"الفصل السادس"
تبسمـت لهـا موظفـة الاستقبال مشيـرة بـ كفهـا :
_ دكتـور سيف مستنيكـى ، اتفضلـى
فـ ازدردت ريقهـا و هـي تومئ بـ رأسهـا ، و كـادت تبتعـد عـن المكتب الخـاص بهـا ، و لكنهـا تسمـرت في مكانهـا و تجمدت عيناهـا على الصحيفـة أمامهـا ، رمشت بـ عينيهـا عـدة مرات ، ثـم مدت كفهـا المرتعش لتلتقطهـا ، جحظت عيناها و هـي تسيـر بـ عينيهـا على الكلمـات لتتأكـد شكوكهـا ، كـادت الدمـاء أن تفـر من عروقهـا حين اعتقـدت ان أخيهـا كان بـداخله ، و لكنهـا اطمأنت قليلًا حيـن قرأت أنـه كان فارغًا ، عـادت تنظر لـ صورة المنزل الذي ابتلعـتـه النيران ، فـ تلاحقت أنفاسهـا و خفق قلبهـا بـ عنفٍ في صدرهـا ، تعجبت موظفـة الاستقبـال من حالتهـا ، فـ تمتمت بنبرة مشدوهـة :
_ آنسـة أيـار
ضحكـت .. ضحكـت حتى أدمعـت عينيهـا ، حتى تحول صوت ضحكاتها الى شهقات تعالى صوتهـا بـ ثوان ، انهمـرت العبرات الدافئـة على وجنتيهـا لـ تغرقهمـا ، ثـم قبضت على الصحيفـة بـ قوة ، و استدارت بـ جسدهـا لـ تسيـر نحو غرفـة متجـاهلـة موظفـة الاستقبـال لهـا ، أدارت المقبض و دلفت للداخـل بانفعـال ، فـ انتصب " سيف" في وقفته ، و سـار نحوهـا و هـو يتأملهـا متمتمًا بـ قلق :
_ أيـار ؟ انتى كويسـة ؟
فـ رفعت الصحيفـة أمام عينيه على تلك الصفحـة تحديدًا مرددة بـ صوت غاضب من بين شهقاتهـا :
_ شـايف ده ؟ ده كـان بيتى ! بيتى اللى طردنـى منـه !
ثبت " سيـف" نظراتـه على الصحيفـة ، و كـاد يجتذبهـا منهـا و لكنهـا دفعت كفـه و التوى ثغرهـا ببسمـة مستخفـة مرددة بـ تهكـم مرير:
_ بس .. بس غريبـة ، ازاي حصل لـه حاجـة وحشـة و أنـا مش معـاه ، ازاي مكنتش السبب في اللي حصـل !
فـ سـار " سيف" ناحيـة باب الغرفـة و أوصـد بابهـا ، ثـم عـاد اليهـا ، و فتح كفـه مرددًا بنبرة شبه آمـرة :
_ هاتيهـا يا أيـار
فـ قبضت عليهـا أكثـر بـ كفهـا ، و هـدرت بـه بـ انفعـال :
_ عمـره ما عاملنـى على انـى أختـه ، كـان بيعـاملنـى كـأنى عدوتـه ، مع انى كنت بـحبـه ، فهمنى ان.. ان أي حـاجـة وحشـة تحصـل هتكون بسببي ! يعنـى .. يعنـى ممكـن يكون ده غلط ؟
فـ قبض على الصحيفـة و اجتذبهـا بـ عنفٍ منهـا ثـم ألقاهـا على الأرضيـة ، و ردد بنبرة جـادة مشيرًا بـ كفـهِ :
_ أيـوة غلط ، كـل حـاجـة حصلت مكنش ليكـى ذنب فيهـا
فـ رددت و كأنهـا لم تقتنع بعـد و قـد تعالى صوت شهقاتهـا :
_ بـس .. همـا ماتوا بسببي !
ثـم تشنجت نبرتهـا و أشـاحت بـ ذراعهـا مرددة بـ قهـر :
_ مـاتوا عشـان حبيته ، عشـان كنت عايـزة أتجـوزه !
فـ غلت الدمـاء بـ عروقـه و حـاول قـدر الإمكـان الاحتفـاظ بـ هـدوئـه و هـو يردد :
_ أيـ..
فـ قاطعتـه و هـي تنظـر لـه بـ مرارة :
_ أيـوة قتلتهـم ! بس من غير قصـد ، صدقنـى يا سيف مكنتش أقصـد !
كانت تلك المرة الأولـى التي تنـاديـه باسمه مجردًا ، فـ ردد و هـو يبعـث لهـا بنظرات هـادئـة واثقـة :
_ و أنــا مصدقـك
حملقـت بـه غير مصدقـة ، و تجمدت الدمـوع في عينيهـا ، خبى صـوت شهقاتهـا ، و كـأن كلمتـه گ المخـدر الذي سـرى بـ عروقهـا .. گ مسكـن لآلام روحهـا التي لا تنتهـى ، نقـل بـصره بين عينيهـا ، أشـار لهـا بـ كفـه متمتمًا بنبرة هـادئـة :
_ اتفضلى
فـ نقلت بصرهـا الى حيث أشـار ، و سـارت نحو المقعـد المنحنـى بـ خطوات واهنـة ، فـ سـار مقتربًا منهـا و سحب أحـد المقـاعـد و هـو يجلس أمامهـا مباشـرة ، نظرت للسقفيـة و نزحـت دموعهـا بـ ظهـر كفهـا ، فـ ردد " سيـف" بنبرة شبـه متوجسـة :
_ انتى .. انتى حاسـة بإيـه لما عرفتي ان بيتك اتحرق ؟
فـ سحبت شهيقًا عميقًا زفـرته على مهـل ، ثـم ردد بـ استيـاء و هـى تنظـر أمامهـا :
_ أنـا .. أنـا بس مستغربـة أوى ! ان البيت اللى طردنـى منـه عشـان خاف انى اتسبب في أذاه ، اتأذي فيـه و اتحـرق !
ثـم نظرت له و قـد تنغض جبينهـا مرددة بنبرة شبـه مختنقـة :
_ تفتكـر ربنـا انتقـم منه ؟ يا ترى ربنـا افتكـرنى !
فـ ردد بنبرة حـازمـة :
_ أيــار ، ربنـا مبينسـاش حـد ، خليكـى واثقـة فيـه
فـ تجمعـت الدمـوع في مقلتيهـا تأثرًا و ردد باختنـاق جلي :
_ أنـا .. أنـا كنت بثق في ربنـا أوى ، كنت بدعيله كتيـر ، و كنت .. كنت بدعيلـه .. كنت بدعـى انـى أتجـوز مراد و ..
احتقـن وجهه بالدمـاء و كـز على أسنانه بـ عنفٍ حتى كـاد يُهشمهـا ، أشـاح بـ وجهه بعيدًا عنهـا و هـو يتنهـد بحرارة ألهبت صدره ، بينمـا تخشبت الكلمـات على أطراف لسانهـا ، و نظرت لـه غير واعيـة لـ تبدل حالتـه ، ثـم تمتمت و قـد خفت صوتهـا :
_ أنـا .. أنـا مش عارفـة ازاي اتخدعـت فيـه كـل ده ! لسـه مش مستوعبـة انـه سابنـى بالسهـولة دى !
فـكـور قبضتيـه بـ قوة ، و التفت لهـا لـ يردد بـ استنكـار و كأنه يتمنـى أن تنفي تلك الحقيقـة :
_ للدرجـة دي حبيتيـه ؟
نظرت له مطولًا بـ شرود ثـم رددت باستيـاء بتنهيدة مُطـولة :
_ يـاسـر كـان الراجـل الوحيـد في حياتي بعد بابا اللى مكنتش بلحق أشـوفـه من كتـر الشغـل ، يـاسـر عمره ما حبني ، عمره مـا حـن عليـا و لا اعتبرني أخـته ، كـان .. كان بيعتربنى عدوة ليـه ، مع انى عمره مـا أذيته
امتعض وجهه و ازداد حقده له عقب كلماتهـا ، فـ تابعـت بـ نبرة تائهـة :
_ يمكـن عشـان مراد كـان عكسـه اتعلقت بيه ؟
ثـم ضيقت عينيهـا و هـي تعيد النظـر للسقفيـة مرددة و كأنها تسأل نفسهـا :
_ يمكـن محبيتوش ! يمكـن كـان مجـرد اعجـاب ! بس كنت زي أي بنت بتحلـم بـواحـد زي مراد
ثـم التوى ثغرهـا بابتسامة متهكمـة :
_ قصدى زي خداع مراد و كـذبـه !
و كأنهـا هـدأت تلك النيران المتأججة بصدره قليلًا بـ قولهـا عـن احتمـاليـة أنهـا لا تحبـه ، فـ أشـرقت ملامحـه ، و هدأت نظـراتـه و هـو ينظـر لهـا بترقب ، فـ تابعت بـ سخريـة بيّنة :
_ كـان مفهمنـى انـه عمره ما هيتخلى عنى ، و ان عمـره ما هيسيبنى
أطبقت جفنيهـا لتنسـال الدمـوع من بينهمـا رُغمًا عنهـا و هـي تقـول بـ تحـسـر :
_ تعرف انه اتجـوز بعد ما سابنى باسبـوعيـن ؟
ازدرد ريقـه و هـو ينظر لهـا باستيـاء ، ثـم ردد بـ نبرة عدائيـة و هـو يعيـد ظهـره للخلف :
_ واحـد زي ده ميتزعلش عليه يا أيـار ، احمـدى ربنـا انـه خلصـك منـه !
فـ فتحت جفنيهـا و أطلقت تنهيدة حـارة متمتمة :
_ بس هـو مغلطش ، هـو كـان عنده حق يسيبنـى ، عشـان أنـا ..
قاطعهـا بنفـاذ صبـر :
_ أيــار ، لـو سمحـتى شيلي الأفكـار دي من دمـاغك ، مش عـايـزك تفكـرى بالطريقـة دى ، عايـزك تفكـري في حـاجـة واحـدة بس ، انـك ملكيـش أي ذنب في اللى حصـل
فـ نظرت لـه بـ تحسـرٍ من زاويـة عيـنها :
_ مش قادرة ، أنـا ..
ثـم ابتلعت كلماتهـا فـ ردد "سيف" بنبرة مشجعـة مستندًا بـ مرفقيـه على ركبتيـه :
_ أنـا سامعـك ، خـرجـى اللى جواكـى !
سحبت شهيقًا عميقًا زفرتـه على مهـلٍ ، و أطبقت جفنيهـا لـ ثـوانٍ ، فـ سـار " سيـف" بـ نظراته الشغـوفـة على تقاسيـم وجههـا ، لقـد أُهـدرت .. انهـا لا تسحق أيًا ممـا صـار معهـا ، انهـا _ مـن وجهـة نظره _ گـ المـاسـة الغـاليـة التى يجب مواراتها عـن الأعيـن ، عُملـة نـادرة ، شـئ ثميـنٌ لـن يتكـرر ، فـ هـي واحـدة فقط لا يـوجـد مثيـل لهـا ، بالنسبـة اليـه .. وكأنهـا حـوريـة بـحـر عثر عليها صيـاد فـ قرر أن يحميهـا مـن أذى العالـم لهـا ، أخـرجتـه من شـروده بـ معالم وجههـا و هـي تردد بـ تنهيـدة مطولـة :
_ أنــا وحيـدة !
تنهـدت بـ عمق ، و احتضنت نفسهـا بـ ذراعيهـا مـرددة بـ مرارة :
_ وحيــدة ، معنديش حـد أكـون حاجة في حياتـه
ثـم لوت ثغرهـا بابتسامة مريرة متابعـة :
_ أنـا .. أنـا و لا حـاجـة ، أنـا زي .. زي اللي قـاعـد بيستنـى مـوتـه بـ فـارغ الصبـر عشـان يخلص من عـذابـه !
تجمعت الدمـوع في عينيهـا رُغما عنهـا و هـي تردد بـ قهـرٍ :
_سـاعات..ساعات بـ فكـر مع نفسـي انى لو متت محـدش هيحضـر جنـازتى ، محـدش هيفتكـرني ! محـدش هيدعيلـى !
ثـم فـركت كفيهـا مرددة بـ تهكـم مرير :
_ بالعكـس دول ..دول هيدعـوا عليـا !
و كأنهـا تغـرز أشواكًا بـ قلبـه ، ابتلع " سيف" غصـة عالقـة في حلقـه ، و خفق قلبـه متألمًا من حالتهـا التي تزداد سوءًا ردد بـ استيـاء :
_ متقـوليش كـده يا أيـار ، بعـد الشـر
فـ نظرت لـه بـ مرارة مرددة بـ آسـى :
_ أنـا بقـول الحقيقـة
التقط تلقائيًا كفهـا المسنـود بـ جوارهـا ، و مسح عليه بإبهـامـه و هـو ينظر لهـا مليًا بنظرات هـادئـة و :
_ لأ ، دي مش الحقيقـة ، كـل حاجـة هتكـون كـويسـة ، صدقينـى !
هـزت رأسهـا نفيًا غير منتبهـة لـ كفهـا و هي تردد باختناق :
_ لأ ، مفيش حـاجـة هتتصلح ، اللى راح مبيرجعـش ، و اللى مـات مش هيحي تانى
فـ ردد مقطبًا جبينه :
_ ميـن قال انهـم مـاتوا ؟
رفعت حاجبيهـا و رددت بـ دهشـة و قد خفق قلبهـا بـ عنفٍ لـ وهلـة :
_ ايــه ؟
فـ التوى ثغـره بابتسامة صغيـرة مشيرًا بـ عينيه لـ قلبهـا :
_ همـا عايشيـن جواكـى ، في قلبـك ، حبـك ليهـم هيحيهـم !
أدمعـت عينيهـا تأثرًا بـ كلماته و قـد لمست لديهـا وترًا حساسًا ، رفعت كفهـا المرتجف لـتضعـه على قلبهـا متمتمة بـ تلعثـم و هـي تنظـر له بـ أعيـن دامعـة :
_ جـوا قلبى !
فـ ظـل محتفظًا بابتسامته الهادئـة و هـو ينظـر لهـا بـ شغف انعكس في مقلتيـه انتبـه الى كفهـا فـ أسنده بـ حـذر محاولًا ألا تلاحظ ، ثـم تـابع بـ نبرة شغـوفـة :
_ أه ، انتى أكيد عارفـة ان القلب أربع غرفات ، كـل واحـد منهـم سكـن في غرفـة !
كـانت شـاردة بـه ، بـ تفاصيـل وجهه الهادئـة ، لقـد نجح بالتخفيف عنهـا بـ كلماتـه ، نهـض " سيـف" عـن المقعـد ، فـ تنغض جبينهـا و هـي تتابعـه بتساؤل ، فـ التقط " سيـف" سترتـه من ظهـر المقعـد الجلدي الضخـم خلف مكتبـه ، و شرع يرتديهـا و هـو ينظر لهـا مرددًا بـ حـزم :
_ عايـز أوريكـي حاجة ضروري !
رفعت حاجبيهـا بدهشـة متمتمة بـ فضـول :
_ حـاجـة ايـه ؟
فـ التقط هاتفه و مفاتيحـه ، و ردد بنبرة حاسمة :
_ هتعرفـي لمـا نوصـل
ثـم وقف أمامهـا ، و التقط حقيبتهـا ، فـ استقامت بـوقفتهـا مرددة بـ عدم فهـم :
_ مش هتتعطـل عـن شغلـك ؟
فـ ناولهـا الحقيبـة لـ تعلقهـا على كتفهـا ، و ردد بـ نبرة هـادئـة :
_ متقلقيش
ثـم تقدمهـا نحو الباب فـ سارت خلفـه بـ خطوات مرتبكـة ، فتح الباب لهـا و أشـار لهـا لـ تخرج أولًا ، ففعلت و تبعهـا موصدًا الباب خلفـه .
………………………………………………………………………………..
_ لأ ﻷ ﻷ !
قالتهـا " أيـار" باستنكـار مـذعـور رافضـة الدلوف للداخـل ، فـ عبست ملامح " سيف" و هـو يردد بنبرة حـاول جعلهـا هـادئة :
_ أيـار ، صدقيني علاجـك هيبدأ من هنـا و ..
استدارت بـ جسدهـا ، و أجابتـه بـ تعنـد و قد هربت الدمـاء من عروقهـا :
_ لأ مستحيـــل ، مستحيـــــــل
فـ استدار لـ يقف أمامهـا و رمش بـ عينيه عـدة مرات و قد تسلطت الشمـس عليهـا مرددًا بـ حـدة :
_ أيــار ، اللي بتعمليـه ده مينفعـش
فـ نظـرت لـه بـ ضيق مرددة باستهجـان :
_ احنـا متفقنـاش على كده ، لـو سمحت رجعنـى !
فـ أجابهـا بـ تعنـد مماثـل :
_ لأ مش هيحصـل ، هتدخلى يا أيـار
فـ هـدرت بـه بـ عصبيـة :
_ لأ ، انت ملكش الحق تغصب عليـا ، سـامعنــى ؟
فـ تجهمـت ملامحـه و غلت الدمـاء في عـروقـه و نظـر لهـا باستهجـان ، نظرت لـه فـ إذ بهـا ترى شخصًا آخـر ، شخصًا متجهـم الملامح نظراتـه شرسـة جـافـة ، ازدردت ريقهـا و هـي تتراجع خطوة للخلف ، فـ فاجأهـا بأن قبض على معصمهـا و سـار للداخـل جاذبًا لهـا خلفـه عنوة مرددًا بـ نبرة جـافـة :
_ ﻷ ليـا يا .. يا أيـار
هـوي قلبهـا في قدميهـا و هـي تدلف للداخـل ، تلوت بـ معصمهـا مرددة بـ نبرة متوسلة عسـى أن يتركهـا :
_ لأ عشـان خاطرى سيبنـى ، أنـا مش عايـزة آجـى هنـا ، مينفعـش ، أنـا .. أنـا قتلتهـم و..
فـتوقف فجأة و استدار بـ جسده ، فـ ارطمت هـي بـ صدره فـ شهقت بـ خـوف و هي تتراجع للخلف خطوات قليلـة فقد ظل قابضًا على معصمهـا ، كـاد ثغـره أن يلتوى بابتسـامـة ممـا حدث و قـد رقص قلبـه طربًا ، و لكنـه أحكـم صنـع وجهًا جـامدًا صـارمًا و هـو يردد و كـأن شيئًا لـم يكـن :
_ مش عايزك تقـولى الكلمـة دى تـانى !
رمشت بـعينيهـا عدة مرات و قد توردت وجنتيهـا خجلًا ، لم تنتبه حتى الى كلماتـه ، ازدردت ريقهـا ، و أخفضت رأسهـا و تلعثمت نبرتهـا :
_ أنـ.. أنــا .. أنـ..
فـ استدار ثانيـة ليتحـرك نحـو قبـر والديهـا و ردد بهمـسٍ لا يُسمـع دعـاء المقـابـر و هـو يمرر نظراتـه على القبـور ، بينمـا استكانت لـه قليلًا و هـي تزدري ريقهـا بـ ذعـر ، و تتلفت حولهـا بـ هلع ، استطـاعت أن تشعـر بالمهـابـة من ذلك المكـان و قـد انتشـر رائحـة الموت فيـه ، هـوي قلبهـا في قدميهـا عندمـا توقف " سيـف" أمام قبـر والديهـا ، فـ نظرت للأسمـاء المحفـورة على لوحيـن من الرخـام بنظرات زائغـة، بينمـا التفت لـ ينظـر لهـا و قـد استعـاد قدرًا من هـدوئـه ، هـزت رأسهـا العديد من المرات متمتمة بـ هلعٍ :
_ لأ لأ لأ ، أنـا .. أنـا قتلهتـم ، مينفعـش أكـون هنـا !
تلقائيًا .. احتضـن وجههـا بـ كفيـه ليثبتـه و نظر لهـا بـ نظرات جـادة مرددًا بـ ثبات :
_ أيــار ، ممكـن تهـدى و تسمعينـى ، انتى مقتلتيش حـد ، ده كـان قدرهـم اللى ربنـا كتبـه ، ده كـان عمرهم ! انتى مش هتغيـرى المكتـوب !
تلاحقت أنفاسهـا المتوترة ، و شعـرت بـ صعـوبـة التنفس و هـي تنظـر الى القبـور من زاويـة عيـن ، فـ حرر " سيف" وجههـا مرددًا بـ عتاب :
_ دلوقتي باباكى و مامتك سامعيـنك ، زي ما قولتلك هـم عايشيـن جواكـى لكـن مش بتعـرفي تكلميهـم أو يسمعـوكـى ، لكـن دلوقتـي همـا فعلًا عايشيـن ، مش عـايـزة تكلميهـم ؟
و كأنـه زرع سكينًا حاد النصـل في قلبهـا ، أصـابـته كلمتهـا في مقتـل ، تجمعت الدمـوع في عينيهـا و هـي تنقـل بصرها بين عينيه ، فـ تابع و كأنه يضغط عليهـا أكثـر :
_ همـا كـده هيزعلوا منك ، انـك جيتى لـحد عندهـم و مشيتـي ، خصوصًا انك و لا مـرة زورتيهـم ! انتى كده بتـ..
فـ قاطعته مرددة بـ نبرة مبحـوحـة و قد انسـالت الدمـوع من عينيهـا :
_ افهمنـى ، مينفعش ، ازاى عايزنـى أزورهـم و أنـا ..
فـ قاطعهـا بـ صرامـة و قد تجمدت تعبيراتـه :
_ أيـار ، مش عشـان شويـة مجانيـن اتهمـوكـي بـ حاجـة ملكيش ذنب فيهـا يبقى خلاص
تخشبت الكلمـات على أطراف لسانهـا و هـي تنظر له بـ مرارة كافيـة لإذابـة قلبـه ، امتزجـت نظراتـهـا بالتوسـل علّه يكفي عـن سكب الملح على جرحهـا ، و لكنـه أبى .. أبى أن يستجيب لـ نداء قلبه بإجابـة نظراتهـا تلك المرة ، هنـا أول خطوات شفائهـا ، قست نظراتـه أكثـر و هـو يردد باستهجـان عاقدًا كفيه خلف ظهرهِ :
_ ممكـن تفهمينى انتى قتلتيهـم ازاى ؟
قـوست شفتيهـا بـ حـزنٍ و الدمـوع تنهمـر من عينيهـا ، فـ تابع بنبرة قاسيـة و هـو يشيـر للقبريـن :
_ بقـولك أهلك هنـا .. أهلك نفسهـم يسمعـوا صـوتك ! نفسهـم تكلميهـم و تحكـى لهم كـل حاجـة ، عايزيـن يفهمـوكى انـك ملكيش ذنب في اللى حصـل ، بس الفرق انهـم مش قادريـن يتكلمـوا !
ثـم نقـل بصره بيـن عينيهـا مرددًا بـ عتاب جافٍ :
_ و ده بيقهـرهـم أكتـر ، مش معنـى انهـم أمـوات يعنـى مش بيحسـوا ، بالعكـس هـم بيفـرحـوا بـ زيـارة أهلهـم ليهـم ، انتى ليــه مش عـايزة تفرحيهـم ؟
فـ سدت أذيهـا بـ كفيهـا هـادرة بـ انهيـارٍ تـام و قـد على صـوت شهقاتها :
_ خلاص كفـايـة .. كفـايـة كلامـك بيقتلنـى ، مش عايـزة أسمـع حـاجـة انت ليـه بتعمـل كده ؟
اعتصـر قلبه من الألـم لـ حالهـا و مع ذلك ظـل محتفظًا بـ صـرامـتـه و هـو يجيب :
_ عشـان تفهمـى ، عشـن تصحـى من الوهـم اللى انتى عايشـة فيـه قبل فوات الأوان ، عشـان تعرفي حاجـة واحـدة .. انتى ملكيش ذنب ، عمـرك ما قتلتى ، عمـرك ما أذيتى حـد ، انتى مش مجـرمـة ، همـا اللى مجـرميـن عشـان وصلوكـى للحـالة دي بـ جنونهـم ، سمعــانـى يا أيـار ؟ انتى مش مجـرمـة !
انهـار جسدهـا و قـد خرت على ركبتيهـا دافنـة وجههـا بين كفيهـا لتنتحب بأنيـن خافت ، فـ أشـار " سيـف" للقبـر مرددًا بـ نبرة آمـرة :
_ كلميهـم ، احكـى ليهـم على كـل حـاجـة ، اعتذريلهـم عـن الزيـارة اللى اتأخـرت ٣ شهـور ، قولى ان مكنش بإيـدك ، قوليهـم ان مش ذنبك !
فـ رددت بـ تحسـر كلمتـه الأخيـرة و هـي ترفع نظراتهـا لهـم :
_ مش ذنبـى ، مش ذنبـي ، أنـا مكنتش عايـز أخسركـم ، مكنتش عايـزة ده
ثـم وضعت كفهـا عـند مـوضع قلبهـا الذي شعـرت بالنيران تلتهمـه بـ شراهـة متابعـة بـ شـوق :
وحشتــونـى أوى آآآآه
هـزت رأسهـا نافيـة و كأنهـا تحاول ابعـاد تلك التهمـة عنهـا :
_ أنـا مقتلتـش ، مكنش قصـدى ، مش أنـا .. مش أنـا !
التوى ثغـره بابتسـامـة باهـتة و قـد اعترفت و أخيرًا بـأنهـا لـم ترتكب تلك الجريمـة ، تنفس الصعـداء بعـد تلك المهمـة الشاقـة التي تجـاوزهـا ، و التـزم الصمـت تاركًا لها المجـال لـ تكمـل ، استمعها و هي تخـرج مـا بـ صدرهـا للمرة الثانيـة و هي تحادثهـم و كأنهـم أمامهـا ، كمـا أراد تمامًا ، أدمـت قلبـه و هـي تعيـد سـرد مأساتها بأكملهـا للمـرة الثانيـة أمامه ، و لكنه يعلم أنها الطريقـة الصحيحة لـ شفائهـا …………………………………………………………………………………
ظلت صامتـة عقب أن أخـرجت ما بـ جبعتها الدمـوع تنسال من عينيها ، محدقـة بالقبر ، فـ وقف " سيف" منتصبًا و رفع كفيـه أمام وجهه لـ يهمـس بـ سـورة الفاتحـة ، ثـم مسح بـ كفيـه على وجهه و انحنى عليها قليلًا لـ يردد بنبرة هادئة :
_ يالا يا أيار ، كفاية كده
رفعت عينيها الدامعتين اليه لتتمتم بـ رجـاء :
_ مشبعتش منهم لسه ، خلينى شوية
فـ خشى أن تتعرض لـ ضغط أكبر فـ ينقلب الأمر بـ رمته ضدهـم بعد ما توصل اليه ، فـ ردد بنبرة هادئة و هـو يزين ثغره بابتسامة بسيطة :
_ ماتخافيش ، هنيجى تانى ، أنـا بنفسى هعمـل ده !
نجح بإقناعها بالرغم من كونه لم يصـر لـ تلك الدرجـة ، و لكنها صارت تثق به حقًا ، لولاه لمـا أتت هنا مُطلقًا ، لـ كانت ستعيش طوال حياتهـا بـ ذنب لم ترتكبه ، هـو ليس كغيره من الأطباء الذيـن يعتقدون أن المهدئات تساعد بشفاء المريض النفسي ، انه يسعي لشفاء نـدوب الروح ، يسعى لرتق تمزقات القلب ، أومـأت بـ رأسهـا بـ حركـة بسيطـة ، و هـي تستند بـ كفيها على الأرضيـة لتنهض ، ثـم نفضت ثيابهـا من الأتربـة التي علقت بهـا ، و نظرت للقبر مـرة أخيـرة ، ثـم سـارت بـ جواره بـ خطوات واهنـة ، فـ تعمد أن يبطئ خطواتـه حتى لا يتعبهـا ، خرج كليهمـا من المقابر ، فـ دار حـول مقدمـة السيـارة لـ يفتح لهـا بابهـا ، فـ انحنت بـ جسدها لتدلف فـ أوصده خلفهـا ، دار " سيف" حول مقدمة السيارة و استقلها خلف المقود ، نظر لها مليًا قبل أن يدير المحرك و ضغط على دواسة البنزين لـ ينطلق بالسيارة و هـو يختلس النظرات اليها من حيـن لآخـر ، تعلقت عيناها بـ طفـل يسيـر و هـو يحمـل جـروًا صغيرًا ذو فـراء أبيض و يداعبه يمـر على الرصيف المجاور لهـم ، لاحظ " سيف" شرودها بـ شئ في الخارج فـ نظر الى حيث تنظر لـ يتنغض جبينه مرددًا بـ استفسار :
_ انتي بتحبي الكلاب ؟
انتبهت له فـ التفتت لتنظر له ، شردت في ذكريات بعيدة ، ثم التوى ثغرها بشبح ابتسامة و هي تردد :
_ أه ، كان نفسي أوي أشتـري كلب صغير
اتسعت ابتسامتها نوعًا ما و هي تتابع بتلقائية :
_ عارف و أنا صغيرة كنت فاكراه رخيص عشانه صغير ، كنت بـ حوش من مصروف لغاية ما كملت ٣٠ جنيه ، روحت أقول لـ ماما أنا هشتري كلب بـ الفلوس دي !
التوى ثغره بابتسامة واسعـة لـ حديثها العفوي معه ، و سألها بـ فضول :
_ و بعديـن ؟
تنهدت بـ حرارة مرددة و هي ترفع كتفيها :
_ قالتلى ان الكلب ده غالى و انها مش هتقدر تشتريه ، و فهمتنى ان فلوسي مش تكفي !
سحبت شهيقًا عميقًا زفرته على مهـل ، و التوى ثغرها بابتسامة بسيطة متمتمة بـ ارتياح:
_ حاسة بشعـور غريب !
ضيق عينيه و هو يوزع النظرات بينها و بين الطريق :
_ شعـور ايــه ؟
التفتت له لـ تردد بـ اشراق قليل :
_ حاسة .. حاسة انى مرتاحة ! مش مخنوقة زي ما بـكون دايمًا ، عارفة أتنفس على الأقـل ، فاهمنى ؟
نظر لها بإشفاق و قد اعتصر قلبه الألم ، ازدرد ريقه و هو يومئ برأسه ، فـ رددت بـ عدم تصديق و هـي تبتسم :
_ مش مصدقة لسه انى .. انى كنت مع بابا و ماما من شوية بس !
فـ ردد بنبرة جادة :
_ لأ يا أيـار ، مش من شوية ، قولتلك انهم معاكي دايمًا
فـ اتسعت ابتسامتها و هي تضع كفها عند موضع قلبها و نظرت له بـ ارتياح مرددة بـ عفوية :
_ ايوة ، هنـا
تأمل ابتسامتها التي يراها تقريبًا للمرة الأولى ، زقزق قلبه لـ سعادتها البسيطة ، و أومـأ برأسه مرددًا بنبرة هادئة :
_ بالظبط كده
تنفست بـ عمق ، و عادت برأسها للخلف مطبقة جفنيها ، و شبح ابتسامة مزيـن لـ ثغرها ، ثم فتحتهما و أخذت تراقب الطريق من النافذة الأمامية ، لم تنتبه الى استراقه النظر اليها ، تأمل تقاسيم وجهها ، ابتسامتها ، نظراتها الفرحة ، كل تفصيلة بها تجذبه اليها ، كـان قريبًا من منزلها عندما استمع لـ رنين هاتفه ، فـ التقطه لـ يتنغض جبينه و هـو ينقر زر الإجـابـة ، و رفعه الى أذنـه لـ يتمتم بنبرة مهتمـة :
_ خيـر يا باسـل
فـ ردد " بـاسـل" بـ ارتباك :
_ هـو بصراحـة مش خيـر
فـ رفع احدى حاجبيه مرددًا بـ قلق :
_ في ايـه ؟
زفـر " باسـل" مرددًا :
_ الواد اللى اسمه ياسر ده ، عملت زي ما قولت و راقبته ، امبارح راح بيت قديم كده في مكان ..
كـز " سيف" على أسنانه ، و نظـر لـ " أيـار" التى تنغض جبينها و هي تنظـر له بـ فضـول ، فـ ردد بـ حنق :
_ في" …….."
ضاقت عينيها بـ فضول حين ردد عنوان منزلها ، بينما ردد " باسل" بدهشة :
_ و انت عرفت منيـن يا دكتور ؟
فـ ردد " سيـف" من بين شفتيه بـ غيظٍ :
_ و ازاي يا بني آدم انت متقوليش من امبـارح ؟
ارتبكت نبرته و :
_ أصـ..أصل مـ..
صف " سيف" السيارة أمام العمارة التى تقطن بها و التى تتكون من منزل واحـد و السطح ، امتعضت ملامح "سيف" و ردد بـ حنق :
_ خلاص يا باسل ، بس تعمل اللي هقولك عليه بالحرف
فـ ردد " باسـل" بـ إذعـان :
_ تمام يا دكتور
أغلق " سيف" المكالمة ، فـ رددت " أيار" باهتمام متعجبة من تغير حاله :
_ في حاجة ؟
فـ ظلت ملامحه ممتعضة و نظراته معلقة بالهاتف الذي شرع يـنقر على شاشته و هو يبعث بـ رسالة مرددًا بـ فتور :
_ متشغليش بالك !
نقر على زر الإرسال ، بينما رددت بقلق :
_ شكلك متضايق ، طنط كويسة ؟
فـ أجبر نفسه على الابتسام و هو يرفع نظراته اليها :
_ اه ، متقلقيش
ضغط على الزر الجانبي للهاتف ، فـ عاد الاستياء يتسلل اليها و هي تقول :
_ تفتكر انى فعلًا ممكن أكون سبب الأذي للى حواليا ؟ امبارح طنط نيرو..
فـ نفي على الفور بنبرة حازمة :
_ أيار ، لو سمحتى بلاش تفكري بالطريقة دى
فـ نظرت له من زاوية عين مرددة بالحاح :
_ حتى انت دلوقتى حصل معاك حاجة مش كويسة و ده أكيـد بسببـ…
تنهد بضيق مرددًا بنبرة حاول جعلها هادئة و هـو يراقب المدخـل بـ عينيه :
_ مين قال كده ؟ مفيش حاجة حصلت معايا ، حاجة بسيطة في الشغل متستهلش أصلًا
أومأ بـ رأسه بـ حركة خفيفة لـ " باسـل" الذي دلف و معه آخـرون بعد اشارته ، فـ رددت على وشك الالتفات لـ تنظر من النافذة الجانبية حيث المدخل :
_ يعني أنا وحشة للدرجة دى ؟ ممكن يكون وجودى بيأذي الناس فعلًا
على الفور أمسك بذقنها يُدير رأسها اليه يمنعها من رؤيتهم مرددًا بنبرة حازمة و هـو يعمق النظر لـ عينيها :
_ أيـار ، انتى حاجة نادرة ، جميلة و جودك في حياة اللى حواليكى نعمة ، انتى مـاسة !
عادت بـ وجهها للخلف تسحبه من أصابعه ، و توردت وجنتيها خجلًا و هي تخفض بصرها للأسفل ، فـ ابتسم هو لـ خجلها المحبب اليه ، بينما ازدردت ريقها متمتمة بتلعثم :
_ شـ..شـكرًا
فـ ردد محتفظًا بابتسامته الهادئة :
_ شكرًا ليه ؟ أنا مش بجامل ، دي الحقيقة
سحبت شهيقًا عميقًا تسيطر به على ارتباكها ، و رددت بامتنان بصوت مرتبك و هي ترفع نظراتها التوترة اليه :
_ شكرًا .. على كل حاجة عملتها معايا
_ أنا معملتش حاجة تشكريني عليها !
فـ نفت برأسها و :
_ لأ ، من غيرك عمري .. عمري ما كنت هزور بابا و ماما ، عمري ما كنت هتخطى المرحلة دى
فـ ردد بصدق معمقًا نظراته الشغوفة نحوها :
_ و لسه يا أيار ، احنا لسه في أول خطوة ، و أنا معاكى و هساعدك تتخطى كل ده !
لم تجد من الكلمات ما تقوله ، فـ نقلت بصرها بين عينيه ، ثم أجفلت باستحياء مرددة و هي تترجل من السيارة :
_ أنا عطلتك كتير ، مع السلامة
ترجلت من السيارة لـ تهرب من حصاره ، فـ اتسعت عيناه و ترجل على الفور هادرًا باندفاع :
_ استنى رايحة فيـــن ؟
........................................................................................................................
أنت تقرأ
في طَي النسيان
Romanceنـوفيلا " في طَي النسيـان " "مُـقـدمة" تعهـد بداخله بأن يكـون شفاؤها على يـده.. هـو فقط مـن سـ يُضمد جـراح روحها و مـن سـ يرمم شـروخ قلبها ، مـن سـ يُخمد تلك النيران المضطرمـة بـ قلبها ، هـو فقط و لا أحـد غيـره