الفصل الحادى والعشرون

1.6K 44 2
                                    



الفصل الواحد والعشرين




احتاجت يارا لبذل جهد لا يستهان به كي تتمالك الخوف الذي اعتراها من استقبال عصام الجاف لها .. تمتمت بخفوت :- أنا آسفة لدخولي إلى مسكنك بهذه الطريقة ... لقد طرقت الباب عدة مرات قبل دخولي .. فشعرت بالقلق حين لم ألق ردا ... أعرف بأنك غاضب .. وربما لا ترغب برؤية أي أحد في هذه اللحظة .. إلا أنني ..
ابتعلت ريقها عندما لاحظت أن جمود ملامحه لم يتغير .. فسألها بصوته البارد :- أنك ماذا ؟؟
قالت بصوت أجش :- أردت رؤيتك ... أردت أن أتأكد بنفسي بأنك بخير .. أردت أن أتحدث إليك وأخبرك إلى أي حد أنا آسفة لما أصاب دنيا ...
:- لا تأسفي .... ربما كان في موتها راحة لها وللآخرين ..
هزت رأسها وهي تقول :- أنت لا تعني هذا .... أنت غاضب وحزين فقط ... أعرف إلى أي حد كان ما حدث مؤلما بالنسبة إليك
قال بخشونة:- أنت لا تعرفين شيئا
:- أمان أخبرتني ..... أخبرتني عن والدتك ...
فجأة ... ملامحه الباردة باتت أكثر خطورة وقد أظلمت عيناه فبدا أكثر اسودادا وهو ينهض ببطء قائلا :- حقا ؟؟؟ هل أخبرتك عن مقتل والدتي بيد والدها ؟؟؟ لا أستغر ب... في الواقع .. لقد توقعت منها أن تلجأ إليك .. الحمقاء تظنك مختلفة ... إلا أنك لست كذلك .. أنت مثلهن جميعا .. صحيح ؟؟
تجاهلت المعنى المبطن لكلماته ... القسوة بين أحرفها .. وقالت متوترة :- لقد كانت قلقة عليك .. وانت كنت تدفعها بعيدا فأملت ..
قاطعها وهو يقف :- أملت ماذا ؟؟؟ ... أن تتمكني أنت من تخفيف وطأة الألم عني ؟؟؟ وماهي الطريقة التي أوصتك بها أمان للقيام بهذه المهمة كي تحصلي على أفضل النتائج ؟؟
أجفلت لفظاظته ولوقاحته الواضحة .. فقالت باضطراب وهي تحس بأن المساحة الضيقة أصلا للغرفة قد ازدادت ضيقا عندما نهض محتلا إياها بضخامة جسده .. قالت بتوتر :- أقدر غضبك يا عصام .. وأنا .. أنا لا ألومك .. وأمان ...
:- أمان أيضا لا تعرف شيئا .. هي تعرف ما اخترت أنا لها أن تعرفه ... في حين أن هناك الكثييير مما لا يعرفه سواي .. أتحبين أن تعرفي يا يارا ... أتحبين أن أخبرك بكامل تاريخي المشرف بما أن أمان تظنك مميزة بالنسبة إلي ... بما أنك شديدة الثقة بنفسك بحيث سمحت لها باقتحام خلوتي في حين أنني أوضحت جليا رغبتي في الوحدة ...
تراجعت إلى الوراء واللون ينسحب من وجهها .. تشعر بألم الرفض ممزوجا بالشفقة عليه .. على الألم الغير محتمل الذي كانت تراه يفيض من كل خلية في جسده .. تمتمت بصوت مختنق :- آسفة ... أنا .. سأتركك لخلوتك إذن وأعود لاحقا .. أنا ...
أطلقت شهقة ذعر عندما أمسكت أصابعه بمعصمها تمنعها من الوصول إلى الباب .. هي حتى لم تلاحظ متى خطا ووصل إليها .. سحبها بحركة واحدة إلى داخل الغرفة .. فاتسعت عيناها وهي تراه يغلق الباب محاصرا إياها معه في المكان الضيق .. قال بخشونة :- لا ... ليس قبل أن تسمعيها مني .. ليس قبل أن تعرفي حقيقة الرجل الذي تتورطين معه .. حقيقة الرجل الذي تأملين أن يمنحك ما تريدينه .. أن يعوضك ما حرمك منه زوجك السابق .. أن يمدك بالدعم المعنوي والعاطفي الذي تتوقين إليه
أسرعت تهتف بيأس مجروحة الفؤاد والكرامة :- هذا غير صحيح ..
قال بنزق :- بحق الله يارا .... ليس هناك من هو قادر على تمييز امرأة جائعة إلى العاطفة مثلي ... وكيف لا أفعل وقد ترعرعت مع واحدة ... لقد قضت أمي سنواتها بعد إنجابها لي هاربة من عائلتها ... إلا أن هذا لم يمنعها قط من الركض وراء الرجال بحثا عمن يمنحها شيئا من العاطفة والحماية ..... أو المال ..
امتقع وجهها وهي تحدق به غير مصدقة فقال بابتسامة شريرة :- ماذا ؟؟؟ هل أغفلت أمان عن ذكر هذا الجزء من تاريخي ؟؟؟ آه ...ما كانت لتفعل لو أنها عرفت ... لا أحد قط عرف بهذا الجزء من حياتي سواي ... أنا من كان عليه أن يراقب أمه وهي توقع بالرجال .. أن يراهم يزورونها في الشقة الحقيرة التي كنت أقيم فيها معها .. أن يراها كلما تعلقت بأحدهم وهي تتوسله في النهاية ألا يهجرها .. والدتي كانت امرأة ضعيفة .. هشة .. لا تعرف للحياة معنى بدون حب رجل .. بدون عاطفة رجل .. بدون حماية رجل ..وقد كانت تستجدي كل هذا من كل مرشح مناسب كانت تلتقيه فتقدم له كل ما تستطيع تقديمه .. وغالبا ما يكون جسدها .. وأنا كنت موجودا طوال الوقت ... حبيس غرفتي أثناء اجتماعها بعشيقها .. ثم أخرج عندما أسمعها تبكي بعد رحيله فأحاول مواساتها ... إلا أنني لم أكن قط كافي بالنسبة إليها .. رغم صغر سني .. كان علي أنا أن ألملم أشلائها في كل مرة .. أن أراقبها تنهار فأهتم بها وأعتني بها .. أطبخ لها وأطعمها ... ثم أخرج لأبيع الحلوى في الشوارع كي أتمكن من دفع إيجار المكان الحقير الذي أوانا .. وفي النهاية مهما فعلت .. كانت تعود من جديد للبحث عن رجل يحاول سد الفراغ الهائل الذي خلفه الرجل الوحيد الذي أحبته في حياتها ..
أحست يارا بالقشعريرة تزحف فوق جلدها بينما فتح هو ذراعيه بطريقة مسرحة وهو يقول :- ما الأمر ؟؟؟ لماذا صمتت ؟؟ لم أعهدك قط عاجزة عن إيجاد ما تقولينه .. هل صدمك إلى هذا الحد أن تعرفي حقيقتي ؟؟ أنني ابن لرجل معدوم الضمير .. وامرأة عديمة الأخلاق ؟؟؟ هذا ما أكونه يارا .. هذا أنا ..
قالت وعينيها تغرورقان بالدموع .. وهي تحس ألمه طاغيا حتى أحرق قلبها معه :- لا يا عصام ... هذا ليس انت .. لا تحكم على نفسك نتيجة أخطاء والديك .. أنت رجل مختلف .. أنت إنسان رائع يبذل جهده وحياته كي لا تتعرض النساء لما تعرضت له والدتك ... أنت أفضل شخص عرفته ....
أطلقت صرخة قصيرة عندما أمسك بمرفقيها بقسوة وهو يقول من بين أسنانه :- أنت مخطئة يا يارا ... مخطئة .. لأنني الرجل الأكثر أنانية على وجه الأرض .. لأن ما أفعله .. ما هو إلا وسيلة رخيصة وحقيرة مني للتغطية على فشلي .. كإبن .. كرجل ... وكإنسان ..
هزت رأسها قائلة بعناد :- هذا غير صحيح ... لن أسمح لك بقول هذه الأشياء البشعة عن نفسك .. أنت لست فاشلا .. أنت ..
قاطعها مجددا وهو يقول بمرارة :- ألست فاشلا ؟؟ ... ألم أفشل في حماية دنيا من مصير لم تستحقه ؟؟ ألا أفشل رغم كل جهودي من منع غادة من الركض وراء أحلام ستقتلها هي الأخرى كما تسببت أحلام والدتي بقتلها ؟؟؟ ألم أفشل في حماية هديل من ابن خالتك وتركتها لقمة سائغة له ليكمل ما بدأه قبل سنوات في تدميره لها ؟؟ .. ألا أفشل في حماية شقيقتي ..... شقيقتي أنا ... من الأذى الذي لا يفرق أبدا في عالم قاسي لا يرحم كهذا بين امرأة غنية وأخرى فقيرة ؟؟
قالت بيأس :- لا ... أنت لم تفشل .. أنت بذلت كل ما تستطيعه لأجل حمايتهن إلا أنك لا تستطيع الوقوف في وجه القدر يا عصام .. لا ذنب لك إطلاقا فيما حدث لدنيا ..
أغمض عينيه بقوة فأرادت أن تضمه إليها لتحتوي ألمه إلا أنها لم تستطع ... لقد كانت تشعر بتلك الهالة الحارقة من الغضب القادرة على جرفها مرة واحدة إن تجرأت على لمسها ... قالت بصوت أكثر رقة مؤكدة :- أنت أفضل إنسان عرفته في حياتي يا عصام ... لا تسمح لماضي لا ذنب لك فيه بتشويه انعكاسك أمام نفسك .. أنت لست مسؤولا عن أفعال والديك ..
كان ما يزال ممسكا بمرفقيها .. مغمضا عينيه وكأنه يرفض السماح لها برؤية روحه المشوهة عبرهما .. في الوقت ذاته كان يتشبث بقربها وكأنها طوق النجاة الذي يحيل بينه وبين الغرق .. هتف بصوت أجش :- ماذا عن أفعالي أنا يا يارا ؟؟؟
هزت رأسها مجددا وهي تهمس :- أنت لم تفعل شيئا يستحق أن تعاقب نفسك لأجله بهذا الشكل
:- أنت لا تعرفينني ... لا أحد يعرف عصام الحقيقي ... ربما كان عليك سؤل جواد عني .. وأنا لا أشك للحظة بأنه سيخبرك بكل شيء فور أن يشك بأي اهتمام قد توجهينه نحو رجل مثلي ..
هتفت بإصرار :- لا شيء قد يقوله جواد قد يغير رأيي بك ... لا شيء قد تقوله أنت قد يغير رأيي بك
:- ماذا إن أخبرتك بأنني قبل سنوات طويلة كنت رجلا آخر ... كنت شيطانا على هيئة بشر .. ربما أنا أحمي النساء الآن .. إلا أنني أفعلها لأكفر عما فعلته بهن فيما مضى .. أنا أحميهن الآن .. إلا أنني كنت أبذل جهدي لأجل تمدميرهن سابقا ... واحدة واحدة .. كل امرأة تجرأت على الاقتراب مني ... على أن تأمل مني شيئا .. أي شيء من العاطفة .. كنت أعلمها بالطريقة الصعبة بأنني إنسان فارغ .. بأنني لا أمتلك ما أقدمه إليها .. كنت أعلمها بألا تثق برجل آخر من بعدي .. كن يدخلن إلى حياتي مفعمات بالأمل .. ليخرجن منها ذليلات .. ضائعات .. مستنفذات .. إنما أكثر قوة .. أكثر صلابة .. كنت أنتقم من والدتي بهن .. فاستغل كل ذرة ضعف لديهن حتى ينتهين في النهاية جسدا بلا روح ..
هتفت مصدومة .. غير مصدقة وهي تحدق بوجهه القاسي .. للمرة الأولى منذ عرفت عصام وهي ترى ذلك الجانب منه .. ذاك الذي أحست به دون أن تقبل بوجوده منذ قابلته أول مرة :- لا... أنت تكذب .. أنت تكذب علي ..
ضحك بدون مرح وهو يقول :- أنا لا أكذب يارا ... تستطيعين سؤال جواد عني وهو سيخبرك ... سيعدد لك الفتيات اللاتي جذبتهن هالة الفتى اليتيم فأوقعتهن في شراكي خلال دراستي في الجامعة ثم أودت بهن إلى التهلكة .. سيخبرك عن ندى ... الفتاة التي توقعت أن تجد بي ملاذا ضمن حياتها التعسة مع عائلة لا ترحم ... تلك التي لجئت إلي ناشدة الحماية فرميتها للذئاب .. تلك التي أحبتني وظنت أنني قادر على إنقاذها من قدر أسوأ من الموت .. فكان أرحم بألف مرة مما لاقته على يدي ..
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تردد :- لماذا تكذب علي ... لماذا تدفعني لأن أكرهك ؟؟
هز رأسه قائلا بمرارة :- أنا لا أكذب يارا ... أنا كالمرض .. لا أنشر من حولي سوى التعاسة واليأس .. أنا أمتص البراءة من النساء الرقيقات الحالمات الشبيهات بك ثم أتركهن بدون روح ... وأنت لا تختلفين عنهن ... أنت أتيت إلي آملة في أن أمنحك الحب والثقة والعاطفة .. أنت ما تزالين طفلة جاهلة لا تعرفين أي شيء عن العالم الحقيقي .. ارحلي يارا ... ارحلي قبل أن أفشل معك كما فشلت مع غيرك .. ارحلي قبل أن أدمرك كما دمرت غيرك ..
تركها مبتعدا عنها ... فراقبته دامعة العينين وهو يجلس على حافة سريره ... ممسكا رأسه بين يديه .. وكأنه يعود من جديد إلى الصومعة التي وجدته معتكفا بها عند دخولها الغرفة ..
كانت تعرف بأنه صادق في كل كلمة نطق بها ... يظن على الأقل أنه صادق ... ربما هو فعلا أذى الكثيرات فيما مضى .. ربما كان يوما وحشا كاسرا كما يقول .. ربما هو معطوب كما سبق وأخبرتها أمان من قبل .. ربما هو أيضا غير قابل للإصلاح ... إلا أنها تحبه ... لم تدرك إلى أي حد تحبه حتى رأت حطامه ... حتى رأت الوجه الحقيقي له .. ربما كان هذا هو حل المعضلة التي حيرت كل من يارا وطارق لسنوات ... أن تحب شخصا .. يعني أن تعرف أبشع جوانبه ... ثم تظل راغبا في أن تحتضنه بين يديك .. فتحتفظ به بين أضلعك .. مخفيا عيوبه عن أعين الناس إلى الأبد ...
خطت نحوه بساقين مرتعشتين ... وجثت على الأرض عند قدميه ... تمسك يديه فتبعدهما عن رأسه وترغمه على النظر إلى وجهها المبتل بالدموع ... إلى عينيها فيرى عشقها الخالص فيهما .. فرمش مجفلا وهو يتنفس بعنف بينما ترتجف يديه بين أصابعها ... قالت بصوت أجش :- أنت تفترض بأنني هنا لأنني أريد منك أن تصون هذه البراءة التي توصمني بها ... ربما أنا أريد منك أن تأخذها .. أنا لا أريدها ... إنها لك .. إن كانت ما يحتاج إليه الوحش الكامن داخلك .. ما يقتات عليه ليعود فيقف على قدميه مجددا ... فهي لك ... أنا لم آت إلى هنا طالبة منك أن تعطيني شيئا .. أنا لا أريد عاطفتك ... أنا لا أريد حمايتك ... أنا لا أطالبك بأن تمنحني حبا لا تستطيع منحه ..
قال بخشونة :- لماذا أنت هنا إذن يارا ؟
قالت بصوت مفعم بالعاطفة :- أنا هنا لأعطيك ... فأنت قدمت ما يكفي .. تلقيت من المطالب ما يكفي .. لقد آن أوان أن تأخذ .. وأنا أريدك أن تأخذ ..
كانت تقدم له قلبها ... ثقتها ... إيمانها به .. كانت قادرة على سماع قلبه وهو يضج بين أضلعه بصخب .. على الإحساس بأنفاسه عنيفة .. وحشية بالحاجة .. بالضعف الذي لم يسمح لنفسه قط أن يشعر به .. لم تعرف إن كان سيتقبل اليد التي كانت تمدها إليه .. إلا أنها وخلال نظرة واحدة تبادلتها معه ... عرفت ... عرفت بدون شك ... بأنها النهاية ..
اغرورقت عيناها بالدموع .. وتحركت لتبتعد عنه .. فإذ بيديه تمسكان بمعصمها فجأة .. تسحبانها إليه بدون مقدمات لتسقط بين أحضانه ... كما قال سابقا بالضبط ... بين أنياب الأسد

تبكيك اوراق الخريف الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول للكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن