كان المطار مزدحما، وجوه مشرقه فرحه تودع احبتها، ومن بينهم كان وجه زينب، منقبضا، احتضنت عمتها بحب وتمنت لو تغوص بأعماقها ولا تسافر، التفتت العمه وبألم هتفت بمقداد (مقداد. لا اوصيك بصغيرتي) ، طمأنها مقداد وهمس (هيا يا زينب) ، غاصت زينب اكثر بضلوع عمتها، مسحت العمه على رأسها، قربت العمه فمها من اذن زينب وهمست لها بكلمات، رفعت زينب رأسها وهزته موافقه، ابتعدت زينب عن عمتها وبدأت تماشي مقداد، التفتت الى الوراء ..
العمه .. الوطن ..الاب الفقيد .. حياتها بأكملها .. كل شيء اصبح وراءها .. نظرت الى الامام .. فقط مقداد والمجهول .. كانت خائفة .. مترقبه .. ولكنها اتقنت تمثيل دور اللامبالية
.. ختمت الجوازات ..وبدأت الرحلة .. كم ارتبكت وهي تجلس بجانب مقداد في الطائرة ، انكمشت بجانب النافذة بخجل ، تعمدت ان لا تلتفت جهة مقداد ، الذي كان مبتسما وهو يلاحظ خجل زينب ، ارتفعت الطائرة ، هدوء يعم المكان ، الا من همهمات الركاب ، بدأت زينب تسترخي بعد ايام من الضغوط النفسية والجسدية ، سرعان ما اغمضت عينيها لتستغرق بالنوم ، التفت لها مقداد بهدوء ، وبدأ يتأملها، كانت تغط بنوم عميق ، وفجأة حركت رأسها المستند على النافذة واراحته على كتف مقداد ، ابتسم ولم يتحرك ، بطرف عينيه كان ينظر لزينب الغافية ، تمنى لو يتوقف الزمن عند هذه اللحظة ،مرت دقائق بعدها فتحت زينب عينيها ، لوهله لم تستوعب اين هي ، رفعت عينيها لتلتقي بعيني مقداد المبتسمتين ، فابتعدت محرجه وقد تخضب خداها بحمرة الحياء ، (آسفة) ، همست بارتباك، (لا داعي للأسف ، انا بالخدمة) قالها مقداد مبتسما وهو يشير لكتفه الذي غفت عليه ، عادت تبحلق من النافذة وشعور بالخجل يتملكها ، اما مقداد فقد استبشر خيرا من هذه الرحلة ، لعل هذه الرحلة هي السبيل للوصول لقلب زينب .. اغمض عينيه وهمس بأعماقه (اليك يا ابا عبد الله، تركت الاهل والوطن، اسأل الله بفضلك ان يحنن قلبها على) ، ارتفع صوت المضيف معلنا الوصول لمطار النجف الاشرف .. فارتجفت القلوب فرحة وارتسمت ابتسامة عذبة على شفتي زينب .. (الحمد لله على سلامة الوصول) هتف المضيف.
النجف الاشرف، المدينة التاريخية العريقة، مدينة امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، وعاصمة العالم المستقبلية، خرج الركاب من المطار ولا ارديا أغمضوا اعينهم وتركوا ارواحهم تلامس هواء النجف الاشرف البارد، تحرك بهم الباص، انشغلت زينب بالمشاهد المتسارعة، بدت تود لو تمسك هذه المناظر وتدسها في قلبها للأبد، اقترب منها مقداد وهمس وهو يشير لنقطة بعيده تلمع كالذهب (انظري زينب، قبة امير المؤمنين)
تفجرت دموع زينب سخية ، مدت كفها لتلامس انعكاس صورة القبه على النافذة ، همس مقداد وقد فرد كفه باحترام على صدره (السلام عليك يا امير المؤمنين) رددت زينب السلام مثله بشغف لا يضاهيه شغف بالوجود ، مد مقداد يده لها بمنديل لتمسح دموعها ، شكرته باقتباض وعادت تتأمل عبر النافدة ، اشار مقداد لبقعه ممتدة وهمس (وادي السلام ، اكبر مقبرة في العالم ، لنقرأ الفاتحة)، بدءا يرددان الفاتحة ، وزينب منبهره بما تراه ، بدت لها اوروبا التي قطعتها شرقا وغربا ضئيلة لا تضاهي هذه المدينة جمالا وألقا ، همست لمقداد وهي تنظر لوادي السلام المترامي (تبدو عالما بالمكان) ، لأول مره تبادر زينب مقداد بالحديث ، ابتسم مقداد وهمس (الحمد لله ، كلما سنحت لي الفرصة ازور المراقد المقدسة) ،،صمت قليلا وقرر ان يستغل الفرصة ويطيل حوارهما (هل تعلمين يازينب ان مقبرة وادي السلام هي اكبر مقبرة في العالم و إن اليونسكو وافقت على إدراج مقبرة وادي السلام في لائحة التراث العالمي) ، لم تجبه زينب وان بدت مهتمة بكلامه ، انتطرها لتعلق الا انها التزمت الصمت
، (غدا سنزور المقبرة) هزت رأسها موافقه ، اكتفى بمشاركتها التي بدت له كقطرات روت جزء من ظمأه ، ولكن لابأس الايام القادمة ستذيب الجليد بينهما.
اختار مقداد غرفه، وتعمد ان يتأخر في استقبال الفندق وطلب من زينب ان تصعد الغرفة وترتاح ، جلس عند الاستقبال وارسل رساله لعمة زينب يطمئنها بسلامة الوصول ، بعد ما يقارب النصف ساعه ، صعد الغرفة طرق الباب ، ففتحت له زينب ، تأثرت زينب بتصرف مقداد وسماحه لها بالمكوث لوحدها بالغرفة وطرقه الباب قبل الدخول ، بدا لها سلوكا راقيا لامس قلبها ، اما مقداد فقد همس ( ارتاحي قليلا ، بعدها ننزل للغداء ثم ننطلق لزيارة امير المؤمنين) ، اثناء كلامه كانت زينب ترتدي حجابها ومعطفها الصوفي همست وهي تعدل حجابها(هل انت متعب ؟؟) ، هز رأسه نافيا، هتفت(اذا لنذهب الان لزيارة امير المؤمنين ، لا استطيع الصبر !) ، انطلق مقداد مع زينب لزيارة امير المؤمنين عليه السلام ، كلما اقتربا من المشهد المقدس ،ارتجف قلب زينب ، اخيرا ستتشرف بزيارة فارسها وبطلها ، فالشجاعة علي ، والإنسانية علي والعبقرية علي ، دخلت زينب الحرم العلوي ، بخشوع متهيبه شاكرة لله تعالى ان رزقها هذا التوفيق الالهي ، اشار لها مقداد لباب دخول النساء واخبرها انه سينتظرها عند الباب ، ولا حاجة للاستعجال بالزيارة ، دخلت زينب متهيبه ، ومن بين الحشود لاح المقام الغالي ، اندفعت اليه كفراشه عثرت على النور ، تركت نفسها بين الجموع ، وكأن مغناطيس يجذبها نحو الضريح ، مدت كف مرتجفة ، لامست اطراف اصابعها الضريح ، فانفجرت
باكيه، رأت الامام بقلبها ، ابا حنونا يبتسم لها مواسيا ، بكت كما لم تبك ، المغناطيس يزداد قوة ، تقترب اكثر ، (يا علي) تهتف بألم (يا علي) تقترب اكثر واكثر (يا علي) ، تلتصق بالضريح تستمد منه طاقة نورانية ، تشعر براحة عجيبة ، تهمس مولاي ونور عيني انا حزينة ، وحيده ، مولاي انا يتيمة غريبه ، شعرت بكف نورانية يمسح دموع روحها ، اليس الامام ابا الامه؟ اليس الامام ابا الايتام؟ كان اليقين يتملكها وهي تشتكي له بشجن، تكلمت كثيرا، ثم صمتت وشعورا بانها خفيفة تستطيع الطيران يتملكها، بدأ المغناطيس يضعف، وهي تبتعد بهدوء لتحل محلها فتاة اخرى، وزينب تبتعد، رفعت كفها لأمير المؤمنين، رددت (السلام عليك سيدي، السلام عليك يا امير المؤمنين) ، وقفت تلهث وهي تتأمل الضريح، تشعر كأن جبالا من الهموم نفضتها، مسافات من الاحزان قطعتها، شعور بالراحة والسكينة يتملك خلاياها، بهدوء اتجهت للقبلة وبدأت تصلي لله شاكرة حامدة كما لم تصل من قبل، انها في حضرة امير المؤمنين وكفى.
يتبع...
أنت تقرأ
خطوات الأجنحة
Romansaلماذا أصر الحاج ابراهيم على تزويج وحيدته(زينب) من (مقداد) الشاب المكافح البسيط؟؟ ما السر وراء صمت مقداد وقبوله لجفاء زينب معه؟؟ هل سيستمر عناد زينب وغضبها ام ان هدية والدها ستغيرها ؟؟ من وحي الأربعين . من وحي اسرار الزيارة الحسينية المليونية .. اقدم...