خيم الهدوء على تلك البقعة من الطريق السريع الموازى و المطل على ساحل البحر في ذلك الوقت من العام في شهر سبتمبر... و قد بدأت الدراسة و غادر المصيفين عائدين إلى منازلهم لتخلو المدينة إلا من سكانها الأصليين الذين تنفسوا الصعداء بعد انتهاء الموسم الصيفي و عودة الهدوء إلى مدينتهم... بينما يستغل قلة من المصيفين من محبي الهدوء هذا الوقت للاستمتاع بشاطيء البحر قبل حلول فصل الشتاء و موسم الأمطار...
كانت إطارات السيارة تنهب الأرض على ذلك الطريق حينما مرت بتلك البقعة سريعاً ليلوح لهم ماء البحر برونقه و أمواجه المتلاحقة... بينما داعبت رائحة اليود الذكية أنوفهم لتلتفت الأم إلى طفلها الصغير الذي يبلغ من العمر أربعة أعوام في مقعد السيارة الخلفي و قد حد حزام الأمان من حركته لتجده يقاوم النعاس بصعوبة بالغة... حاولت مداعبته و لكنه جاوبها بابتسامة متخاذلة بينما النوم يداعب جفتيه بقوة...
الأم : هلا أسرعت قليلاً... إن الصغير في طريقه للنوم و سيوقظنا طيلة الليل...
الأب : أنا أقود منذ فترة طويلة بعد انتهاء يوم عمل شاق قبل أن أمر لإصطحابكم و أحتاج إلى النوم بشدة... لقد كدنا ان نصل إلى المدينة ربع ساعة أخرى... حاولي مداعبته قليلاً ليبقى مستيقظاً...
الأم : أحاول و لكن بدون فائدة...
ضغط الأب على دواسة الوقود بقوة ليزيد من سرعته و قد بسط الظلام عبائته السوداء على السماء المرصعة بنجوم لامعة تتناثر حول بدر منير في قلب السماء يعكس ضوءه على صفحات البحر في مشهد بديع... و أخذ الأب يصيح بابنه مداعباً إياه و هو يتمايل بالسيارة يميناً و يساراً في الطريق الخالي تقريباً من السيارات... و ترتفع ضحكات الطفل الصغير مع دعابة أبيه المعتادة و هو يميل به يمنة و يساراً...
الأم : خذ حذرك يا عزيزي فالطريق مظلم...
أجاب الأب ملتفتاً إلى زوجته و هو يقول...
الأب : لن أسمح له بالنوم الآن فلن أستطيع الاستيقاظ طيلة الليل... كما إنني أحاول بذلك أن أبقى مستيقظاً أنا الآخر...
أطلقت الأم ضحكة مرحة و هي تجيب زوجها بحنان بالغ بينما استمرت ضحكات طفلهما مع تمايل السيارة بتلك السرعة...
الأم : أعلم أنك متعب بشدة... أخبرتك أنه من الأفضل أن نسافر في الصباح الباكر... و لكنك أصررت على عدم إضاعة يوم الغد في الطريق...
الأب : لا داعٍ للقلق... ها نحن على وشك الوصول كما أن تلك الدعابة تفلح في إيقاظه دائماً...
الأم : نعم يا عزيزي و لكن بهذه الطريقة سوف توقظ ال... إحترس من تلك السيارة...
كانت جملتها الأخيرة صارخة... فقد فوجيء كليهما بسيارة معطلة يتصاعد الدخان من مقدمتها بينما يحاول قائدها دفعها قاطعاً الطريق ليوقفها إلى جانبه الأيمن... انحرف الأب بحدة ليعبر من أمام السيارة من أقصى يمين الطريق ضاغطا مكابح السيارة بشدة... ليحاول إعادة السيارة لاستقامتها مرة أخرى بعدما كاد أن يعبر إلى جوار السيارة المعطلة... و لكن انحرافه المفاجئ مع ضغطه على المكابح أدى إلى أن فقدانه السيطرة على السيارة التي دارت حول نفسها بحدة قبل أن تمس الإطارات جانب الطريق المرتفع قليلاً بهذه السرعة و الدوران الحاد لترتفع عن الأرض بجانبها بحدة و تقفز كطائر ضخم و هي تدور حول نفسها في الهواء لترتطم بجانبها بذلك الحاجز المعدني على يمين الطريق محطمة إياه و تستكمل طريقها في الهواء خارج الطريق... حبس الأب و الأم أنفاسهما بينما استمرت ضحكات الطفل الصغير الذي ظن أن والده مازال يداعبه... قبل أن يقطع ضحكاته في دهشة حينما بدأت السيارة رحلة الهبوط بقوة و هي تنقلب على ظهرها مصطدمة بصفحة الماء لتثير موجة عارمة من المياه و هي تخترق أعماق المياه الباردة بسرعة بالغة.... حينها تحولت ضحكة الصغير إلى صرخة عارمة...
انتفض (معاذ) بشدة ليقطع من ذلك الكابوس الذي يراوده طيلة الوقت مستكملاً الصرخة ليهب جالساً على فراشه الصغير و أنفاسه تتلاحق بسرعة قبل أن يعلو رنين ذلك المنبه إلى جوار فراشه معلناً انتهاء ساعات نومه كالمعتاد في السادسة و النصف صباحاً...
غادر (معاذ) فراشه بطريقة آلية ليأخذ حماماً ساخناً و يعد كوباً من الشاي الدافيء ليحتسيه مع شطيرة الجبن على المائدة الصغيرة إلى جوار تلك النافذة المطلة على حرم الجامعه الخاوي... كانت غرفته في الطابق الأخير من سكن الطلبة بالجامعة...
لم يكن (معاذ) طالباً بالجامعه... فقد أنهى دراسته منذ عامين لم يغادر فيهما تلك الغرفة إلا ليتوجه إلى محل عمله في مكتبة الجامعة... بل في الواقع هو لم يغادر الحرم الجامعي منذ فترة أطول من ذلك بكثير...
أنهى (معاذ) طعامه و شرابه دون أن يرفع عينيه من على تلك النافذة... و بطريقة آلية حمل الكوب و الطبق الفارغين ليقوم بغسلهما في ذلك الحوض الصغير في ركن الحجرة و يعيد ترتيب فراشه الصغير الذي يتسع فرداً واحداً... ثم يتوجه إلى خزانة الملابس ليقوم باستبدال ملابسه سريعاً و يتناول سلسلة مفاتيحه التي كانت تحتوي مفتاحين فقط... مفتاح غرفته و مفتاح المكتبة... توقف للحظة أمام تلك المرآه القديمة المثبته على الحائط ليمشط شعره و يغادر إلى عمله...
كان اليوم هو الأخير من أيام إجازة نصف العام الدراسي لسنة 2050 و قد بدأ الطلبة يتوافدون على السكن عائدين إلى غرفهم استعداداً لبدء الدراسة من الغد... لم يكن (معاذ) يكترث بتلك العيون التي تلاحقه و تتطلع إليه و هو يهبط من الطابق الأخير من ذلك المبنى الشاهق الضخم المخصص لسكن الطلبه المغتربين... كان معتاداً على تلك الوجوه الغريبة التي تطالعه يومياً منذ أن يستيقظ في الصباح... بعضهم كان يحاول التحدث إليه و بعضهم كان يحاول مضايقته أو حتى التحرش به أو إيذاؤه... لكن رد فعله كان واحد دائما... التجاهل التام...
لم يكن (معاذ) يتحدث إلى أحد على الإطلاق حتى أن الجميع كان يعتقد أنه أبكم... لكن بعض الطلبة القدامى يؤكدون انهم سمعوه يتحدث مره أو مرتين خلال فترة دراستهم في الجامعه و لكنها كانت كلمات مقتضبة يعود بعدها لصمته الدائم...
لم يكن الفارق في العمر بينه و بين الطلبة كبيرا بل هو في مثل أعمارهم تقريباً و إن سبقهم في إنهاء دراسته نظراً لظروفه الخاصة... فهو على وشك ان ينهى عامه العشرين بعد شهور قليلة... كان من الصعب ألا يلتفت نظر الطلبة – خاصة الفتيات - إلى ذلك الشاب الوسيم طويل القامة قوي البنية رغم نحافته بمنكبيه العريضين و وجهه صلب الملامح واضح الرجوله و تلك العينان الرماديتان ذات النظرات الحادة التي لا تلتقي أبداً بعيني أحد...
كانت الساعة تدق الثامنة تماماً حينما كان (معاذ) يدير مفتاح باب المكتبة في رتاجه ليدلف إلى داخل المكتبة و يجلس على ذلك المكتب الصغيرو هو يتنفس الصعداء... كان ذلك هو المكان الوحيد الذي يشعر فيه بالراحه بين عشرات الآلاف من الكتب المستقرة على الأرفف في هدوء...
لم تمض بضعة دقائق حتى فتح باب المكتبة لتدلف منه (علية) تلك العجوز الحنونه أمينة المكتبة التي جاوزت الستين من عمرها... لتلقي نظرتها و بسمتها الحانية على (معاذ) كعادتها كل صباح و هي تقول...
علية : صباح الخير يا ولدي... كيف حالك اليوم؟؟
يبتسم (معاذ) ليجيبها بصوته العميق الرصين الهاديء...
معاذ : في خير حال يا أستاذتي...
كانت تلك هي جملة من جملتين ينطق بهما (معاذ) يومياً... أما الثانية فهي (إلى اللقاء يا أستاذتي) بعد ان تودعه (علية) في المساء... بخلاف ذلك تظل شفتاه منطبقتين حتى الثامنة مساء موعد مغادرة (علية) و يظل هو حتى العاشرة مساء ليعيد تنظيم الكتب و إعادتها إلى اماكنها على الأرفف... ليعود إلى غرفته في مبنى سكن الطلبة مرة أخرى...
جلس (معاذ) يطالع أحد الكتب بينما كانت عقله منشغلاً بذلك الكابوس الذي عاد ليطارده مرة أخرى... كان قد أنقطع عنه لفترة طويلة منذ أن كان في دار رعاية الأيتام قبل ذلك الحادث الذي أدى إلى نقله إلى مستشفى العلاج النفسي التابع للجامعه و هو في العاشرة من عمره... ليقضي عدة سنوات مستكملاً دراسته في جناح الاحتجاز بالمستشفى تحت ملاحظة أطباء الجامعة... قبل أن يستطيع مدير المستشفى أن يحصل على موافقة إدارة الجامعه بمنحه تلك الغرفة و الوظيفة في مكتبة الجامعه و هو بعد في الثامنة عشرة و قد استطاع اتمام دراسته الجامعية في كلية الآداب و هو محتجز بالمستشفى الجامعى... و لكن ها هو نفس الكابوس يعاوده مرة اخرى بنفس التفاصيل و نفس الأجزاء المتقطعة بترتيبها...
كان يعلم أي جزء سيعيشه في كابوس الليلة و كيف ينتهي... و لكن لماذا؟؟ لماذا يعيش الرعب و الفزع في نومه... لقد كان النوم هو مهربه الوحيد من ذلك الكابوس الذي يعيشه كل يوم من صغره... تلك المشاهد المفزعه و الوجوه المرعبه التي يطالعها طيلة الوقت في كل مكان حوله... في غرفته في مبنى سكنه... في طريقه في حرم الجامعه و حتى في المكتبه... لقد استطاع أن يعلم نفسه تجاهلهم حتى يقنع الأطباء في المستشفى الجامعي أنه قد شفى من تلك الهلاوس و الخيالات التي يراها كما تم تشخيصه... و جرت محاولات علاجه دون جدوى طيلة ثمان سنوات... لقد أدرك أخيراً انه الوحيد الذي يراهم... و أن أحداً لن يصدقه حينما يخبرهم بما يراه...
كان من اليسير عليه أن يعرف أن أصحاب الوجوه المفزعة ليسوا من البشر... و لكن ذلك النوع الآخر الذي يظهر في نفس هيئة البشر كان يخدعه دائماً... تذكر تلك الطبيبة الجديدة التى أتت برفقة طبيب الملاحظة بينما هو يتجاهلها و كأنه لا يراها ظناً منه أنها أحد تلك الأشياء التي يراها... ولاحظ طبيب ملاحظته ذلك مما أخر إعلان شفاؤه عدة أشهر...
أدرك أن هؤلاء أشباه البشر لا يظهر لهم انعكاس في المرآه و لا تلقي أجسادهم ظلالاً... أدرك أنه طالما لا ينظر مباشرة في اعين الآخرين المفزعين فلن يتمكنوا من إختراق عقله و لا قراءة أفكاره... تعلم تجاهلهم جميعاً... تعلم أن يعيش وحده وسط كل تلك الحشود من المخلوقات من حوله... شيئاً واحد لم يدركه حتى الآن... سؤال واحد لم تجيبه مئات لكتب التي قرأها... سؤال يلح عليه و يبحث عن إجابته منذ سنوات طويله... لماذا هو؟؟؟
مر اليوم وفي المساء عاد إلى غرفته حاملاً شطائر عشاؤه و إفطاره... فمن الغد سيبدأ الطلبة في التوافد إلى المكتبة مع بداية الدراسة... سيزاحم البشر تلك الأطياف و المخلوقات في عالمه و ستبدأ معاناته مرة أخرى...
تناول عشاؤه على نفس المائدة على الضوء الخافت و هو يتطلع من نفس النافذة متجاهلاً تلك المرأة التي تقف إلى جواره و قد انسدل شعرها على وجهها و كتفيها و قد برزت مخالب حادة من يديها التي تقطر دماً... تناول مشروبه الدافيء غير مبال بذلك الطفل المتعلق بسقف الغرفة يناديه ليلعب معه... لم يبد اهتماماً بذلك المخلوق المختبئ تحت الفراش و قد تألقت عيونه الحمراء في ظلام الغرفة... بينما كانت السماء تنذر بهطول الأمطار...
حان وقت النوم و العودة لاستكمال كابوسه المعتاد... كان يعرف ذلك الجزء من الكابوس جيداً... كان يشعر أنه هو سبب تلك المعاناة التي يعيشها منذ نعومة أظفاره...
استلقى (معاذ) في فراشه... ها هم يتجمعون حول الفراش ليقفوا من حوله... لكنه لا يبدى أي اهتمام لهم... هو يعرف كل منهم جيداً... ليسوا من ذلك النوع الذي قد يسبب له الأذى... سيبقون في اماكنهم حتى الصباح دون حراك طالما لم يشعروا بخوفه منهم... هذا هو هدفهم فقط إفزاعه و لكنه لن يبلغهم هذا الهدف... سيغلق جفنيه و يخلد إلى نوم عميق حتى الصباح...
اندفع الماء إلى داخل السيارة بينما تغوص لأسفل ممتزجة بدماء الأب التي تندفع بغزارة من جرح رأسه العميق إثر إصطدامه بجسم السيارة المعدني ليلقى ربه على الفور... بينما كانت الأم تجاهد لتتحرر من حزام الأمان العالق نتيجة الإصطدام... كان الماء يرتفع سريعاً في السيارة و هي تغوص في ظلمات البحر بينما لازالت مصابيحها الأمامية تبدد ظلام الأعماق... الأم تلتفت إلى الطفل في المقعد الخلفي في ذعر و قد علقت ساقها المحطمة في ثنايا جسد السيارة المحطم جراء الإصطدام... كانت تصرخ و تبكي و هي تحاول الحركه بينما الماء يعلو سريعاً بلا أدنى أمل في النجاة...
بدأ ضغط الماء يزداد على سطح زجاج السيارة الأمامي الذي انتشرت به تلك الشروخ و بدأت تتزايد بشدة كلما غاصت السيارة لعمق أكبر... كانت الأم تراقب الزجاج بذعر بالغ و صراخها و بكاؤها يتزايد... الماء يتدفق بغزارة إلى داخل السيارة ليتقلص الأمل المتبقى في قلب الأم... بدأ الزجاج الأمامي يتقعر إلى الداخل بفعل ضغط الماء ليصبح من المؤكد انهياره في أي لحظة...
لكن هذه اللحظة أتت سريعاً جداً... إذ انفجر الزجاج ناثراً قطعه الصغيرة في وجوه الركاب ليسمح باندفاع الماء إلى داخل السيارة دفعة واحدة... الهواء يتضاءل في صدر الأم... وجهها يتحول إلى اللون الأزرق تدريجياً... تجحظ عيناها بشدة و هي تلقي بنظرة أخيرة إلى الطفل في المقعد الخلفي الذي غطاه الماء و يبدو أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة... في تلك الللحظة برزت تلك العينان المتألقتان تقتربان بسرعة فائقة جهة السيارة الغارقة... ترفع الأم كفيها طلباً للمساعدة بينما الماء يندفع إلى داخل رئتيها... بينما كانت صاحبة العينان المتألقتان قد بلغت السيارة لتلقي نظرة عبر فتحة الزجاج الأمامي المهشم... و هي تمد يداها الزرقاء جهة الطفل داخل السيارة و يظهر ذلك الوجه الأنثوي الأزرق أمامه بوضوح... يدها الزرقاء تمس جبين الطفل في المقعد الخلفى ثم تظلم الدنيا من حوله كأنما يسقط في قلب الظلام...
مرة أخرى يهب (معاذ) جالساً في فراشه و هو لا يزال يشعر بتلك اللمسة على جبينه... كان رفاقه في الحجرة لازالوا ملتفين حول الفراش كما تركهم... لقد انتهى الكابوس مبكراً هذه المرة فلازال ظلام الليل سائداً في السماء بينما الأمطار تهطل بغزارة و تتقافز على زجاج نافذته كأنما تحاول إيقاظه...
غادر (معاذ) فراشه و خلع منامته ليرتدي ملابس أثقل قبل أن يفتح النافذة الطويلة ليصعد على ذلك الإفريز السميك... و بمرونة شديدة يعتلي ذلك السور المعدني ليجلس تحت الأمطار متأملاً في هذا الارتفاع الشاهق... و وجه تلك المرأة الزرقاء نصب عينيه... من هي تلك المرأة؟؟ و ما معنى ذلك الكابوس الذي يعود ليطارده مرة أخرى بعد كل تلك السنوات بأدق تفاصيله؟؟
أخذ (معاذ) يسترجع ذكريات طفولته و ما أخبرته به الأم البديلة في دار الأيتام... لالزال هذا الحوار يتردد في أذنيه منذ صغره بكامل تفاصيله حتى نبرة الصوت... كان جالساً خائفاً في فراشه من تلك الأشكال المرعبة التي يراها حوله... لم يكن يستطيع النوم وسط تلك المخلوقات بينما بقية الأطفال في حجرته يغطون في نوم عميق... حينها دلفت (سعاد) الأم البديلة المسئولة عن رعاية مجموعته لتطمئن على أطفالها و تجده لازال مستيقظاً جالساً في فراشه و قد ضم ركبتيه إلى صدره و دفن رأسه بين ذراعيه كيلا يرى تلك الوجوه المرعبة... جلست (سعاد) إلى جواره في هدوء و مدت يدها بحنان بالغ لتمسح على شعره... جفل (معاذ) بشدة لينتفض متراجعاً إلى الخلف قبل أن يرى ابتسامة (سعاد) الحانية و هي تقول...
سعاد : عذراً يا (معاذ) هل أفزعتك يا صغيري؟؟ لماذا لازلت مستيقظاً حتى الآن؟؟؟
أطرق (معاذ) رأسه خجلاً فقد اعتاد أن يسمع الردود الساخرة حينما يخبر عما يراه حوله و عن شعوره بالخوف مما يحيط به من مخلوقات... و لكن (سعاد) أدركت صمته فابتسمت له و هي تقول...
سعاد : أنا أيضاً لم أستطيع النوم حتى الآن... و كثيراً ما أشعر بالخوف و يمنعني ذلك من النوم...
نظر إليها (معاذ) في دهشة و هو يقول...
معاذ : هل ترين أنتِ أيضاً أشياء يا أمي؟؟؟
سعاد : ليس كل ما يخيفنا تراه أعيننا يا صغيري... بل عندما يكون ما يخيفك تحت ناظريك أفضل من أن يكون مختفياً منك... و لكني أعرف حيلة تساعدني على النوم رغم خوفي...
معاذ : و ما هي تلك الحيلة يا أمي؟؟؟
سعاد : أتناسى ذلك الخوف و أسترجع ذكرياتي و أفكر في وقت ممتع أو شخص أحبه حتى يغلبني النعاس و أنسى كل مخاوفي...
معاذ : و لكن ليس لي ذكريات مثلك... و ليس لي شخص أتذكره حتى والدي لا أدري عنهما شيئاً... هلا أخبرتيني يا أمي كيف جئت إلى تلك الدار؟؟؟ و أين هم والديَ؟؟؟
سعاد : لقد توفى والديَك يا صغيري في حادث سير حيث سقطت سيارتكم في البحر... و لكن أحد الأشخاص كانت سيارته معطلة في نفس الموضع قفز خلف السيارة محاولاً إنقاذكم و لكنه استطاع إخراجك أنت فقط من حطام السيارة و صعد بك إلى الشاطيء و أجرى لك الإسعافات الأولية... و حاولت الشرطة العثور على أقاربك و لكن والديك لم يكن لهما أي أقارب على قيد الحياة... و في النهاية أحضروك إلى هنا لأصبح أنا أمك التي ترعاك أنت و أخوتك في الدار...
معاذ : و لكن إخوتي لا يحبونني... و يتعمدون مضايقتي و السخرية مني طوال الوقت خاصة (حازم)... يتعمد الإختباء و إفزاعي دائما لإضحاك إخوتي و السخرية مني...
سعاد : لا تكترث لذلك يا (معاذ)... إنهم لا زالوا صغاراً لا يعلمون كم أنت جميل في داخلك... و لكني سأعنفهم و أنهاهم عن ذلك... أما الآن فأغمض عينيك و حينها لن ترى شيئاً يخيفك حتى الصباح...
و طبعت (سعاد) قبلة حانية على جبينه و أرخت الغطاء على جسده ليذهب في نوم عميق...
انتبه (معاذ) من ذكرياته على رنين المنبه من داخل الغرفة يعلن مود استيقاظه... ها قد طلعت الشمس و بدأ يوم جديد حافل مع عودة الطلبة و بدء الدراسة... عاد (معاذ) إلى غرفته عبر النافذة ليسكت الرنين و يبدأ يومه المعتاد...
جلس (معاذ) إلى مكتبه بانتظار وصول الطلبة إلى المكتبة ليمروا أولاً على (علية) أمينة المكتبة فتقوم بتسجيل بياناتهم في دفتر المكتبة لتكتب عناوين الكتب أو المواضيع المطلوبة على نموذج ورقي مطبوع لهذا الغرض ثم يتوجه الطالب مقدما النموذج المطلوب إلى (معاذ) مرفقاً ببطاقة المكتبة... و ينتظر الطالب (معاذ) على أحد المقاعد الموزعه على موائد خشبية للقراءة... يقوم (معاذ) بتجميع الكتب المطلوبة من أماكنها التي يحفظها عن ظهر قلب... و يعود منتظراً انتهاء الطالب من قرائته ليعيد له الكتب مرة أخرى فيرد له (معاذ) بطاقته المكتبية دون أن ينطق (معاذ) كلمة واحدة و دون أن تلتقي عيناه بعيني الطلبة...
و كعادة المكتبات... كان الهدوء و الصمت يعم المكان إلا من صوت الصفحات و حركة الطلبة... كانت وظيفة مثالية لشخص في ظروف (معاذ) يكفيه ما يراه في أنحاء المكتبة من كائنات و أطياف تتحرك إلى جوار الطلبة... و مرت الساعات حتى غربت الشمس و لا زال الطلبة يتوافدون إلى المكتبة و لم يتبقى سوى ساعة واحدة على انتهاء ساعات استقبال الطلبة حينما دلفت هي اإلى المكتبة...
كانت كملاك مضيء بعينيها الواسعتين في لون البحر و بياضها الناصع المشوب بالحمرة مع خصلات شعرها الناعم المنسدلة على كتفيها بلون كستنائي في مزيج ملفت... توجهت إلى (علية) لتسجيل بياناتها و أخذ ذلك النموذج الذي يحتوي على عنوان مرجعين في علم النفس...
لم يلتفت (معاذ) إلى وجهها و لكنه أحس بقشعريرة غريبة حينما كان يسجل بياناتها من بطاقتها المكتبية... توجهت بهدوء إلى ركن منزو في المكتبة لتجلس وحيدة بعيداً عن تجمعات الطلبة الذين لم يرفعوا أعينهم من عليها حتى أختفت لتجلس وحيدة على مائدة منعزلة في نهاية المكتبة...
للمرة الأولى يشعر (معاذ) بالتوتر و هو يحضر الكتابين المطلوبين... (حور) اسم غريب غير متدوال مثل ملامحها الجميلة و ذلك الشعور الذي انتابه عند اقترابها منه... حمل (معاذ) الكتابين ليضعهم إلى جوار الكتب المطلوبة الأخرى في عربة نقل الكتب ليسلمهم إلى الطلبة...
قام بتوزيع الكتب على الجميع بترتيب جلوسهم منتهياً بتلك الفتاة الجالسة في نهاية الرواق... شعر (معاذ) بأن الطريق إليها صار طويلاً جداً على غير العادة... أو أنه يشعر بتوتر غريب من مجرد فكرة اقترابه منها مرة أخرى... ماذا بك يا (معاذ) حافظ على هدوءك؟؟ ماذا أصابك؟؟ و أخذ شهيقاً قوياً مستجمعاً تركيزه ليخطو خطوته الأخيرة دافعاً العربة و يتجاوز وحدة الأرفف الأخيرة ليلمحها و قد رفعت رأسها في اتجاهه بانتظار الكتب المطلوبة... و لكن...
توقفت العربة فجأة عندما أمسكت بها يدين قويتين من الجهة المقابلة إلى (معاذ) لمنعه من التقدم... يدين معروقتين لمحهما (معاذ) تمسكان العربة بقوة... و بصورة تلقائية رفع (معاذ) عينيه ليرى صاحب هاتين اليدين...
لقد كان أحد هؤلاء المخلوقات الغريبة... هيئته تشبه جثة بشرية متحللة... عيناه جاحظتان بشكل غريب و ملابسه رمادية رثة متهالكة كسائر جسده... كان ينظر مباشرة إلى عيني (معاذ) الذي تألقت عيناه بلون ذهبي حينما التقت بعينا ذلك المسخ...
توقف (معاذ) في ذهول لدقيقة أو أقل قليلاً كأنما فقد القدرة على التصرف أو الحركة يتطلع في عيني المسخ الذي تحدث إليه أخيراً بصوت متحشرج قائلاً...
المسخ : إحترس... إنهم قادمون... قادمون إليك...
لم يحرك (معاذ) ساكناً وقد فقد الشعور بما حوله كأنما انتقل إلى عالم آخر و قد تغير المشهد من حوله و قد تركزت عيناه على ذلك المسخ... و فجأه...
جفل (معاذ) على يد رقيقة تمس كتفه تبعها صوتاً خافتاً كموسيقى ناعمة يقول...
حور : هل أصابك شيئاً ما؟؟ هل أنت بخير؟؟؟
عاد (معاذ) إلى واقعه مرة أخرى ليستعيد مشهد المكتبة مرة أخرى و قد اختفى المسخ من أمامه حينما التفت لينظر إلى مصدر الصوت...
و لكن ذلك في الجزء القادم من ...
#حيث_لا_ترونهم
#استمتعوا_بليلة_مرعبة
#محمد_الجوهرى
أنت تقرأ
حيث لا ترونهم
Horrorماذا لو أننا نراهم!!؟؟؟ نعم... الجن و الشياطين و الأرواح و الأشباح و الأطياف... ماذا لو رفعت تلك الحجب التي تخفيهم عن أعيننا لحكمه يعلمها سبحانه و تعالى؟؟؟ قال تعالى عن إبليس و قومه من الجن و الشياطين : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَي...