● التجربة الأولى

658 90 54
                                    

من يستطيع تحديد متى بدأ فن القصّة؟ مُضحك ! لنُعِد تشكيل السؤال .. أي شكل سيتخذ هذا السؤال؟ متى بدأت القراءة؟ لا .. متى بدأت الكتابة؟ الكلام؟ ليس أي منها.

فالإنسان روى قصصاً عبر الرسم قبل الكتابة وعبر الإشارة قبل النطق. وعلى الأرجح حبك القصص في مخيلته قبل أن يجرؤ على التعبير، كيف عرفت؟ .. هذا لأن جميعنا فعل.

يا عزيزي، نحن لسنا بحاجة للعودة إلى البدايات البشرية لنعرف، نحن نعايش مراحل هذا التطور كأفراد أثناء النمو.

كل عقل بشري يحيك قصصاً بالفطرة منذ الصِغر وحتى الممات وتتخذ هذه القصص أو الخيالات أشكالاً عِدّة، أمنيات، مخاوف، أو تنبؤات. تحديد دوافع وأسباب هذه الميّزة يحتاج بحوثاً طويلة ليست من تخصصي.

لنتحدث عن تجربة أكثر خصوصية، أنت وأنا.

حتى مع استبعاد الأشخاص الذين يُعتبرون موهوبين بالفطرة، وموهبتهم تظهر في عمر صغير أو تتفجر فجأة، إن لم تكن من الأطفال والمراهقين الذين حوت دفاترهم مقاطع متفرقة من الشعر أو من قصة ما، فأنت حتماً سبق أن شردت في خيالك وسهوت في دقيقة هدوء، قبل النوم ربما، لتتخيل أحداثاً وتُسلسِلَها.

أحداث لحياتك، للأيام القادمة، لمستقبلك وربما، أقول ربما، تتمة مسلسل تتابعه، رواية تقرأها، أو نهاية مختلفة لفيلم شاهدته.

فهذا نوع من التفكير.

أنا كذلك فعلت. وللأمانة، لعلّي فعلت هذا أكثر من المألوف إذ أفضى هذا النشاط الفكريّ إلى ممارسة فن كتابة الرسائل في عمر السادسة، ونظم بعض الشعر في العاشرة.

ثم ساعدت الكثير من رفاقي في الوظائف المدرسية التي تتضمن مواضيع تعبيرية في الثانية عشرة، وأبناء أقاربي في السنوات التالية.

أؤكد أنني لست ذات موهبة، وفي ذلك العمر لم أكن (بالطبع) محترفة.

إنه فقط نتيجة التفكير المكثّف والحفر وراء كل فكرة وكل إشكال، بالنسبة لي الأمر ممتع وحسب.

ولن أنسى ذِكر عُمر السادسة عشرة، حين كنت أجلس في حلقة يشكّلها زملائي في المدرسة لأعيد عليهم سرد قصة فلم شاهدته أو قصة شبيهة مستوحاة منه، ارتجالاً لتسليتهم، وكيف كنت أغير النهاية والأحداث كلما اعترضت إحداهن على نقطة او شخصية.

في سنوات قليلة لاحقة تعرّفت موجة الهالو وأحببت، كمراهقة، الكثير من مشاهيرها. أحببت مواهبهم وأساليبهم الترفيهيّة وما أسعدني حين تعثّرت بقصة مُختَلقة جعلتهم ينطقون باللهجة والنكات والسِباب المصريّة.

كان صيداً إضافياً من المرح وفسحة أوسع للخيال. بعد هذه المصادفة العرضية دخلت عالماً واسعاً من القصص الممتعة، و لم أقضي في العالم الورديّ هذا مدة طويلة قبل تلقّي الصفعة.

قصة تعرض شخصية أحبها وهي تتعاطى المخدرات وتمارس المُحرّمات. فقرة واحدة، أقل من عشرين سطراً أصابني بصدمة عاطفية.

استمر هذا لفترة، حتى تفهّمت أن ما قرأته منفصل تماماً عن الشخص الذي أحببت وأنه بريء وبعيد كل البعد عمّا كُتب مع هذا احتجت لمدة أطول لأتعافى فعلاً وتعود مشاعري نحوه كما كانت.

بعد فترة انعزال عدت إلى ذلك العالم مرة أخرى وهذه المرة، على ورقة صغيرة، عبّرت عن رأي المعاكس به، مرة بعد مرة، لأفرغ ما حملت من مشاعر إثر تلك التجربة. ثم تجرّأت وشاركت مقطعاً صغيراً منه.

فيه جعلت الشخصية تتصرف بالطريقة التي أراه بها وأحب أن أراه أنا عليها، على أمل أن هناك من يوافقني.

وحصل.

الكثيرون يوافقونني، يوافقونني في الموقف لكن لم يستمتعوا بمشاركاتي، أحبّوا مشاركات كتاب آخرين. ومعهم حقّ. فالقصص الشهيرة أروع وذات مستوى أعلى يُثير الإعجاب.

أردت فعلاً الوصول لمستواهم وطرح نظرتي على نطاق أوسع، وفي طرفة عين، ها أنا اليوم في المستوى المرغوب. استمتع بالكتابة كما كنت أفعل في أيامي الأولى وأتشارك هذه المتعة المكتوبة والمُسمّاة باسم : الفان-فيكشن مع أشخاص يفهمونني.

STR || أصول الفانفيكشن - الأدب الاشتقاقيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن