" الفصل الثاني"

174 8 0
                                    

تسمرت بمكانهـا و هـى تنظر له بـ عدم تصديق من عيناها الحمراوتـان ، فـ تابع و هـو يشيـح بـ كفـه بـ قسـوة :
_ مــــش ده اللى انتى كنتى هتمــوتى عليـه ! مش ده اللى انتى حبيتيـه و عوزتـى تتجوزيـــه ، شــــايفـــة اللى حصـل بسببك !
رمشت بـ عينيهـا عدة مرات غير مصدقـة ، و همسـت بتلعثـم :
_ يـ..ياسـر ، انت .. انت بتقـول ايـه ؟
فـ قبض على كتفيهـا بـ قـوة و ردد بـهياج :
_ بقــول انك مجرمــة ، قتلتى أمـك و أبـوكـى ، ســـــامعــة كله بسببك انتى !
هـزت رأسهـا بالنفـي عـدة مرات مرددة بـ ذعـر :
_ لا لا متقـولش كده ، همــا .. همـا عايشيـن ، أنـا .. أنــا عارفـة انهـم عايشيــن
فـ صـاح بهـا بنفـاذ صبر و هـو يهـزهـا بـ عنفٍ :
_ ما تفـــوقـــي بقى و تبصــى حواليكـى ، مفيش بابا و ماما تانى ، خلاص ماتوا ، و انتى السبب !
فـ نظرت حولهـا بالفعـل لتتفاجأ بـ خلو المنزل من حولهـا ، فـ هـي كانت ترى أطيافهـم حولهـا منذ لحظـات فقط ، تسائلت بداخلهـا عـن محلهـم الآن ، اختنق صدرهـا و صـارت عمليـة التنفـس أصعب لديهـا و هـي تعاود النظـر اليه متمتمة بلا تصديق :
_ متقـولش كده يا يـاسـر ، همـا .. همـا بس نايميـن جوا و ..
فـ دفعهـا بـ عنف للخلف و هـو يهـدر بهـا بـ غلظـة :
_ يــــــــــــوه ، كفايـة بقى ، افهمـــى ، مـــــاتوا ..مــاتــــــوا بسببك انتى !
ارتد جسدهـا للخلف و انهـارت على ركبتيهـا و قـد اختنق صدرهـا أكثـر ، و كأنهـا لم تُدرك تلك الحقيقـة الا الآن فقط ، لقـد رحـل الجميـع بالفعـل ، رحــل عنهـا والديهـا و حبيبهـا ، و فجـأة أجهشـت بالبكـاء و هـي تصـرخ بـ قهـرٍ :
_ لااااااااا ، مـامـا ، بــابــا ، لاااااا
دفنت وجههـا بين كفيهـا و هـي تصرخ و قد تعالى صوت شهقاتهـا فامتزجـت مع صوت صراخهــا ، فـ حدجهـا بنظرات جـافـة و هـو يردد بـ صوت غليظٍ :
_ انتـــي السبب ! انـــــتي اللى قتلتيهـــم
فـ صرخت أكثـر رافضـة تصديق انهـيـار حياتهـا بالكـامل في لحظـات ، فـ قسـت ملامحـه أكثـر و هـو يقبض على عضدهـا لـ يجذبهـا مُجبرًا لها على الوقوف ، و هـو يهـدر بهـا بـ غلظـة :
_ مبقتش طـايق أشـوف خلقتك ! انتى لعـنة على كـل اللى حواليكـى !
هـزت رأسهـا بالنفـى عـدة مرات مرددة بـ صوت مرتعش من بين شهقاتهـا :
_ لا لا متقولش كده ، أنـا .. أنـا معملتش حاجـة !
فـ جـذبهـا خلفـه بـ عنفٍ و هـو يستديـر للخلف متحركًا نحو الباب :
_ مــش عايز أشـوف وشـك ده هنـا تانى ، غـــورى يالا من هنـا
تجمدت الدمـوع في عينيهـا و هـى تتفاجـأ بـه يفتح الباب لـ يدفعهـا للخارج ، فـ تجمدت بـ مكانهـا مرددة بـ ذهـول بصوتٍ مبحوح :
_ انت .. انت بتقـول ايــه ؟
فـ ردد بـ فظاظـة و هـو يسد الطريق أمامهـا :
_ لا انتى أختـك و لا أعـرفك ، انتى واحـدة مجـرمـة ، مفيش ليكـى مكان هنـا تانى بعـد ما قتلتيهـم !
ضمت كفيهـا الى صدرهـا و هـي تردد بـ عدم تصديق :
_ يــ..ياسـر .. متسيبنيش زيهـم يا ياسـر ، انت .. انت الوحيـد اللى .. اللى باقي لي و ..
فـ دفعهـا من كتفهـا هـادرًا :
_ ميفرقـش معايـا ، بقـولك مش طايق أبص في وشـك ، بسبب جوازتك المقرفـة قتلتيهـم  أحسـن انهـا متمتش ، تستاهلى اللى حصل لك ! و مشوفش وشك هنـا تانى ، مبقاش ليكـى مكان هنـا !
ثـم صفق الباب في وجههـا بـ عنفٍ ، فـ طرقت عليه بـ هيـاج مرددة بـ قهـرٍ :
_ متسيبنيـش يا ياسـر ، الله يخليك متسيبنيش ، أنـا معنديش غيرك ! يــــاســـر
لم تلقَ منـه ردً ، فـ شعرت بـ ساقيهـا صارتا رخوتيـن غير قادرتيـن على حملهـا ، انهـار جسدهـا على الأرضيـة الصلبـة ، و ضمت ركبتيهـا الى صدرهـا و هـي تستند الى الباب لـ تبكـي بـ حرقـة تُدمـى القلـوب ، تعالى صوت شهقاتهـا و امتزج نشيجهـا مع نبرتهـا و هـي تردد :
_ معدتش عندى غيرك يا ياسر ، متسيبنـيش لوحـدى ! أروح لميـن ؟
و لكن لم تتلقَ أي رد منـه ، فـ افترشت الأرضيـة بـ جسدهـا و هـي تضـم ركبتيهـا الى صدرهـا و دفنت وجههـا في ركبتيهـا لتنتحب بأنيـن موجوع ، مـا تمر بـه لم تكن تتوقع يومًا أنهـا ستراه ، لا تكـاد تُصدق أنهـا خسـرت كـل من تحب ، والديهـا أولًا ثـم حبيبهـا و أخيرًا شقيقهـا ، تخلـى الجميـع عنهـا لـ مجـرد حـدوث حادث لا دخـل لهـا بـه ، همسـت بأنيـن يمزق نيـاط القلوب :
_ مـ..معملتـ..معملتش حاجـة !
……………………………………………………………………………………
انفجـرت باكيـة و هـي تستقيـم بـ جلستهـا على المقعـد .. ثلاث أشهـر مرَّت على تلك اللحظات القاسيـة التي مرت بهـا ، صـرخت بمرارة و هـي تستعيـد تلك المشـاهد امام عينيهـا ، دفنت وجههـا بين كفيهـا و ضمت ركبتيهـا الى صدرهـا و قد امتزجـت صرخاتهـا المقهـورة مـع صوت شهقاتهـا ، هب واقفًا من على مقعـده و هـو يراقب انهيـارهـا أمامـه ، خفق قلبـه بـ عنفٍ في صـدره ، و اقترب أكثـر منهـا باسطًا كفـه اليهـا مرددًا بنبرة قلقـة :
_ أيـار ، ممكـن تهـدى ، كـل حاجـة هتتحسـن !
أدمـى صوت صرخاتهـا المقهـورة قلبـه ، كـانت كمـن تتلظـى النيران في قلبها و هـى تصرخ بتلك الطريقـة ، ثـم صـاحت من بين شهقاتهـا بمرارة :
_ أنـا قتلتهـم ، انـا مجرمـة ، أنـا .. أنـا قتلتهـم ، كلهـم سابـونى لوحـدى ! آآآآآه
اختنـق صدره و كـأن هنـالك ما يُطبق عليـه ، كور قبضتيـه بـ قوة حتى ابيضت مفاصلـه ، كانت تلك المرة الأولـى التي تنهـار بهـا بتلك الطريقـة ، فـ كـل مرة تكون هادئـة صامتة مقتضبـة في حديثهـا ، و اليـوم هـا هـي تُخرج ما بـ جبعتهـا ، لـم يكـن لـ يتخيـل أن تلك الفتـاة الرقيقـة مرّت بـ كـل تلك الظروف القاسيـة التى تكفـي لـ تقسـم ظهـر أكثـر البشـر قوة ، فقدت عائلتهـا في حـادثـة فـ تخلـى عنهـا الجميـع .. استدار "سيف" بـ جسده للخلف و التقط احـدى زجاجات الميـاه المعدنيـة ثـم سكب لهـا بـإحـدى الأكـواب البلاستيكيـة ، و عـاد اليهـا و هـو يبسط كفـه لهـا متمتمًا بنبرة قلقـة :
_ أيـار ، اتفضلى ده و حـاولى تهـدى
نفت برأسهـا عدة مرات و هـي تردد بـ قهـرٍ و كـأنهـا لا تستمـع اليه :
_ كـل حاجـة راحـت منى آآآآآه
فـ عاد يُسند الكوب البلاستيكـى على المكتب ، ثـم التفت اليهـا و وقف أمامهـا و قـد امتـد كفـه لـ يضعـه على كتفهـا و لكنـه توقف باللحظـة الأخيـرة و كـاد يسحبـه لولا أن تمتمت بتحسـر :
_ أنـا وحيـدة..مفيش حـد طايق يبص لى ، حتـى انت هتكرهنـى زيهـم !
فـ قبض بـ رفق على كتفهـا محاولًا تهدئتهـا ثـم ردد بنبرة هـادئـة و تعبيراته القلقـة مازالت مرتسمـة على صفحـة وجهه :
_ لأ مش هسيبك يا أيـار أنـا موجـود عشـانك ! مش هكرهـك أبدًا ، صدقينـى !
و كـأن كلماته كانت كـ المخـدر الذي سـري في عروقهـا ، هـدأ صوت شهقاتهـا تدريجيًا و رفعت نظراتهـا اليه رويدًا رويدًا فـ سحب المقعـد لـ يجلس أمامهـا لـ يوازيهـا و احتفظ بـ كفه على كتفهـا و كـأنـه يدعمهـا ، فـ رددت و هـي تشهق بـ قوة :
_ هتكرهنـى ، كلهـم كرهـونى و سابـونى عشـانى .. عشـانى لعنـة أنـا.. لعنـة على كل اللى حبيتهـم !
فـ التقط كفهـا الآخـر محتضنًا له بـ كفـه ، و عمق من نظراته الصادقـة نحوهـا متمتمًا بنبرة واثقـة :
_ بالعكـس ! انتى نعمـة محـدش قدرهـا بس مش أكتـر !
فلـم تقتنع مُطلقًا و هـزت رأسهـا نافيـة و هـى تردد بـ مرارة :
_ أنـا قتلتهـم .. قتلتهـم آآآآه!
فـ مرر ابهـامـه على كفهـا و تنغض جبينه متمتمًا بنبرة هـادئـة :
_ لأ يا أيـار ، انتى ملكيش ذنب في اللى حصـل !
تلاحقـت أنفاسهـا و هـى تردد بـ استياء و تحيـد ببصرهـا عـنه لتحدق بنقطـة في الفراغ :
_ أنـا السبب ، أنـا اللى قتلتهـم !
استشعـر عودتهـا للشرود مجددًا ، فـ أزاح كفه عـن كتفهـا و أمسك بـ ذقنهـا لـ يحرك رأسهـا تجاهه فـ نظرت لـه بـ تحسـر من عينيهـا العسليتيـن ، فـ ردد بـ نبرة جـادة مسلطًا لنظراتـه الصادقـة لـ عينيهـا :
_ أيـار ، اللى حصـل حادثـة .. حادثـة ملكيش دخـل فيهـا ! كـأنهـم عملوا حادثـة بالعربيـة ، انتى ملكيش ذنب !
كان أول شخـص يخبرهـا بـ ذلك و بالرغـم من أنهـا الحقيقـة إلا أن الجميـع زيفوهـا و أشهـروا أصابع الاتهـام نحوهـا بينما هـي المجني عليهـا و ليست الجانى ، بينما كـانت هـي أكثـر المتضرريـن بمـا حـدث ، و مـع ذلك لم تقتنع بـ كلمته ، فـمـا حـدث معهـا كان كفيلًا لـ يُثبت لهـا بأنهـا قـاتلة .. لقـد أقنعـوهـا تمامًا بأنهـا ارتكبت ذلك الجُرم حقًا ، ظلت صامتـة نظراتهـا له مليئة بالحـزن الذى اعتصـر قلبـه ألمًا ، و فجأة تشنجت تعبيراتهـا قليلًا و هـي تسحب كفيهـا و نزحـت آثـار الدمـوع عـن وجههـا و هـي تخفض ساقيهـا لتستقيـم بـ وقفتهـا مرددة  هي تنظر لـ سـاعـة الحائط :
_ لازم أمشـى ، أنـا .. أنـا اتأخرت
انتصب في وقفته مرددًا بـ قلق :
_ هتعرفـى تروحـى لوحـدك ؟
فـ علقت حقيبتهـا على كتفهـا و التفتت لـ تنظر لـه بمرارة مرددة بتهكـم مرير :
_ أه ، زي ما كنت و هفضـل .. لوحـدى !
فـ عبست ملامحـه متنهـدًا بـ ضيق :
_ تحبـى أوصلك ؟ انتى آخـر حالة عنـدى و أنـا..
فـ هـزت رأسهـا نافيـة لتردد بـ نبرة جـافـة :
_ ﻷ شكرًا ، أنـا هعرف أمشـى
ثـم أوفضت نحو الخارج وضعت كفهـا على المقبض لـ تديـره فـ استوقفهـا قائلًا بنبرة جـادة :
_ انتى .. انتى دلوقـتى ساكنـة مع ميـن ؟
فـ سحبت شهيقًا عميقًا زفرته دفعـةً واحـدة و رفعت نظراتهـا لتنظر للباب أمامهـا بـ مرارة متمتمة :
_ ساكنـة في بيت جـدى و جدتى الله يرحمهـم ..لوحـدى !
ثـم أدارت المقبض و دلفت للخارج موصدة له خلفهـا بـ هـدوء بدون ان تضيف حرفًا ، بينمـا استند "سيـف" بـ جسده الى مقدمـة مكتبـه ، و اشتعلت نظراته و احتقـن وجهه بالدمـاء الغاضبـة و هـو يتذكـر كيف نجح الجميـع بـ تدميرهـا نفسيًا حتى باتت روحهـا ممزقـة ، قلبهـا ملئ بالشـروخ العميقـة ، اختنق صدره و قد شعر بالنيران المستعرة بـه تصل لـ عنقـه ، ففتح أزار القميص الأولـى و أخـرج زفيرًا حارًا ألهـب صدره و جسده بالكـامل ، حدق بـ طيفهـا الذى اختفـى من أمامـه ، و تعهـد بداخلـه بـأن يكون شفاؤهـا على يده .. هـو فقط مـن سيضمـد جراح روحهـا ، و مـن سيرمم شروخ قلبهـا ، مـن سيُخمـد تلك النيران المضطرمـة بـ قلبهـا ، هـو فقط و لا أحـد غيره ..
استدار بـ جسده للخلف ليلتقط هاتفه من على سطح مكتبـه ، ثـم نقـر على شاشـه لـ يأتى بـ رقـم احـد أكثـر الأشخـاص الذي يأتمنهـم "سيف" أو أننا نتحدث عـن رجـل سبق لـه العمـل بالحراسـات الخاصـة ، كـ ذراعـه الأيمـن ، رفع الهاتف الى أذنـه و نظر أمـامـه بـ نظرة تكـاد تحرق الأرض و من عليهـا ، حتى استمع الى رده على الطرف الآخـر ، فـ تمتم بنبرة جـادة :
_ بــاسـل ، عايـزك في مـوضـوع مهـم
فـ ردد "باسـل" بنبرة جامدة :
_ أوامـرك يا دكتـور
فـ كشـر "سيـف" عـن أسنانهِ و هـو يردد بنبرة قاتمـة :
_ عايزك تعرفلـى كـل حاجـة عـن واحـد اسمـه "مراد" ..." مـراد المهدي" و "يـاسـر لاشيـن "
فـ أومـأ برأسـه مرددًا بنبرة جـادة للغايـة :
_ حاضـر يا دكتور ، كـل المعلومـات عنهـم هتكـون عـندك خلال يوميـن بالكتيـر
فـلم ترتخـى تعبيراتـه المتشنجـة و هـو يردد :
_ تمـام
……………………………………………………………………………………..
يكـاد يجـن من فـرط التفكيـر ، جلستيـن فوتتهمـا و لم تحضرهمـا ، لم تفعلهـا مُطلقًا من قبل  كانت تحضر حتى و لـو ستظـل ساكنـة ، أخـذت الأفكـار السوداويـة تتناطح بـ رأسـهِ ، مـاذا ان حـدث لهـا مكروه؟ هـب واقفًا كـانت ملامحـه متشنجـة و هـو يردد بنبرة منفعلـة لـ موظفـة الاستقبال التي استدعاهـا لـ غرفتـه :
_ يعنـى ايـه مفيش عنـوان مُفصـل ؟
انتفض جسدهـا من صراخـه ، كانت تلك المرة الأولـى التي تراه بهـا على هـذه الحـالة فـ هـو معروف بـ هـدوئـه و ثباتـه الإنفعالـي ، و اليـوم ترى بـه شخصًا آخـر ، رفعت كتفيهـا لـ تردد بارتباك جلي :
_ مـش عارفـة يا دكتور ، هـى بس كتبت انهـا ساكنـة فـى "........" و مـكتبتش فيـن بالظبط !
فـ زفـر أنفاسـه بـ ضيق ممرًا أصابـعـه بـ خصلاتـه السوداء ، ثـم ردد بنبرة جـافـة :
_ أكيـد سايبـة رقـم تليفـون ؟
فـ أومـأت برأسهـا مرددة :
_ أيـوة يا دكتـور
فـ ردد مشيرًا بـ كفـه بلهجـة حاسمـة :
_ حالًا يكـون عـندي !
فـ استدارت بـ جسدهـا مـوفضـة للخارج و هـي تتمتم بإذعـان :
_ حـاضر
التقط هـاتفـه من على سطـح مكتبـه و تحرك ليقف أمـام الواجـهة الزجاجيـة ، ثـم رفع الهاتف الى أذنـه لـ يردد بنبرة قاتمـة :
_ باســل ،  عايزك فى حاجـة تانيـة
طرقت موظفـة الاستقبال باب الحجرة فـ أذن لهـا بالدخـول مستديرًا بـ جسده ، فـ ناولتـه ورقـة صغيرة كتبت بهـا رقـم هاتفهـا ، ثـم استأذنت لـ تخرج من الغرفـة ، فـ عاد يستدير بـ جسده لـ ينظر من خلال الحائل الزجاجـى متمتمًا بنبرة جـادة و هـو يتأمـل الأرقـام أمامـه :
_ تتصرف بأى طريقـة و تجيبلـى عنوانهـا فيـن بالظبط
…………………………………………………………………………………...
عـاد لـ منزلـه بـعـد يوم عصيب قضـاه بـ التفكير بهـا ، هـو اعتاد على وجـودهـا بـ حياتـه ، لا يعرف كيف و لكنهـا صارت جزءًا أساسيًا منهـا ، لـم يعـد يتمكـن من تركهـا بتلك السهـولة ، خاصـة أنهـا تحتـاج معاملـة خاصـة ، تحتـاج لمـن يضمـد جروحهـا ، كلمـا تذكـر انهيـارهـا بالمرة الأخيـرة كان يشعـر بـ قلبـه يُعتصـر ألمًا ، لـن يتركهـا ترحـل بتلك الطريقـة فهـو لم يرمم ما هـدمـه الآخـريـن بـ داخلهـا بعـد .. لقـد تعاون الجميع بـ تدميرهـا نفسيًا و تركـوهـا حُطـام ..
تهـالك جسده على الأريكـة ، و عـاد بـ رأسـه للخلف و هـو مطبق لـ جفنيـه ، فـ شعـر بـ ذلك الملمس الحاني على كتفـه ، فـ فتح عينيه لـ يجدهـا أمامـه ، فـ تبسـم لهـا مرددًا :
_ حبيبتى يا نيرو ، عاملـة ايـه ؟
فـ عبست ملامح والدته و هـي تجلس بـ جواره مرددة بامتعاض :
_ اضحك عليا بكلامـك ده ! قال حبيبتك قال ! بقى طول اليوم متردش عليا و مش عارفـة أوصـ..
فـ أمسك بـ كفهـا مقربًا لـه من شفتيـه ليطبع عليـه قبلة حانيـة :
_ يا ماما ما انتى عارفـة الشغـل ..
فـ سحبت كفهـا مرددة بـ استهجـان و هي تنظر له بعتاب :
_ شغلك أهـم منـى !
فـ تنهـد بـ عمق مرددًا بـ حذر:
_ طبعًا لأ يا ماما أنـا مقصدش !
فـ لوت شفتيهـا بـ ضيق و هـي تعقـد ساعديها أمـام صدرهـا ، فـ ردد بـ حنـو :
_ خلاص بقي يا ماما ، متزعليش
فـ التفتت لـ تنظر لـه مليًا ثـم رددت بـ دفء أمومـي و كأنهـا لـم تمتعض منـه منذ قليـل :
_ مالك يا سيف ؟ حاسـة ان فيـك حاجة متغيرة !
تنغض جبينه مرددًا بـ عـدم فهـم :
_ حاجـة ايـه ؟
فـ رددت بتنهيـدة مطولـة :
_ مش عارفـة ، شكلك مهمـوم مش زي طبيعتك
فـ تنهـد بـ حرارة مرددًا بـ صدق و هـو يستند بـ مرفقيـه الى ركبتيـه :
_ فعلًا ، فـي حالـة عندى حالتهـا صعبـة جدًا و ..
فـ ضيقت عينيهـا و :
_ حالة !
فـ نظر لهـا من زاويـة عين متعجبًا من تكرار تلك الكلمـة تحديدًا :
_ أه
ثـم عـاد ينظر أمامـه مرددًا و هـو يلوى شفته بابتسامة باهتـة :
_ بس أنـا خلاص لاقيتهـا !
فـ تنغض جبينهـا لتردد بـ فضـول :
_ لاقيـت ايـه ؟
فـ انتصب في وقفته مرددًا بنبرة جـادة و هـو يدس كفيـه بـ جيبيه :
_ ماما ، أنـا عايز مساعدتـك في حاجـة مهمـة
……………………………………………………………………………..
افترشت الشمس صفحة السماء و أدلت بجدائها الذهبية خيـوط الأمل تتثنى على زجاج شرفة غرفتها و كأنها تحاول أن تمتص حزنها ، و لكن ظلّت شمس فؤادها غائبة متوارية عنها رافضة أن تشـرق في قلبه..
احتضنت ركبتيهـا الى صدرهـا و طوقتهمـا بـ ذراعيهـا و هـي ممدة على فراشهـا المهترئ بـ ذلك المنـزل القديـم الذي تشعـر بـأنـه سيأتي يومًا و ينهـار فوقهـا ، كانت أسيـرة لدى ذكرياتهـا الى أن بزغت صورتـه ببسمته البشوش فجـأة أمامـه ، فـ سالت الدمـوع من عينيهـا بـ صمتٍ مقهـور ، هـي اعتادت على وجـوده بـ حياتهـا ، بالـرغـم من أنهـا كانت قليلة الكلام ، الا أنـه قد فعـل ما بـ وسعهِ للتخفيف عنهـا ، من الطبيعـي أن تتعلق بـه فـ هـو كـان متواجـدًا عندمـا تركهـا الجميع ، و لكنهـا تخشـى أن يتركهـا مثلمـا تركهـا الآخرون ، كمـا أنهـا تخشى ان ظلت بـ حياته أن تتسبب له بـ مصيبـة مـا ، فـ قررت الابتعـاد بـذاتهـا قبـل أن يطردهـا هـو من حياته فـ يترك بـ داخلهـا جرح جديد و شرخ آخـر سيُفنـي روحهـا رويدًا رويدًا ، لا تعلـم لـمَ و لكنهـا اشتاقت الى الاستمـاع لـ صوته الهـادئ ، و كلماته التي كـ المخـدر الذى يسري بـ شرايينها ، عـادت الذكريـات تتوافد الى رأسهـا لتزيـد أكثـر من عذابهـا ، ترددت كلمات الجميع على أذنيهـا فـ سدت كلتيهمـا بـ كفيهـا مرددة بـ مرارة :
_ كفايـة بقى كفايـــــة !
و لكن عادت الأصـوات ثانيـة رافضـة تركهـا مُطلقًا ، فـ أجهشت بالبكـاء و هـي تنظر حولهـا ، وحيـدة تمامًا لا يـوجـد ما تستحق العيش من أجلـه ، لولا أن الانتحـار خطيئـة لـ فعلت دون تردد ، ما عانتـه ليس بالقليل مُطلقًا ، انهمـرت العبرات على وجنتيهـا فـ تكورت أكثـر على نفسهـا و هـي تنتحب بأنيـن موجوع ، و لكنهـا استمعت الى صوت طرقـات على باب المنـزل ، تجمدت الدمـوع في عينيهـا ، و تنغض جبينهـا و هـي ترفع رأسهـا لتنظر للخارج بـ ذهـول ، فـ هـي منذ أن أتت هنـا لم يطرق أحدهـم بابهـا ، ازدردت ريقهـا بـ توجـس و هـي توفض نحو الخارج ، أدارت المقبض لتتسع عيناهـا بـ ذهـول ، و فـغرت شفتيهـا بـ دهشـة قبل أن تردد و قـد تسارعـت نبضـات قلبهـا و هـي تراه أمامهـا بـهيأته المنمقـة :
_ دكـ..دكتور سيـف !……………………………………………………………
……………………………………………

في طَي النسيان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن