إلى أين تتجه الآن والظلام قد بدأ ينزل؟
لم يكن يؤنسها إلا النسيم البارد، وأضواء الشوارع التي تضيء واحدا تلو الآخر؛ لم يلِج فمها منذ الصباح غير سيجارتين وبعض المياه التي طلبتها من مقهًى شعبي؛ ولم تكن تفكر بشيء ولو حتى بمكان مبيتها. استمرت بالمشي إلى أن وصلت أمام حانةٍ، ودخلت كي تشتري زجاجتي خمرٍ قوي، وضعتهما في حقيبتها، ثم خرجت.
استمرت في طريقها دون أن تكون لديها وجهة محددة، فتذكرت نفسها في الصباح حين كانت تتجه نحو شقتها، وحين كانت تفكر بأنه لشيء كريمٌ أن يكون للإنسان وِجهة.
مرت ساعتان أو أكثر، قبل أن تصل إلى مكانٍ بعيد شيئًا ما عن المدينة، عن تلك المدينة التي تكرهها. كان أمامها حقل كبير ملمَسُه ناعم فحزرت أنه مليء بالعشب الندي، لم تكن ترى لونه بسبب الظلام. ووراءها تركت الطريق الذي سلكته، أما عن آخر البِنايات فلم تعد تظهر إلا على شكل نقطة صغيرة.
وضعت حقيبتها جانبا، ثم استسلمت للتعب، ورمت جسدها الهزيل على العُشب دون أن تخاف من الحشرات. استلقت هُناك وهي تنظر إلى السماء، مُتنفسة الصعداء.. تكلمت بصوتٍ بدا كأنه يخرج من أعماقها: " آه، السماء.."
وفعلًا.. فَآهٍ للسماء. كانت مُقمِرةً تلك الليلة، والنور وُزع على أجزاءٍ من الغيوم كي تبدو كأنها في النهار. النجوم تتخللها، لكنها لم تكُن إلا ذي عدَدٍ معدود، بدأت سييل في عَدِّه مِن أجل أن تتناسى علها تنسى.
إلا أنها لا تنسى.
حولت اهتمامها إلى القمر، وشرعت تتأمله لِعدة ثوان، أو لِعدة دقائق؛ لم تكن تعرف عن الوقت، فهاتفها قد تخلصت منه وبثمنه اشترت الخمر. تذكرت زُجاجتي الخمر، فنهضت بتثاقل، فتحت حقيبتها ثم أخذت الزجاجتين مِنْها.
فتحت الأولى، ثم تجرعت مِن الفوهة كِمية لا بأس بها، ونظرت للقمر ثم مدت يدها كأنها تدعوه للشراب. تجرعت للمرة الثانية كمية أكبر، وصرخت. نظرت للقمر ثانية، ثم خاطبتْه بنفس النبرة التي تأتي من أعماقها:
"آه، آه لك أيها القمر. لكم أكرهك! الشمس المسكينة ترحب بك في أي وقت بالنهار كي تستضيفك، أما في الليل، فتطردها طردا دون رحمة. يا ناكر الجميل!"
تجرعت الجرعة الثالثة، ثم الرابعة، ثم انتقلت إلى الزجاجة الأخرى وأفرغتها في جوفها هي أيضًا. بعد ذلك نعِست، وعلى ذلك العشب الندي، تحت أعين القمر، وبحراسة النجوم والغيوم، نامت.
![](https://img.wattpad.com/cover/255622456-288-k38352.jpg)
أنت تقرأ
التعيس | Le Malheureux
Romantikفي أصوات الرياح، داخل قطرات المطر، على جدران الشقة القديمة، وبِرائحة البحر القديم.. كلها تحمل ذكريات زمنٍ أسير.. "من التعيس حقا؟" يتساءلون..