● الأدب يتوالد 2

188 53 41
                                    

أولاً لنتفق على فكرة أنه : لا يمكن لأي فرد، موجود وسط مجتمع، أن ينزوي مبتعداً عن التراث الإنساني ويهجره.

حتى لو أراد هذا.

لأنه قبل أن يَعي موقعه سيكون قد تعرّض لكمّ من البيانات المحليّة والعالمية، اللغوية والعقائدية، المرغوبة وغير المرغوبة، بحيث يستحيل أن ينفصل عن هذا الموروث أو يزيله لاحقاً من ذاكرة معارِفه المُسجّلة.

هذه البيانات المُكتسبة والمعلومات السالفة لأي إبداع أدبي تظهر في النصوص الأدبية ويلتقطها القارئ.

نعم، إنها تلك اللحظة عندما تتوقف فجأة عن القراءة لتصيح : ها ! هذا يُذكّرني بكذا وهذا يشبه كذا !

الكاتب قد يتعمّد إدراج موروثه الثقافي في النص، بأسلوبيّ الإيحاء والغموض لينقل إلى القارئ مفاهيم ومعلومات معينة ومقصودة.

وقد لا يتعمّد، لكنها تنفذ منه إلى النص، دون أن يعي ذلك، فيفهمها القارئ الموجود في مكان معين وزمن معين. أي يمكن أن تُفهم في بلد معين عدا عن غيره، أو في المستقبل اكثر من الحاضر.

■ ما تأثير هذا الموروث؟

هكذا يكتسب النصّ معنىً (مقصود) من مؤلفه، ومعنىً آخر من قارئه الذي ترجم الإشارات الثقافية فيه، وقد يتطابق المعنيان أو يختلفان.

[[🐱 مثال توضيحي : قد يُدرج الكاتب رمزية اللون الأحمر قاصداً بها الدماء والحرب بينما يفهما القارئ كرمز للرغبات والوحشية. ]]

هذا التبادل في المعنى بين النص والكاتب وبين النص والقارئ أُطلق عليه بدايةً مصطلح (الحوارية) من قِبل الناقد الروسي باختين Bakhtin.

■ اممم .. وماذا لو تشابهت المرجعية الثقافية لعملين؟ (مثل هاري بوتر وسيد الخواتم) أو فسّر القارئ عدة أعمال تفسيراً متشابهاً؟
(كما حصل عندما تم ربط هاري بوتر مع فلم المصفوفة The Matrix باعتبار العملين ماسونيين لعرضهما فكرة البعث والرجل المُختار) ؟

إن تداخل المعنى الذي يخلّفهُ النصّ عند القارئ مع معنى أو فحوى أو هدف نص آخر، يعرفه مسبقاً، لا يمكن أن يحدث بمحض الصدفة ولا يكون عشوائياً أبداً.

إذا حصل التشابه فإنه يحصل وفق احتمالات وإمكانيات. وهو يحصل لأن المؤلف يملك خلفية فكرية مترسبة، خلفية غنيّة بمعاني ورموز مشتركة مع بقية البشر.

[[🐱 يعني، وفقاً للمثال السابق : بعض القراء سيفهمون رمزية اللون الأحمر كتلميح للحرب والدماء، والبعض سيفهمونه كرمز للرغبة والوحشية والبعض كرمز للحب، لكن لا مجال لرمزيات أخرى، لأن هذا حدود ثقافة البشرية بشأن هذا اللون. ]]

فالكاتب، الذي بدوره قارئ ووريث ثقافة، يخزّن في ذاكرته ما لا يُعدّ ولا يُحصى من النصوص والأفكار، من شتى الأنواع، العقائد، القوميات، اللغات، والأساطير.

هذا التراكم للنصوص هو ما أطلقت عليه الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا (Gulia Kristeva) مصطلح (التداخل النصّي) والمُسمّى عربياً بالتناص.

إذاً 》 التناص (التداخل النصي) هو اشتراك عدّة روافد نصيّة في تشكيل نص أحدث.

أي كأنها عدّة أنهار صغيرة تصب في نهر واحد كبير والذي بدوره يصب في بحر، النهر الكبير هو عقل المؤلف والبحر هو الإنتاج الأخير والإبداع الذي ينتجه المؤلف.

وعليه يمكن فضّ الجدل السابق ذكره. دانتي ألغيري في (الكوميديا الإلهية) لم يتأثر بأبي علاء المعري و(رسالة الغفران) إنما النصوص الدينية المتشابهة القابعة في الخلفية الثقافية لدى كل منهما هي ما خلقت هذا التشابه.

ويبقى للمعري الأسبقية في طرح الفكرة.

■ ألا يوجد بحر لا يصب به أنهار؟ ألا يوجد عمل لم يتشكّل من روافد نصية؟

رونالد بارت Ronald Barth اضاف للطروحات السابقة، أن كل نص هو تناص، تتراءى فيه نصوص كثيرة، بمستويات متفاوتة فيجمع بذلك أكثر من صوت وأكثر من ثقافة في داخله.

أي أن كل نص هو عبارة عن تكدّس من النصوص والاستشهادات السابقة لتأليفه.

النتيجة؟ 》》إن ما تثبته هذه الدراسات النقدية المُعاصرة هو أن : ما من نص أصيل بالتمام المُطلق !

(🐱 : لنحفظ هذه النتيجة جيداً)

حتى لو ظنّ المؤلف أنه خلق فكرة ما خلقاً من غير أي مؤثر، فالمُؤثر (مصدر الإلهام) موجود ولا بد في لاوعيه.

■ يبقى السؤال: كيف نقيس درجة الإبداع في النصوص الأدبية في حين أن كل نص هو وليد التحامات متعددة ومتداخلة؟

____________________

منشن لمن تريده أن يقرأ هذا الكلام + ⭐👇

STR || أصول الفانفيكشن - الأدب الاشتقاقيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن