لا أَحد يَنصتُ لي

109 27 12
                                    

كنت أشتكي إلى من يسمع شكواي، فأجد أن لا أحد ينصت لي.

أخيرًا، توقفتُ عن الحديث والكلام، رغم أني لم أجد طريقًا آخر للسلام، وعلى تلك الحال ولَّت الأيام.

أيام عديدة، تجاهلت فيها آلاما لا تُشفى بل تزداد حدة، كنت أتناسى، إلا أن نسيت.

أو هكذا ظننت..

وجدت نفسي أجمع شتات نفسي من أجل نفسي، حصلت على عمل، على شقة متواضعة، ثم سكنْتُها.

أشياء كثيرة حدثت بعد ذلك، ولم أعرف حتى وجدت نفسي بين أنقاض الجحيم نفسِه بعد أن حاولت الهروب منه لمرات عديدة. بلاني الإله بالهيروين ومشتقاته، وأصبحت ضرورة بالنسبة لي، ضرورة أكثر أهمية من الطعام والشراب والنوم.

ثم تحولت، بعد إصابة أمي بالمرض، إلى شخص جديد تماما. لم تكن خطوة سهلة، لكن طردي من العمل، إفلاسي، إخلاء الشقة، الماضي... كلها ساهمت في إخراجي من الجحيم ذاك. وجدت نفسي آنذاك أجمع شتات نفسي للمرة الثانية.

وبعد أن ظننت أن كل شيء بخير، أن كل شيء مثالي، تَظْهر. بعد ست سنوات كاملة، تظهر. بلاء آخر من الله؟ لكن كيف تكون بلاءً والبلاء نفسه يخجل من وجهها وقلبها المعطاء؟ يا ترى هل ما زال قلبها معطاء كالماضي؟ وكيف لا يكون ووجهها هو نفسُه؟ فَلَمِرآة القلب هو الوجه، خُصوصا هي.. لكن وجهها تغير، أنا أعلم مِنها بتفاصيله وهو قد تغير حقا. فَهل أفرح لهذا التغير أم أحزن؟ يا إلهي! لقد نلت من الحزن كفايتي فمتى أنال من السعادة المِثل؟

- مرحبا أمي، لقد عُدت..

قال بصوت مُرهق بعد دخوله إلى البيت. تقدم نحو غُرفة نوم أمه، فلم يجدها بها. أصدر زفيرًا ثم نادى بصوت أعلى جيس، الممرضة المُكلفة بأمه في غيابه، والتي لبت نداءه فورًا.

كانت جيس في الأربعينيات، امرأة تتسم بأَمارات الوقار والرحمة، ولهذا اختارها كي تكون الممرضة الخاصة بأمه. لما توقفت أمامه ابتسمت وقالت بصوت حانٍ:

- تبدو مُتعبا يا دوريان.

- إني كذلك. أين والدتي؟

- إنها في البهو أمام المدفأة تمثل بأنها تطرز. لقد أعطيت لها الأدوية الخاصة بالليلة إلا حبوب النوم، فقط رافِقها للسرير في وقت نومها وأعطها إياها، ستنام بأريحية وأمان.

- شكرا لك جيس، لا أعرف كيف أرد جميلك.

- إنه عملي يا عزيزي. ارتح قليلا بحق السماء إنك في حالة يُرثى لها.

- لا تقلقي، أنا بخير. يمكنك الذهاب.

وفورا، حملت حقيبتها الجلدية الفاخرة، ودعته ثم خرجت. في حين أنه هو تقدم نحو البهو، وقبل أن يدلف إليه، بقي لهنيهة يشاهد أمه تطرز ثوب الوسادة بأدوات وهمية. مرت لحظات طويلة قبل أن تنتبه له وتنظر إليه بحركة مفاجئة كي تبتسم وترفع نحوه الثوب قائلة:

- لقد صنعتُ فستانا لدميتي التي اشتريتها لي البارحة، ألا يبدو جميلا يا أبي؟

ابتسم دوريان بألم، ثم بدل ملامح وجهه إلا ملامح مرحة زائفة وتكلم دون أن يقترب منها:

- أوه حقا؟

فتحت ذراعيها ثم جرت نحوه كي تعانقه، فيبادلها العناق بقوة وحذر.

- أحبك أبي.

- أحبك أيضا، الآن يجب أن تذهبي للنوم.

- فلنمكث قليلا فقط..

- لا للأعذار. الوقت متأخر..

- طيب أبي.

وكالطفلة الصغيرة، سبقت ابنها بخطوات خفيفة ووجه حزين متذمر لا يستطيع الرفض إلى غرفتها. تناولت الحبوب الناصعة البياض، ثم نمت تحت حراسة أعين دوريان.

التعيس | Le Malheureuxحيث تعيش القصص. اكتشف الآن