثقـة فيا ؟
فـ حادت ببصرهـا بعيدًا متمتمة بمرارة :
_ لأ ، الحكايـة مش حكاية ثقـة ، أنـا .. أنـا خايفـة !
فـ قبض على شفتيه مرددًا بـ ثبات و هـو يحاول ان يستشف شعورهـا :
_ ليـه خايفـة ؟
عادت تنظر له بـ استياء متمتمة بنبرة شبه مرتعشـة :
_ خايفـة تبعـد زي ما كـل النـاس بعـدت عنى ، خايفـة تخاف منى لمـا.. لمـا تعرف اللى عملتـه !
لا يعلـم لمَ شعر بقلبـهِ يُعتصـر من كلماتهـا ، انهـا بالنسبـة له حالـة فريدة من نوعهـا ، تلك المشـاعر الرقيقـة بداخلهـا و شخصيتهـا الحساسـة ، كـل ذلك كان يؤكـد له أكثـر أنـه من سابع المستحيلات أن تقتـل ، احتضن كفهـا أكثـر بـ كفـه ، و عمق من نظراتـه لـ عينيهـا الحزينتيـن مردفًا بـ صدق :
_ صدقينى يا أيـار أنـا مش هبعـد و لا حـاجة ! ثقـى فيـا !
ازدردت ريقهـا بتوتر رهيب و هـى توزع النظر بين عينيه الرماديتين ، انتبهـت الى كفها المحتضن له بـ كفـه ، فـ توردت وجنتيهـا خجلًا و هي تسحب كفهـا ، فـ حمحم بـ حرج و هـو يعـود بـ ظهره للخلف مرتكزًا ببصره عليها ، فـ عادت تنظر للسقفيـة مطبقة جفنيهـا مردفـة بشرود :
_ كنت بحبـه أوى !
شعـر بالنيران تضطرم بـ صدرهِ ، و السخـونـة تتغلغل لـ جسده بالرغـم من كونهـم في فصـل الشتاء ، احتقـن وجهه و عيناه بالدمـاء من كلماتها المقتضبـة ، أشـاح بـوجهه بـعيدًا عنهـا و هـو يكور قبضتيـه بـ قوة محاولًا أن يكظـم غيظـه ، فـ تابعت غير منتبهـة للتغيير الذي طرأ عليـه :
_ يا ريتنى ما حبيته !
عاد ينظر لها و قد تنغض جبينه ، فـ أكملـت بتنهيـدة مُطولـة :
_ أحسـن يـوم لأي بنت في الدنيـا كـان أسـوأ يـوم بالنسبـة لى !
عــادت بـ ذاكرتهـا للخلف لـذلك اليوم الذي انقلبت حياتهـا به رأسًا على عقب
………………………………………………………………………………….
<< التفتت برأسهـا نصف التفـاتـة لتنظـر لـه عـن كثب ، تطلعت الى ملامحـه التي ليست بالوسيمـة و لكنهـا أحـب الملاح الى قلبهـا ، خفق قلبهـا بـعنفٍ فـي صدرهـا و هـي تتأمـله ، ثـم عـادت تنظر أمامهـا لتتطلع الى الوجـوه باهتمـام ، التوى ثغرهـا بابتسامـة عريضـة و هـي تخفض نظراتهـا الـى ثوب عرسهـا الأبيض ، اليـوم ستصيـر زوجـة لمن أحبت ، عـادت تنظر اليه فـ كان ممسكًا بقلـم حبري و كـاد يخط بـه على وثيقـة زواجهمـا ، فـ اتسعت ابتسامتهـا و لكـن لم يـدم ذلك طويلًا ، فـ فـجأة سقطت أضخـم الثريـات التى تتوسط سقفيـة قاعـة الأفراح على طاولتين مزينتين بـ قمـاش الستـان الفضـى ، لتستمـع الى صوت الصراخ فـ حادت ببصرهـا عـنه لـ تشخص أبصـارهـا و هـي تنظر لمـا حـدث ، هـربت الدمـاء من عروقهـا ، و شحب لون وجههـا و خفق قلبهـا بـ عنفٍ فـي صدرهـا  هي تهـرول ناحيتهـم رافعـة ثوبهـا الأبيض بـ كفيهـا ، تجمد جسدهـا أمام الثريا التى برز من اسفلهـا ذراع والدتها و جـزء من ثـوبهـا ملطخ بالدمـاء  فـ شخصت أبصـارهـا و هي تتحرك نحوه محاولة جـذب والدتها و هـي تصرخ بـهلعٍ ليتجمع الرجـال محاولـون رفع الثريـا من فوقهـم ، أمسكت بـ كف والدتها البارز من اسفلـه و هـى تصرخ حتى بـح صوتهـا ، و لـم تنتبـه الى تلوث ثوب عرسهـا الأبيض بالدمـاء الحمراء الدفئـة التى أغرقت الأرضيـة من اسفلهـم >>
………………..
……...……………………………………………………………………………
أطبقـت جفنيهـا بـ قوة لتمحـي سيـل الذكريـات الذى لم يتركهـا منذ ذلك اليـوم ، و أخـرجت زفيرًا حارًا ألهـب صدرهـا و هـي تقاوم بصعوبـة انسدال الدمـوع من عينيها ، و لكن و بلا وعي منهـا سالت الدمـوع من عينيهـا لـتسيـل على وجنتيهـا ، تنهـد " سيـف" بـ حرارة و هـو يراقب حالتهـا ، لـم يكـن يتوقـع أنهـا كانت مخطوبـة و على مشـارف الزواج ، بـل انهـا كانت قاب قوسيـن أو أدنـى من الزواج ، زفـر بـ انزعـاج و هـو يرى دموعهـا تسيـل بصمت على وجنتيهـا ، لـم يكـن يحتاج لـ شرح أكثـر منهـا ليتفهـم ما تعانيـه ، توفى والديهـا اثـر حادث لا علاقـة لهـا بـه ، و لكنهـا حملت نفسهـا الذنب مُجبرة حالهـا على التعايش مقتنعـة بـ جريمة لم ترتكبهـا ، شعـر بـ قلبـه يُعتصـر ألمًا على حالهـا و هـو يراهـا هكذا أمامـه و هـو يشعـر بـ عجزهِ أمـام انهيارهـا الوشيـك ، قبض على شفتيه بـ قوة ، رغبـة مُلحـة بـأخـذهـا بأحضانـه انتابتـه في تلك اللحظـة ، لا يعلـم هـل هـو اشفاقًا بـ حالتهـا أم أنـه شيئًا مجهـولًا لا يعلـم كنهه بـعد ، ما يعلمـه أنـه صـار كارهًا لتلك الدموع التى تحمل خلفهـا أنهارًا من الحـزن العميق ،  لا يُحـبذ أن يراهـا تُدمـر تمامًا أمام عينيه ، سحب شهيقًا عميقًا زفـره على مهـل ، ثـم استند بـ مرفقيـه على ركبتيـه و بالرغـم من فضـولـه الذي يُلح عليـه لمعرفـة ماذا حـدث لـخطيبهـا و أيـن اختفـى هكـذا الا أنـه  ردد بضيق و هـو يرى سيـل دموعهـا :
_ كفـايـة كده النهـاردة
ففتحت جفنيهـا لتنظر له بعينين حمراوين مرددة بـ صوت مرتعش :
_ لأ ، لـو..لـو.. مكملتش دلوقتـى مش هقـدر أكمـل ..أبـدًا !
فـ أومـأ برأسـه مرددًا بـ نبرة جادة :
_ و أنـا سامعـك
التقطت أنفاسهـا المتوترة و حاولت جاهـدة أن تسيطـر على نوبـة بكائهـا و هـى تسـرد عليـه كيف نجح من حولهـا بـ حـرق روحهـا متناسيـن أنهـا لا ذنب لهـا فيمـا حـدث .
……………………………………………………………………………….
<< كـانت متشحـة بالسـواد تجلس كمـن لا روح بـه ، تراقب من يعزونهـا بأعيـن خاليـة من الحيـاة ، مـن يراهـا يحسبهـا كـ تمثـال لا حيـاة فيـه ، يحسبونهـا باردة لا تكترث لـ موت والديهـا ، و لكـن قلبهـا كـان بـه شرخًا عميقًا ، روحهـا تشتعـل ببطء لا تنجح في اخمادهـا ، لا أحـد يُدرك ما تعانيـه بينهـا و بين نفسهـا ، كانوا حولها يبتسمون لها ، أطيافهم معها ، يتحدثون معًا كما لو أنهم على قيد الحياة ، ظلت محملقة بهم و هي جامدة كـ التمثال ، خرجت آخـر النسـاء المؤديات لواجب العزاء من المنزل و بقيـت والدة خطيبهـا معهـا ، تجهمت ملامحهـا و هـي تنظر لهـا بـ حقد من طرف عيـن ، ثـم وجدت الفرصـة سانحـة لـ تدعس روحهـا أكثـر ، فـ جذبتهـا من عضدهـا بـ قوة لتصيـح بهـا بـ فظاظـة :
_ اوعـي تكونى فاكرة انـك هتتجوزى ابنى بعد اللى حصـل !
فـ نظررت لها بنظرات تائهـة لا تكاد تُدرك ما تتفوه بـه ، فـ تابعـت الأخيـرة بـ نبرة فـجـة :
_ ده كـان يوم اسـود يوم ما قال يخطبـك ! ده انتى بومـة !
حملقت بهـا غيـر مصدقـة و عجـزت عـن الدفـاع عـن نفسهـا أمامهـا ، فـ عادت تصيح بـ شراسـة و هـى تهـز جسدهـا بـ عنف :
_ سمعـانى ، بـــومـة ، قتلتى أبوكـى و أمـك ، الله ياخـدك يا شيخـة !
رمشت بـعينيهـا عـدة مرات مرددة بـتلعثـم :
- مـ..معملتـش حاجـة !
فـ صـاحت بهـا باستنكـار و هـى ترفع حاجبيهـا :
_ مـا ايــه ؟ معملتيش حاجة ؟ أومـال اللى حصـل ده بسبب ميــن ، هـا ؟
ابتلعت غصـة عالقـة في حلقهـا و نظرت لهـا بـ قهـرٍ و قد سالت الدمـوع من عينيهـا ، كـادت تتابع صياحهـا بهـا غير مكترثـة لهـا ، و لكن قطع ذلك صـوت جرس الباب ، فـ نظرت لهـا شزرًا و تركتهـا لتتجـه نحوه لتفتحـه فـ دلف شقيقهـا الأكبـر " يـاسـر" و مـن خلفـه خطيبهـا " مـراد" ، فـ نظرت له باستنجـاد و كـأنهـا تستغيثـه ، و لكنـه حـاد ببصره عنهـا ، فـ رددت والدتـه و هـي تحدجهـا بنظرات ازدراء :
_ اسمــع ، أنـا رضيت آجـى أعزيهـا عشـان أبقـى عملت الواجـب و خلاص ، لكـن جواز من البت الشؤم دى مش هيحصـل ، سامعنـى يا مراد ؟
فـنظر لوالدته بنظرات واثقـة و هو يـومئ برأسـه مرددًا بنبرة جافة :
_ و ده اللى هيحصل يا ماما !
ففـغرت شفتيهـا بـ صدمـة و هي تنظر له عندمـا رأتـه هـكذا ، فـ تحركت نحوه لتردد بـ نبرة تائهـة :
_ مـ..مـراد ، انت .. انت مش هتسيبنـى ، صـح ؟
فـ رفع نظراتـه القاسية اليهـا فـ حملقت به غير مصدقـة لـ تردد بـ عـدم تصديق :
_ قـولى انك مش هتسيبنـى ! رد عليهـا و قولهـا
فـ شملتهـا بنظرات استحقـار و هـي تلوى شفتيهـا :
_ انتى بتقولى ايـه يا بت انتى ، مـش كفايـة استحملـتك طول المدة دى ، هـى كانت خطوبـة مقرفـة من أولهـا
تلاحقت أنفاسهـا و هـي تردد بدون ان تحيد ببصرهـا عنـه و كأنهـا لم تستمع اليهـا :
_ مـراد رد عليهـا ، طب .. طب رد عليـا أنـا ، قولى انك مش هتسيبنـى زى ما هـم سابـونى !
فـ ردد بنبرة قاسيـة و هـو ينظر لوالدته :
_ دي أمـى مش أى حـد ، و أنـا مش هكسرلهـا كلمـة .. هي مغلطتش ، انتي شـؤم يا أيار !
دفعتهـا من كتفهـا بـ قوة ليرتد جسدهـا للخلف صـائحـة بـ فظاظـة :
_ غــورى بقى قرفتينـا ما هـم ماتوا بسببك !
افترشت " أيار" الأرضيـة بـ جسدهـا ، فـ رددت و هـى تربت على كتفـه بـ تفـاخـر :
_ يلا يا حبيبـى من هنـا ، بكـرة تلاقـى أحسـن منهـا مليـون مـرة !
فـ نظر لها من زاويـة عينـه ، ثـم حـاد ببصره عنهـا و هـو يتبع والدتـه للخارج ، فـ اتسعت عيناها بـ صدمـة ، و استندت بـ كفيهـا على الأرضـيـة و اعتدلت بـ وقفتهـا و هـو تركض نحوهـم صائحـة بـ ذعـر :
_ مــراد ، متسيبنيـش ، مــــراد
و لكـن لم يكترث لها و تابع طريقـه نحو الخارج ، كـادت أن تخرج عـن منزلهـا خلفهـم و لكـن طوق خصرهـا أخيهـا الأكبر "ياسـر" بـ ذراعيـه و هـو يجذبهـا للداخـل صافقًا الباب بـ عنفٍ ، و دفعهـا للخلف بلا رحمـة و هـو يحدجهـا بنظرات كارهـة ، فـ رددت بهلع و هـى تحاول تجاوزه :
_ سيبنـى يا ياســر ، مراد مش هيسيبنـى كـده ، انــا..أنــا عارفـاه كويس ، مراد ميعملـش كده !
فـ هـدر بهـا بـ شراسـة و قـد احتقـن وجهه و عيناه بالدمـاء الغاضبـة :
- فـــــوقــــي بقى ، انتــــى السبب في كـل حاجـــة ! انتـــى السبـب!……………
………………………………………………………………………………………………………………………...

يتبـع ...

في طَي النسيان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن