أَيُّهَا التعِيــس

500 53 37
                                    

إلى الأيام التي حلمنا بها ولم تتحقق، إلى الغيوم التي حرست حبنا منذ البداية ثم تلاشت، إلى الأسقف التي ظللت ذكرياتنا وقبل أيام تهدمت، إلى قلبك الذي حمل أكثر مما استطاع فاتخذ من قلبي مسكنا له إلى الأبد، إليك يا أيها التعيس. لقد جئت إلى هنا كي أنفرد بنفسي وأفكر بك، وأرى أشباحنا تتحرك أمامي في هذا المكان الذي اعتبرناه مكاننا، جنتنا وملتقى أرواحنا، مقعدنا المزخرف هذا بقرب الساحل. لطالما ظننت أننا سنحيا إلى أبد الدهر، ولا شيء سيكون عائقا لنا مادام دفء قلبينا وطهرهما يغطيان على كل شيء، لكني كنت مخطئة.. فها أنت بعيد بعد السماوات عني، وأنت الذي كنت قبل هذا أقرب القربى إلي.

أيها التعيس، أ تتذكر كم أحببت أن أناديك بالتعيس؟ إني أتذكر الأمر كأنه قبل أن أرمش آخر مرة. أشياء كثيرة أردت قولها وفعلها ليتك تكف عن تعاستك، لكنك كنت مقتنعا أن التعاسة هي ما شكلك وهي ما جعلتني أحبك. لا أعرف إن كان هذا صحيحا.. ما أعرفه أنني حقا أحبك، وأنني أشتاق لك. أحيانا أتساءل هل رحلت حقا؟ كيف يخطفك الموت مني من دون حياء؟ لو علم ما كان بيننا لتردد في أخذك، بل لاستأذنني قبل ذلك. أعلم أنه لن يستطيع قبول طلبي لعدم أخذك، لكنه سيقبل حتما أخذ روحي فنموت معا مرة واحدة.. لكان هذا أفضل بكثير من حياتي التي أصبحت آية في التعاسة.

أيها التعيس، ترى هل تراني من فوق كما تقول أفواههم عن الأموات؟ هل ترى بكائي كل مرة أفكر بك؟ هل ترى أحلامي المليئة بك؟ هل ترى ألمي؟ كم كنت أنانيا لما لم تخبرني بعلتك، أنانيا تجاه نفسك كما كنت دائما. لم ترأف بك ولو لثانية، وآثرت أن تتعذب وحدك. لماذا فعلت ذلك وقد أقسمنا على مشاركة السراء والضراء؟ لا ألومك يا عزيزي.. اعذرني لو بدا الأمر كذلك.. إني لألوم نفسي، أنا التي لم أشعر أبدا بذرة من مرضك وألمك. ما كان علي تصديق أن هالاتك السوداء هي فقط بسبب الأرق، وأن نومك الكثير بسبب تعب العمل المضن، وأن نحول جسمك بسبب أكلك غير المتكامل.. ارجع لي.. ارجع لي أو اجعلهم يسرعون لضمي إليك.. إنك لم تلق وداعا لائقا حتى!

أيها الغالي الكريم، إنني اليوم سأغير الشقة. صدقني ليس سهلا علي أن أتركها وهي التي كانت لنا جناحنا السعيد، لكن جناحنا السعيد هذا بدونك ليس إلا مجموعة من الغرف الخاوية الباردة، يملأها الغبار والكآبة كأنها تحزن لفراقك هي أيضا. الشمس لم تقربها أبدا منذ أن رحلت، حتى إن فعلت فإن أشعتها لا تتجاوز نافذة المطبخ وسريعا ما تتولى كأنها استشعرت تعاستك التي فارقْتَها لما ذهبت.

إن أشواقي إليك لا تنتهي. وإني أخشى أن أبقى هكذا طيلة حياتي، أخشى أنني لن أصدق قط خبر موتك، وأخشى أن روحي لن تهنأ أبدا.. وكيف يحصل هذا وأنت الذي كنت هنائي الوحيد؟ عيناك كانتا منزلي والآن بدونك أنا مشردة.

إلى جانب اشتياقي لك، فإني أشتاق لأبي. ما زال غاضبا على زواجنا وقاطعا لي بسبب هذا. ليته يدري أية حالة وصلت إليه ابنته الصغيرة! كثيرا ما تأتيني أحلام يقظة عنه، حيث أنغمس في حضنه ويربت على كتفي كي يقول لي: "سيكون كل شيء بخير، آمني بالله" كما كان يقول لي دائما. رغم أني ألحدت منذ زمن طويل، إلا أني آنذاك سأؤمن فقط لأنه قالها هو. لكم ستكون حياتي أقل مرارة لو كان معي! ولكم ستكون أكثر حلاوة لو كان معنا! لست نادمة على ميثاقنا، فبناؤه كان متينا وحبنا كان وما زال طاهرا نقيا لا تشوبه شائبة. أما إن رجع بي الأمر إلى الوراء فيا فرحتي.. سأتزوجك مرارا وتكرارا دون تفكير.. إلا أنني أشعر بالأسف تجاه نفسي كثيرا.. ربما لو لم أنفعل بغضب حين رفض أبي علاقتنا ولو لم أتصرف بطيش، دون محاولتي كي أحادثه برفق وهدوء كما نصحتني آنذاك، لما وقع هذا كله.. ربما..

أيها التعيس، دعك مني وأخبرني عنك. هل تشتاقني كما أشتاقك؟ هل روحك بخير يا عزيزي؟ يا ترى هل ما زالت آلة التصوير لا تفارق يديك؟ أعلم جيدا عشقك للتصوير وللملاحظة. إن وجهي تتخلله ابتسامة صغيرة كلما أتذكر وجهك الملاحِظ، حينما تتخلل نظراتِك الجديةُ وقوةُ البديهة، وتزم شفتيك ثم تنطق بهمس وعشوائية بنات أفكارك، وأخيرا ترفع آلة تصويرك وتضعها أمام عينك اليمنى؛ كبسة زر فينطلق منها ذلك الصوت المميز الذي يجعلك تبتسم حتى تظهر نواجدك، لكم كنت أعشق ابتسامتك تلك.. لم ترم أية صورة، كنت دائما تحافظ عليها حتى لو لم تكن مناسبة. "جيدة أو سيئة، لا يهم. المهم أنها مأخوذة من عالمي" كنت تقول. والآن، هي كل ما تبقى لي من عالمك، صورك كل ما تبقى لي والذكريات التي تغزوني دون أن ترتاح لثانية واحدة. إنك يا تعيس رحلت، فأصبحت أنا التعيسة، أنتظر بدوري الرحيل.

---------------------------------------------------

شُكراً للكل حقاً، لا أستطيع أن أُوافيكم حقكم..

هذه القصة بدأتُها في يومٍ كنتُ فيه بأمس الحاجة.. ربما تعجبكم، ربما لا..

شاركُوها إن فعلتُم..

أحبكم من أعماقِ قلبي الصغير 

التعيس | Le Malheureuxحيث تعيش القصص. اكتشف الآن