كُن حقيقيًا

220 38 22
                                    

لقد توسطت الشمس السماء، وإني هنا منذ الفجر. النعاس لم يجد وسيلة إلي أبدا قبل ذلك، ولم يجدها بعده أيضا. يا لخيانته العظيمة! دائما يختفي لما يتعلق الأمر بك. الحقيقة أن الأمور دائما ما تتعلق بك، وقليلا ما أنام. لم أعد أتحمل يا عزيزي، دماغي أصبح أسودا تتراقص فيه كلمات الموت لا غير. لقد حاولت قتل نفسي مرتين، لكنهما لم تكونا غير محاولتين فاشلتين. الأولى كانت لما مرت ستة أيام على دفنك، لما جننت فجأة فانطلقت نحو البحر وسلمت إليه نفسي، فقدت وعيي، ولما استيقظت وجدت نفسي على الشاطئ، حيث لفظني البحر كما يلفظ أحد حيوانات قاعه الميتة، إلا أنني لم أكن ميتة. مرت أيام فطُردت من العمل، الشيء الوحيد الذي كان يريحني قليلا من التفكير، طردت منه بسبب نوبة أخرى من الجنون الذي كان يزداد بي بوتيرة مخيفة. اليوم التالي، حاولت للمرة الثانية عبر تمزيق رسغيّ. كان الأمر مؤلما إذ أن شفرة الحلاقة لم تكن حادة، إلا أنه لم يكن مؤلما بقدر الألم النفسي الذي كنت أعانيه. باءت تلك المحاولة بالفشل هي الأخرى حين وجدتني أختك، التي كانت الوحيدة المالكة لمفتاح البيت غيرنا، واستعجلت بي للمشفى. فيا لسخرية القدر! ليتها تأخرت قليلا فقط!

إلا أن الثالثة لا بد أن تنهي الأمر، لا بد أن يأتي الرحيل أخيرا، فأرحل. إن العالم بارد جدا هنا، والشعور أمر متعِب بطريقة فظيعة، أما إذا كنت تسألني عن الحياة فقد رحلت الحياة بألوانها معك، لم أعد أراها، ولم تعد تراني.

تمنيت لو بقيت هنا معك، وطالت لحظات الحديث المسالمة هذه، إلا أنه علي أن أذهب فقد أتأخر عن مشتري الشقة. إنه شخص لطيف للغاية، يترقب بحماس انتهاء إجراءات البيع كي ينتقل إليه مع محبوبته. ربما هو هذا الأمر الوحيد الذي يجعلني سعيدة ولو قليلا، فأخيرا ذلك المكان سينتهي من وقته الكئيب معي كي يلبس حلة جديدة.


أطلقَتْ صراخا صامتا ثم مَسَحَتْ عنها عَبَراتها. كان الجو قد أصبح أدفأ مما كان عليه في الصباح فنزعت عنها وشاح عنقها كي يُرفع الستار عن سلسلة فضية بيضاء كالثلج على صدرها. وضعت الوشاح جانبا، وتلمست القلادة لثوان ثم نهضت بسرعة كأنها تتهرب من شيء ما.. مِن أفكار جامحة أكبر من أن تستطيع التعبير عنها. شهقت فأخذت من الهواء نفسا طويلا أنعشها قليلا، وما أنعش هواء البحر وما ألطفه! ثم بدأت المشي على رصيف بمحاذاة الساحل ناوية العودة بأسرع وقت. لكم هو شعور كريم أن يكون للإنسان وجهة، حتى لو كانت نحو بيع شقته دون أن يدري أين يذهب لاحقا.

الهدوء لا يتخلله إلا أصوات الموج الأزرق، التي تخبو كلما ابتعدت سييل عنها، وأصوات خطواتها وخطوات شخص وراءها. سقطت دمعة منها فمسحتها سريعا وسرعت بذاك خطواتها، ولم تدر أن الخطوات التي وراءها تسرع بدورها. فجأة أمسك صاحبها معصمها وناداها باسمها بصوت متهدج كي تدور تجاهه وهي بالكاد تصدق ما تراه. كان فمها مفتوحا دون أن تتفوه بكلمة، وعيناها مركزتين على عيني هذا الذي أمامها. أخيرا أغلقت فمها وتحول وجهها إلى وجه رضيع يوشك على البكاء، ثم قالت متوسلة قبل أن تنهار فاقدة وعيها: "أرجوك كن حقيقيا".

----------------------------------------------------------------------------------------------------------

من يكون برأيكم ؟ 

من قرأَ جيداً ما سبق سيعْرِف بسُهولة

:)

التعيس | Le Malheureuxحيث تعيش القصص. اكتشف الآن