تمهيد
على قدر ما يظنّ الإنسان أنّه يعرف نفسه، على قدر ما يتفاجأ منها عند أوّل فرصة تسنح لها بالتّحرر وإظهار ما تتبطّنه في طيّاتها، وكأنّها كانت تغطّ في سبات عميق وتنتظر المكان والزّمان المناسبين للاستيقاظ وتغيير مجرى حياته كلّيّاً.
ما زلت أذكر المرّة الأولى التي رأيته فيها وأنا أنزل من السّيّارة، مرتدية ثياب الحداد على وفاة والدي، حيث كانت خسارته أوّل خيباتي ومأساتي مسببةً فراغاً عميقاً وكبيراً في قلبي. لم يكن لي سواه في هذه الدّنيا الغدّارة، والتي من دون سابق إنذار، أخذت منّي شخصاً عزيزاً على قلبي مغيرةً جدول حياتي، لتنقلني من عالم الطّفولة واللامبالاة، إلى عالم آخر غريب لا أعرف فيه أحداً حتّى نفسي.
عيناه الزّرقاوتان كصفاء سماء صيفية أسرتا قلبي منذ اللحظة الأولى التي رأيتهما تراقبانني بتمعّن، وكأنّه اخترق قلبي بسهم خفيّ ما عدت قادرة على تحديد مكانه لنزعه. في ذلك اليوم، عيناه تحدّثتا وقالتا ما لم يقله لسانه حتّى الآن.
أحببته ولا أعرف لماذا؟ ومتى؟ وكيف حصل هذا؟ ولكنّي فعلت وبكلّ ما أملك من مشاعر وأحاسيس، سلّمته قلبي على طبق من فضّة وأضعته بين يديه، فما عدت قادرة على استعادته ولا حتى قادرة على استبداله.
فقلبي ينبض بحبّ إيّان، وروحي تناشد روحه، وسعادتي لا تكتمل إلا بوجوده. أحبّه كثيراً ولا أعرف كيف أجعله يرى نار حبّه المتّقدة في قلبي، علّه يرحمه ويبادله شعوره.📚📚📚📚📚📚📚📚📚📚📚📚📚📚
الفصل الاوّل
جلست على الأرض متّكئةً إلى حافّة السرير أراقبه نائماً، مستلقٍ على صدره، شعره مبعثر، أنفاسه ثابتة، إنّه شغفي هذه الأيّام مراقبته وهو نائم. وسامَته تفوق الوصف وكأنّه من عالم خياليّ، رائع، وسيم وأنيق وفتى أحلام كلّ فتاة، وها هو مستلقٍ أمامي على السّرير ويغطّ في نوم عميق، وجودي قربه هكذا يخلق صراعاً بداخلي ورغبةً جامحةً للاقتراب منه وتمرير أصابعي بين خصلات شعره وتنشّق رائحته العطرة الممزوجة برائحة جسده المثيرة. ولكنّي ما كنت لأجرؤ أبداً على هذا, فحدودي هي التسلل إلى غرفته بعد منتصف الليل لمراقبته نائماً دون أن يشعر بي والهرب من غرفته قبل استيقاظه وإلا...
***
استيقظت على صدى صوت إيّان الهادئ والقلق في نفس الوقت:
"نور.. نور! استيقظي... ماذا تفعلين هنا؟ ولم أنت نائمة على الأرض؟ أرجوك، لا تقولي أنّك قضيتِ الليلة هكذا"
فتحت عيناي بتكاسل أتململ بوضعيتي المرهقة، تلفتت حولي بتساؤل وإستغراب لأكتشف فعلتي الفضيعة، يا الله! أيعقل هذا!!! لا بدّ أنني غفوت البارحة قبل أن أترك غرفته.
رفعت بصري المضطرب إليه لأجده على السرير بقربي يراقبني بإستنكار ، نظراته حادّة ومخيفة، شعره مبعثر بحرية فاتنة ، عاري الصدر ، يتسائل عن سبب وجودي في غرفته، ونائمة على حافّة سريره.
"ماذا تفعلين هنا ؟ منذ متى وأنت هنا؟ لم أرك البارحة عندما عدت" سألني بنبرة مخيفة
يا لي من حمقاء،بماذا سأجيبه؟؟ ماذا سأقول وكيف سأبرر فعلتي الغبيّة، أشحت بنظري عنه أراقب البساط تحت قدمي لتجتاحني موجة حارة رافعةً درجة حرارتي لحدّ الغليان ، أشعر به يراقبني بتمعن منتظراً تبريري ، أغمضت عيوني عاجزة عن النظر اليه، لأفاجأ به يجذب كفّي بعيداً عن فمي ، رفعت بصري اليه برهقة مستغربة فعلته .
فرفع حاجبه بتساؤل محرراً كفّي البارد كالثلج منبّهاً إيّاي:"كفّي عن قضم أظافرك، إنّها عادة سيئة وغير صحّيّة"
فتحت فمي لأعلّق ، لأعود وأُطبقه ، لم أنتبه بأنني أقضم أظافري، بالطّبع فالتّوتّر أرهقني والخجل أعماني.
هزّ برأسه ناهضاً عن السّرير يفتش عن كنزته القطنية وأنا كالمعتوهة إستغليت الوضع لمراقبة عضلات صدره وظهره الرهيبة ، لأفاجأ به يستدير فجأة نحوي يخاطبني غير دارٍ بفعلتي المشينة :
"أنت تعرفين قوانين هذا المنزل نور، أنّه ممنوعٌ عليك الدخول إلى جناحي وجناح طلال لأي سبب من الأسباب لذا أتمنّى منك التقيد بها عزيزتي»
حدّق بي يفكر وكأنّه يحاول إيجاد الكلمات المناسبة، ثمّ عاد وجلس بقربي على حافّة السرير إقترب مني يخاطبني وكأني طفلة يحاول تلقينها درساً هامّاً:
"نور... هذا تصرّف غير لائق من فتاة محترمة مثلك أن تدخل غرفة شابّ أعزب في منتصف الليل والنّوم هكذا على الأرض بهذه الوضعية. لن أضغط عليك لمعرفة سبب فعلتك كي لا أزيد من إحراجك ، ولكنك ستعيديني بأنك لن تقدمي على تكرار ذلك،اتفقنا؟"
ومأت له برأسي متحاشية النّظر إليه، ووجدتني أعيد إصبعي إلى فمي لقضم أظافري من جديد فأمسك بيدي منبّهاً:
«وتوقفي عن قضم أظافرك هذه ، هيا ، عودي إلى غرفتك وأنا سأدخل لأستحمّ، لا أريد رؤيتك هنا عندما أخرج»
راقبت قفاه يبتعد نحو الحمام أحاول الوقوف على قدماي فعجزت،
يا الله!! أشعر بالعجز عن النّهوض عن الأرض، قدماي متيبستان من النوم بهذه الوضعية المؤلمة. ماذا سيظنّ بي الآن؟ سيظن بأني فتاة رخيصة متحرشة ، إرهابية ، يا لك من غبية يا نور ، نور الغبية .
وبعد جهدٍ جهيد وقفت تاركةً الغرفة متوجّهة نحو غرفتي... أعصابي ترتعش من هول ما حصل ، لقد ضُبطُّ بالجرم المشهود . يا للإحراج الذي سبّبته لنفسي، أظنّ بأنّي سأعجز عن النّظر إلى عينيه للأبد. وكيف سأفعل هذا وأنا مضطرة لمواجهته كل يوم.
أخذت حمّاماً ساخناً طويلاً علّه يساعدني على الاسترخاء ونسيان فعلتي المشينة ، وفِي اللحظة التي خرجت فيها أجفف نفسي سمعت هاتفي يرنّ فأسرعت إليه.
إنّه إيّان، ماذا يريد الآن، فتحت الخطّ وأجبته بصوت ضعيف وخجول:
"ألو..."
"ألو نور.. أين أنت؟ هل عدت للنوم؟ نحن بانتظارك على الفطور، أسرعي ولا تتأخّري"
ثم أقفل الخط دون أن يسمع ردّي.
إنّه يطلب منّي النّزول إلى الفطور بكلّ بساطة، وكأنّ شيئاً لم يكن. ماذا سأفعل الآن؟ أأنزل وأتصرّف على هذا الأساس كذلك الأمر؟ ولكنّ التّوتّر والخجل لن يتركانني أتصرّف على طبيعتي. ألقيت نظرة إلى نفسي في المرآة، لأرى انعكاس صورتي يحدّق بي غير راضٍ عن تصرّفاتي وأفعالي، حسناً وما شأنك أنت بما يفعله هذا القلب، وكأنّ عقلي يؤنّبني على أني أستحقّ ما أعانيه وكأنّه حذّرني من عواقب ما كنت أفعله. ألقيت نظرة تمرّدٍ على انعكاس صورتي وتركته متوجّهة نحو الأسفل.
فور وطوء قدمي أسفل السلالم وصلني صوت ليلى من المطبخ تتساءل عن مكاني
"أين نور؟"
أجابها إيّان:"أتصدّقان أنّي وجدتها هذا الصّباح نائمة في غرفتي، لم أشعر بها حتّى طلع الصباح. أرعبتني حقّاً، لوهلة ظننت بأنّني أتيت بامرأة ما إلى المنزل دون أن أعي ذلك، فلم أتأكّد منها في بادئ الأمر، إلى أن وجدتها عزيزتنا نور"، سكت لبرهة ثمّ تابع، "لقد بقيت لدقائق عدّة وأنا أحاول أن أستوعب ما إذا كانت لي علاقة بوجودها في غرفتي"
ضحكت ليلى ضحكة عالية وطويلة، ثمّ قالت:
"إيّان، عليك أن تحسّن معاملة هذه الطّفلة، فهي بحاجة للرعاية والاهتمام، ودائماً ما تسأل عنك، وتتذمّر من الوحدة والملل. اهتمّ بها قليلاً."
لقد مللت من هذه الكلمة، أنا لست طفلة، فالكل يعاملني في هذا المنزل على هذا الأساس، فأشهر قليلة وأكمل الثامنة عشرة.
دخلت المطبخ متحاشية النّظر إلى عيون أحدٍ منهم، ألقيت تحية خجولة بالكاد مسموعة ووقفت أنتظر تعليقاً ما من أحدهم:
رفع إيّان بصره إليّ مبتسماً وأجاب بحنان :
"صباح النّور! هيا اجلسي فنحن أوشكنا على الانتهاء"
جلست من الجهة المقابلة له ولطلال الذي بدوره رمقني مبتسماً وحيّاني بصمت عائداً إلى فطوره.
أخذت كوب العصير ووضعت ليلى طبق البيض المقليّ والخبز المحمّص أمامي وسألتني:
"أتحتاجين شيئاً آخر؟"
أومأت لها برأسي بلا مبقيةً إنتباهي عند طبقي، يداي ترتعشان من شدّة الخجل والتّوتّر، رحت أقلّب البيض دون أن آكل منه. فجأة اختفت شهيتي وما عدت أرغب بالطعام.
ليخرجني من خلوتي صوت إيّان الذي يبدو أنّه لاحظ توتّري فقال ملطّفاً الأجواء:
"هل تمشين وأنت نائمة؟ يبدو أنّك البارحة أخطأت في الغرفة. أظنّ بأنّه يجب إقفال الغرفة عليك عندما تخلدين للنوم. إذ غداً لا ندري أين سنجدك"
نخر طلال ضاحكاً ليسرع إلى كوب الماء أمامه مدّعياً أنه إختنق بطعامه ، فرمقته بغضب أعلمه بأنّ حركته هذه لا تخفى عليّ ومن ثمّ ألقيت نظرة تمرّد إلى إيّان مكتفيّة بالصمت المشين ، هذا ما كان ينقصني ، هذان الاثنان يسخران مني،وأنا البلهاء لا أملك سبباً لفعلتي القبيحة .
بعد دقائق قطع طلال حبل الصّمت الذي ساد على الطاولة قائلاً:
"لقد جهّزت كلّ الأوراق اللازمة لتقييم المخازن اليوم، يبدو أنّ نهارنا سيكون طويلاً"
هذا ما كان ينقصني ليكتمل نهاري الجميل،وضعت الشوكة بطبقي بقوّة معلّقةً بغضب :
"أسَتَعمل اليوم، إنّه السّبت، يوم عطلة" سكتُّ لبرهة أحاول جاهدة كبت غيظي ثمّ تابعت " لقد وعدتني الأسبوع الماضي بأنّك ستخصّص نهاية هذا الأسبوع لي، فأنا أريد الخروج، لا أريد البقاء في المنزل"
أجابني ببرود وعدم مبالاة وهو منشغل في طعامه: "اليوم لا أقدر... ربّما غداً"
"ولكنّك وعدتني" أجبته بإصرار
"عندي عمل مهمّ في المخازن، وعليّ إنجازه اليوم دون تأخير"
"إذاً سأذهب معك إلى المخازن، يمكنني مساعدتكما، ولكن أرجوك لا تتركني في المنزل وحدي، لقد مللت الوحدة "
رمقني طلال بعطف مستغرباً طلبي، ثمّ وجّه إنتباهه إلى إيّان منتظراً ردّه.
ولكن يبدو أن إيّان لا يكترث لمعاناتي ، أذ وضع كوب العصير من يده يرمقني بعينيه الزرقاوتين الواسعتين ورموشه السّوداء الكثيفة، رافعاً حاجبيه وكأنّه يحاول الردّ عليّ بواسطتهما وقال بهدوء تام:"لا.. أظنّ.. ذلك".
شعرت برجفة تعتري جسدي، وكأنّ شرارة كهربائية بدأت من أخمص قدميّ وانتهت عند قمّة رأسي. نظرته هذه تبعث فيّ شعوراً لا أعرف كيف أصفه، ولا أحبّه، شعورٌ غريب لا أستطيع تفسيره.
ولكنّي لن أستسلم، لقد مللت حبسه لي في هذا القصر ومنعي من الخروج دون حراسة أو مرافقة فأجبته بتحدّي:
"حسناً.. إذاً دعني أخرج وحدي"
وقف عن كرسيّه، أخذ هاتفه ومفاتيحه قائلاً بحدّة ينهي المناقشة كعادته مجبراً إيّاي على تنفيذ أوامره :
"طلال قادم معي، ولا أثق بأحد غيره معك، لذا لا فرصة لك حتى للنقاش" ثمّ وجّه كلامه لطلال "حسناً طلال هيّا بنا... علينا الانتهاء اليوم، ولا أريد أن أضيّع يوماً آخر على المخازن" وترك المطبخ لمن فيه .
شعرت بالاختناق ، والرغبة الشديدة للبكاء ، أو اللحاق به والصراخ ، ما عدّت أحتمل هذا الوضع ، إنه يقيد حريتي كاملة ، لا أصدقاء، لا عائلة ، ولا أحد غيره وغير طلال وليلى ، وكأن باقي العالم وحوش على أتم إستعداد لإلتهامي عند أول فرصة تسنح لهم .
أخذ طلال رشفة طويلة من فنجانه، أعاده إلى الطاولة ،ربت على كتفي يخاطبني بحنان ، إنه الوحيد الذي يشعر بي في هذا القصر ولكنه رغم ذلك لا يجرؤ على مخالفة أوامر إيّان ، وإذ ذلك الأخير قال كلمته لا شيئ على وجه هذه الارض قادر على حثّه على تغيير رأيه :
"لا تغضبي، سنتدبّر أمراً ما نقوم به معاً غداً، إنّه وعد" ثمّ لحق بإيّان مسرعاً نحو الخارج.
*********
كانت شمس المغيب شاحبة وحزينة، تتسلّل بهدوء خلف التلال وكأنّها متردّدة أتذهب أم تبقى، شعرتُ بقشعريرة في بدني، فالوحدة تقتلني ولا أعرف كيف أملأ وقتي في هذا القصر الكبير والفارغ المليء بالحرّاس.
حتّى أنّي مللت من ليلى، فهي الأنثى الوحيدة في القصر غيري، في حوالي الخمسين من عمرها، تعمل في القصر منذ أكثر من عشر سنوات، تهتمّ كثيراً لأمر إيّان وطلال وتعتبرهما كابنيها، وهما بدورهما يحترمانها ويقدّرانها كثيراً.
السّاعة قاربت الثّامنة مساءً وإيّان وطلال لم يعودا بعد. نزلت إلى المطبخ لعلّي أجد ليلى متفرّغةً لأقضي معها بعض الوقت، لأجدها تشاهد التّلفاز. بالطبع لن تعيرني انتباهها، فهي لا تحبّ أن أزعجها خاصّة إذا كانت تشاهد برنامجاً من برامجها المفضّلة، وإذا سألتها عن شيء سترمقني بنظرة باردة وتشير لي برأسها بألّا أزعجها. فأنا بتّ أعرفها جيداً الأن.
فقررت العودة إلى غرفتي بدل الخروج الى الحديقة، لطالما كان وما يزال محيط القصر يثير ذعري وخوفي وخاصّة أثناء الليل
ففي الأشهر الأولى من قدومي إلى هنا كنت لا أجرؤ على الخروج من محيط الحديقة خوفاً من أن أضلّ طريق العودة أو أن التقي بشيء ما.
إيّان يعيش وحيداً في هذا القصر مع طلال وليلى، والداه توفّيا وهو صغير تاركين له ثروة لا تأكلها النّيران.
ففي بعض الأحيان، أتساءل عن حاجته لهذا القصر الكبير، القابع في هذا المكان النّائي المحاط بمئات الهكتارات من الأراضي التابعة لملكيّته، مليئة بالأشجار والغابات، ومحاطة بسور اسمنتيّ عريض مؤمّن بأسلاك كهربائيّة لتمنع المتطفّلين من الدّخول إليها، وكاميرات المراقبة المزروعة في كلّ أرجاء المكان والحرس عند البوابة الأمامية.
ترك إيّان كندا بعد بلوغه الثامنة عشرة وأتى إلى لبنان ليبدأ حياته من جديد، على الأقلّ هناك نقطة تشابه بيني وبينه فأنا كذلك الأمر أتى بي والدِي من كندا بعد وفاة والدتي مباشرة ، ترك أهله وعائلته وأتى بي إلى هنا ليبدأ من جديد. فأنا وهو وحيدان، يتيمان، ولا أهل ولا أقارب لنا في هذا البلد، ربّما هذا هو سبب تعاطفه واهتمامه الزّائد بي، إذ مرّ قبلي بهذه التجربة الصّعبة والأليمة.
وها أنا ذا وجدت نفسي بعد وفاة والدي أعيش مع رجل لم أكن أعرف بوجوده في حياتنا من قبل، وكل ما أعرفه عنه أنّه صديق أبي وشريكه في العمل ووقف بجانبه كثيراً خاصّة أثناء فترة مرضه ورقوده في المستشفى لفترة قبل وفاته فتركني في عهدته وتحت وصايته.
دخلت غرفتي أفتّش عن هاتفي لأتّصل به، لا أعتقد بأنّه ما زال يعمل حتى الآن. لا بدّ أنّه وطلال يلهوان في مكان ما وبالطبع سيكون هناك نساء، كم أكره أن أفكر بأن إيّان مع امرأة ما، إنّ هذا الأمر يثير غيرتي ويذكّرني بعجزي عن سؤاله أو معاتبته فهو غير ملتزم اتجاهي بأيّ شيء وخاصّة فيما يخصّ حياته الخاصّة والعاطفية ولكن معرفة أن كل امرأة تلتقي به،تبذل كل جهدها للفت انتباهه وإيقاعه في شباكها يثير جنوني وغيرتي ويتركني أتمنّى لو أنّ باستطاعتي حجب رؤية كل النساء عنه ليكون لي فقط لا غير.
أرسلت له رسالة نصّيّة وأنا واثقة بأنه لن يجيب عليها:
نور:
مرحباً إيّان، أين أنت؟
لقد تأخّرت كثيراً، أرجوك أجبني وقل لي متى ستعود؟
بعثت الرسالة وجلست أنتظر الرّدّ مع يقيني بأنّه لن يرد.. فهذه عادته.
فهو دائماً ما يتذمّر إذا حاولت الاتصال به أكثر من مرّة، أو أرسلت له أكثر من رسالة نصّيّة، وكيف لا أفعل وهو لا يردّ على أيّ منهما. لا يريدني أن أزعجه فليردّ عليّ.
بعد مرور أكثر من عشرة دقائق طنّ هاتفي معلناً وصول رسالة نصّيّة. أسرعت إلى الهاتف غير مصدّقة أنّه أجاب على رسالتي.
إيّان:
ماذا تريدين؟
ما زلت في المخازن، اذهبي ونامي، سأتأخّر في العودة.
ملاحظة هامّة: (نامي في غرفتك)
هل سيستمر بتذكيري بفعلتي المشينة عند كل شاردة وواردة ، يا له من متسلّط، بارد وقاسٍ،ولكني رغم هذا كلّه أحبّه وبجنون. استلقيت على السّرير بإبتسامة بلهاء ، إنها مجرد رسالة سخيفة نور ، لا تعني شيئ ، حسناً ، ولكنه تكبّد عناء الرد عليّ هذه المرة .ضممت الهاتف إلى صدري وأغمضت عيناي مستعدّة للنّوم.
*************
أيقظني الضّوء السّاطع في غرفتي هذا الصّباح، إذ يبدو أنّني لم أغلق السّتائر الليلة الماضية. ما زال الوقت مبكّراً وبالتّاكيد إيّان ما يزال نائماً خاصّة أنّه تأخر بالعودة ليلة البارحة.
دخلت الحمام غسلت وجهي وأسناني ونزلت إلى المطبخ، لأجد ليلى كعادتها تحضر للفطور.
"صباح الخير ليلى" حيّيتها متّكئة إلى الباب.
التفتَت نحوي ترمقني مستغربة، فأنا نادراً ما أستيقظ باكراً لتجيبني وهي مشغولة بتشريح رقائق البطاطا:
"صباح النّور، ليس من عادتك الاستيقاظ باكراً، فما الجديد اليوم؟"
تنهدّت بملل جالسةً إلى الطّاولة بتكاسل " نعم، فأنا اليوم متحمّسة لفكرة الخروج، لقد وعدني إيّان بذلك ولن أدعه اليوم قبل أن ينفّذ وعده لي"
"ما يزال نائماً، لقد تأخّر كثيراً بالعودة البارحة"
أخذت حبّة كرز من صحن الفاكهة، وضعتها في فمي وسألتها:
"أتعرفين متى عادا؟"
"لا، لقد نمت عند الواحدة وكانا ما يزالان خارجاً"
عقدت حاجباي غير راضية عن هذه المعلومة، الواحدة وكان ما يزال خارجاً، هذا يعني بأنّه سينام النّهار بطوله ويتركني في المنزل، لن أسمح له بذلك، نعم هذا ما سأفعله حتّى لو اضطررت إلى إيقاظه بنفسي.
"سأوقظه عند العاشرة، لن أتركه ينام أكثر" أجبت ليلى بحنق
فرمقتني بعدم رضى معلّقةً:"ولم تريدين إزعاجه، دعيه ينام، فهو نادراً ما يتأخّر في النّوم صباحاً"
أجبتها متذمّرة: "لقد وعدني بإخراجي اليوم وعليه أن يفي بوعده لي، فأنا ما عدت قادرة على تحمّل البقاء في هذا المنزل وحيدة وممنوعة من الخروج دون حراسة، فهو دائماً يعمل وفي أيّام العطل يخرج ويتأخّر بالعودة ولا يدعني أخرج وحدي أبداً. ماذا عليّ أن أفعل، وكأنّي أعيش في سجن كبير"
هزّت برأسها عاجزة عن الإجابة على تذمّراتي وعادت تتابع عملها. نعم فأنا محقّة، إنّها حياة صعبة وما عدت أتحمّلها، لا أحد يستطيع تحمّل الحياة وحيداً بلا عائلة ولا أهل ولا أصدقاء ولا حتّى أقارب، لذا على إيّان تسهيل الأمور عليّ وليس تعقيدها.
جلست إلى الطّاولة أراقبها تعمل بصمت، رغم عمرها الكبير فما زالت جميلة وجذّابة، متوسّطة القامة، نحيفة وشعرها بني يغطي كتفيها .
إنها إمرأة حنونة وطيبة جداً وساعدتني كثيراً علي تخطي حزني العميق بعد وفاة والدي فكانت لي الكتف الذي ألجأ اليه عندما أرغب بالبكاء .
"هل ستتناولين فطورك الآن، أم ستنتظرين إيّان وطلال؟" سألتني وهي تعبّئ الأواني في غسّالة الصّحون.
"سآكل الآن، وهكذا عندما يستيقظ إيّان أكون جاهزة كي لا أضيّع الوقت، ماذا تحضّرين للفطور؟"
"فطور اليوم قطع الدّجاج والبيض المقليّ والفطائر المحلّاة"
الحديث عن الطّعام جعلني أشعر بالجوع والرّغبة في تذوّق كلّ شيء.
أجبتها بحماس "أريد من كلّ شيء، فأنا جائعة جدّاً... أي ليلى وأسرعي أرجوك ما عدت قادرة على الانتظار"
ابتسمت وهي تتجه نحو الثلاجة لجلب الأغراض التي تحتاجها وقالت:
"كعادتك، عندما تعدين معدتك بالطّعام، ينفذ صبرك للانتظار، عشر دقائق ويصبح فطورك جاهزاً آنسة نور"
اقتربت منها أحتضنها برفق، إنها نبعٌ من الحنان وأنا أحبّها كثيراً " أي ليلى، تعرفين بأنّي أحبك كثيراً، ورائحة طعامك تجعلني غير قادرة على التحمل والسيطرة على معدتي"
"حسناً... حسناً طالما أنّك جائعة كثيراً... دعيني أحضر فطورك، اجلسي إلى الطّاولة وابدئي بشرب العصير ريثما أنتهي"
شعرت بأن فضولي سيقتلني إذ لم أسألها إذ كانت تعلم أين كان طلال وإيّان البارحة مساءً.
"من تقصدين؟"، سألتني وهي تضع طبق الطّعام أمامي
"إيّان وطلال من غيرهما؟"
رمقتني وكأنّ سؤالي لم يعجبها وقالت بجفاء:
"لا... لا أدري، ولا يهمّني. كلي طعامك ولا تشغلي بالك بهذه الأمور. فهما شابّان ويحقّ لهما أن يلهوان قليلاً. وأنت"
رفعت سبابتها نحوي محذّرة وتابعت:
"حاولي أن لا تضيّقي عليه، فإيّان غيّر نمط وأسلوب حياته كليّاً بعد مجيئك إلى هنا، وهو يحاول جاهداً أن يوفر لك الجوّ المناسب لعمرك وخبرتك في هذا المنزل"
"ماذا تقصدين؟" سألتها بفضول " كيف كان نمط حياته؟ كيف كان أسلوب حياته قبل أن آتي إلى هنا؟"
"أمور لا تخصّك، وبالطّبع ليست للنّقاش، المهم أن تعرفي أنه يراعي مشاعرك ووضعك، لذا حاولي أن تراعي ظروفه ووضعه كشابّ أعزب ومسؤول عنك."
رحت أقضم بقايا طعامي شبه شاردة الذّهن. ما الذي تقصده؟ كلامها زاد من فضولي ورغبتي في معرفة كيف كان نمط حياته قبل أن آتي إلى هنا، فأنا طوال فترة وجودي هنا، لم أر إيّان مع أيّ امرأة خاصة في المنزل، لا حبيبة ولا صديقة...
"صباح الخير، مم ، ما هذه الرّائحة الشهية؟" أتى صوت إيّان من خلفي عند الباب، قفز قلبي لسماع صوته، فاستدرت نحوه مبتسمةً ببلاهة عاجزة عن إخفاء فرحتي لرؤيته.
"صباح النّور إيّان" ردت ليلى.
"صباح النور" أجبته بحماس، " ها أنت ذا، جيد، كنت سأصعد لأوقظك"، تلفظت بجملتي الأخيرة وندمت ، إذ تعابير وجهه عبّرت عن إنزعاجه التام من ما تفوهت به .
مرّ بجانبي متحاشياً النّظر إليّ متوجّهاً مباشرة نحو إبريق القهوة، تناول فنجاناً، سكب لنفسه وجلس قبالتي الى الطاولة. ما يزال يرتدي ثياب النوم، بنطال كحلي مقلم بخطوط بيضاء، وكنزة قطنية بيضاء، شعره مبعثر وذقنه شبه بارزة يبدو جذّاباً وخاطفاً للأنفاس ، وجاهزاً للأكل ، بإمكاني التهامه بدل الفطور، أخذ رشفة من قهوته وطلب من ليلى تقديم الفطور إليه ثمّ سألني:
"هل أنت جاهزة للخروج اليوم؟"
قفزت من مكاني أجيبه بحماس طفولي غير مصدّقة عرضه:
"نعم، نعم ،كنت أنتظرك لتستيقظ ، لقد أنهيت فطوري سأذهب لأستعدّ." أخذت بطبقي إلى حوض غسل الأواني وتوجّهت مسرعة نحو الباب، لا أريد أن أضيع الوقت، وأريد أن أستغلّ كلّ دقيقة من هذا اليوم لصالحي. ولكنّ صوته الرّزين استوقفني عند الباب وهو ينادي اسمي بحدّة وحزم شديدين.
"نور...."
نبرة صوته أرعبتني فتجمّدت مكاني، مستديرةً نحوه بتردّد لأجده يرمقني بنظرات حادّة ومعاتبة، ثمّ سألني بعصبيّة تامّة تنم عن عدم رضى :
"ما هذا الذي ترتدينه بحق السماء؟"
ألقيت نظرة خاطفة إلى نفسي وفهمت قصده، فثياب النوم خاصّتي فاضحة جداً، كنزتي قصيرة وبحمّالات على الكتفين، وشورتي قطني وقصير جداً. فأنا لم أتوقّع استيقاظه قبل أن أعود إلى غرفتي وأبدّل ملابسي.
ردّة فعله أحرجتني حدّ الموت متمنيّةً لو أنّ الأرض تنشقّ وتبتلعني أو أني أتمتّع بقدرات سحريّة فأختفي من أمامه بسرعة البرق. وبحركة عفوية جذبت شورتي القصير جداً نحو الاسفل بهدف إطالته قليلاً ، حركة سخيفة ، أعرف ذلك ، ولكنّ الغريق يتشبث بقشة اليس كذلك ،لأتمتم مبررةً بخجل واضح متحاشية نظراته:
"أنا آسفة ، كان الوقت مبكراً وظننت أنّك لن تستيقظ قبل عودتي إلى غرفتي" واستدرت مسرعة راغبة بالهرب من أمامه فاصطدمت بصدر طلال الصلب الذي استلمني من ذراعي كي يمنع سقوطي على الأرض. وكأنّ هذا ما كان ينقصني كي يفقد إيّان عقله تماما.
"هاي... هاي.. إلى أين، ولم كلّ هذه العجلة؟" علّق طلال يحيطني بذراعيه بتملك يساعدني على استعادة توازني.
ولكنّ نظري كان على إيّان الذي وقف من مكانه منتفضاً بنية الإسراع الي ، فأبعدت نفسي من بين أحضان طلال متمتمةً
"آسفة... إلى غرفتي لأجهز نفسي" أجبته راكضةً بهدف الاختفاء عن أنظارهما.
صعدت إلى غرفتي ومباشرة إلى الحمام ، ما الذي يحصل معي بحق السماء ، وكأن الحظ يعاكسني منذ البارحة موقعاً إيّاي بالمآزق المحرجة .
أخذت حماما سريعاً، غسلت أسناني ثم توجهت إلى غرفة الملابس.
ولكن ماذا سأرتدي؟ فأنا لم أسأله إلى أين سيأخذني، كيف سأختار الثياب المناسبة؟ وأخيراً ارتديت سروالاً قصيراً من القماش النّاعم سكري اللون، وارتديت معه قميصاً بنفس اللون، وفيه تقليمات عريضة من الزّهر الفاتح والدّاكن فأنا أحبّ هذا اللون كثيراً. أشعر بأنه يحاكي لون بشرتي الحنطيّة. تركت شعري منسدلاً على كتفيّ ويغطّي ظهري سواده حالك كثيف وناعم. كان أبي يعشق شعري ويمنعني من تقصيره أو حتّى تغيير لونه فكان دائماً ما يقول لي:
"شعرك جميل جدّاً، ولونه مميز ونادر، يعطيك رونقاً خاصّاً بك أنت وحدك، لا تقصّيه ولا تغيّري لونه أبداً، إنّه هويتك وميزتك."
"أبي كم أشتاق إليك وأفتقدك."
أخذت نفساً طويلاً ، أحاول إحتواء الحزن الذي ضربني بالصميم ، ذكرى والدي العزيز الذي لا تفارق بالي أبداً . حبست دمعتي ملقيةً نظرة أخيرة إلى نفسي في المرآة وأخذت حقيبتي متوجّهةً للأسفل.
وصلني صوت طلال وإيّان يتحادثان في المكتب، الباب شبه مفتوح، طرقته بخفّة ودخلت.
إلتفت إيّان نحوي من عن حافّة المكتب يرتدي بنطالاً من الكتّان رماديّ فاتح اللون وكنزة بيضاء ،هذا الرجل يبدو رائعاً بأي شيئ يرتديه، ببدلاته الأنيقة التي يذهب بها إلى المكتب ، أو ثيابه اليومية التي يرتديها حول أرجاء المنزل ، آه التي نادراً ما أراه فيها لأنه حرفياً لا يمكث في المنزل إلاّ نادراً ،أو ثياب الرياضة .
وطلال هو الآخر لا يقل أناقة ووسامةً عن إيّان. إنّهما زوج رائع والعين تتحيّر بأيّ اتجاه ستنظر عندما يكونان معاً. فكلّ منهما يمتلك خصائص وصفات فريدة ومختلفة عن الآخر.
إيّان يتمتّع ببشرة حنطيّة وشعر أسود كثيف وعينين زرقاوتين تخطفان الأنفاس. وطلال أسمر، شعره بنيّ وعيناه عسليّتان جذّابتان.
إبتسمت لهما بخجل وسألتهما بتوتر جلي بصوتي الذي خرج مرتعشاً من نظراتهما المتفحّصة إتجاهي :
"إلى أين سنذهب؟ فأنتما لم تقولا لي"
وبدون تعليق تركا أماكنهما متجهان نحوي يناظرانني بطريقة غريبة أخجلتني وأربكتني،فاستدرت عنهما هاربةً من نظراتهما إلى الخارج حيث كانت السّيّارة بانتظارنا.
انطلقت السّيارة بسرعة معتدلة من أمام القصر، عبر الحديقة الأماميّة نحو البوّابة الرئيسية.
عند البوّابة هناك دائماً ثلاثة حراس يتبادلون الحراسة بين النّهار والليل. فُتحت البوّابة قبل وصول السّيّارة بلحظات قليلة وأغلقت فور عبورنا إيّاها وانطلقت بنا نحو الطّريق الرّئيسيّة وبعد حوالي العشرين دقيقة أخذت منعطف طريق السّاحل.
البحر عن يميننا والجبل عن يسارنا، مرّت أربعون دقيقة على وجهتنا ولم أتلقّ جواباً عن سؤالي بعد، ولا علم لديّ إلى أين نحن ذاهبون. إيّان وطلال كالعادة يتحدّثان عن العمل والمخازن وأشياء لا تثير اهتمامي، فحاولت أن أشغل نفسي بمراقبة المحيط ليجتاح معدتي غثيان طفيف وإنقباضٌ بقلبي لحظة سرحت بنظري إلى البعيد.البحر يخيفني لا أحبّ هواءه الرّطب ولا رائحته ولا ملمس الرّمال تحت أقدامي، والنّظر إليه يجعل قلبي ينقبض بشدّة، يشعرني بالخوف وعدم الأمان، والغدر...
"متى سنصل؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟"
سألت ليلتفت الي إيّان بإبتسامة وسيمة قلّصت معدتي بشكل مؤلم ، فوجدتني أحوّل بصري من محيط واسعٍ ورهيب إلى محيط عميق وغامض. فزرقة عينيه تضاهي زرقة المحيط لوناً وعمقاً. يا الله، لا أدري ما يصيبني،هذا الرجل يثير جنوني ، بقربه أشعر بهرموناتي تلعب بي ورغبةً جامحة للإرتماء بحضنه .
"وأخيراً سألتِ، يبدو أنّ لدينا فائز هنا" علّق إيّان بمرح عاجز عن إخفاء استمتاعه بما يدور حوله فسألته مستغربة جوابه:
"فائز، ماذا تقصد؟"
"مرّت أكثر من ساعة ولم أسمع منك تكراراً للسّؤال الذي لم تسمعي جوابه، وهذا لا يتماشى مع طبيعتك الفضوليّة والملحّة"
حدّقت به ببلاهة "أتقصد بأنّك لم تجبني أوّل مرّة لتكتشف مدى تحمّلي من الوقت قبل أن أعيد سؤالي" أجبته بغضب.
رمقني طلال عبر المرآة يبتسم هو الآخر ابتسامة ماكرة وكأنّه يخفي شيئاً ما عنّي، ماذا يخطّطان هذان الشّابّان، ليجيب إيّان " لا... ولن أجيبك. ولكن طلال توقّع عكس ذلك، توقّع أنّك لن تكفّي عن السّؤال حتّى تعرفي وجهتك، وأنا أصرّيت على أنّي لن أخبرك إلى أن نصل وتعرفيها بنفسك. ولكن يبدو أنّك وفّرت عليّ سماع صوتك المزعج طوال الطّريق" قال عائداً بإهتمامه إلى هاتفه بيده معلناً إنتهاء الحديث
عقدت حاجبيّ معلنة عدم رضاي على كلامه شابكةً ذراعيّ حول صدري وقلت بحدّة:
"حقّاً. طالما أنّك تعترف بأنّ صوتي مزعج، لم لا توفّر على نفسك عناء سماعه وتخبرني إلى أين نحن ذاهبون"
هزّ إيّان رأسه رافضاً إخباري، وفي هذه الأثناء أخذت السّيارة منعطفاً صغيراً لتتوقف عند ميناء كبير فيه مئات المراكب واليخوت مصطفّة على طوله من كلا الجانبين. نظرت حولي شاهقة غير مصدّقة سوء حظّي. أيعقل هذا! إنّه آخر مكان على وجه الأرض أتمنّى أن أقضي نهاري فيه.
قلت راغبة في البكاء: " لا تقل لي بأننا سنذهب برحلة على متن قارب من هذه القوارب"
"بلى... هيّا ترجّلي من السّيارة" قال إيّان وهو ينزل، فتح طلال الباب لي يدعوني للنزول. لحقت بهما وأنا أتذمّر.
"آ،إيّان... لا أستطيع ركوب القارب، فأنا أعاني من دوار البحر"
"توقّفي عن التّذمّر، سارة بانتظارنا أمام المركب، سألتها أن تشتري دواءً، فأنا لم أرد أن أسألك ما إذ كنت تعانين من دوار البحر أم لا، كي لا أفسد المفاجئة، فطلبت منها شراء الدّواء في حال احتجته." بسط كفّه وسط ظهري يقودني أمامه بين المراكب واليخوت.
مشيت بصمت أندب حظّي التّعيس،أحاول تمالك نفسي أن لا أباشر بالبكاء كالأطفال متمنيةً أن تكون سارة وحدها، لأني بالطبع ،لا أريد أن أقضي نهاري وأنا أشاهد إيّان وطلال يمرحان مع حبيبتيهما، ألا يكفي ما سأعانيه من دوار في رحلتي هذه، فلن أحتمل وجود نساء أخريات يأخذن كلّ الاهتمام ويفسدن عليّ رحلتي البائسة.
"إسبيرو" يمكنك أن تميّزه من بين مئات اليخوت التي تتهادى على الشاطئ. رصاصي اللون وإسبيرو مكتوبة بالخطّ الفضّيّ العريض على واجهة المركب الجانبية.
هذه أول مرّة أرى فيها اليخت حقيقة ولكنّي أعرفه، فإيّان يملك مجسّماً مصغّراً عنه في مكتبه، إنّه مركب رائع وجذّاب وفريد من نوعه، لا مثيل له في كلّ الميناء.
اقترب الحاجب من إيّان فور وصولنا مرحّباً بنا. وأنا تنفست الصعداء لحظة رأيت سارة وحدها تنتظر أمام اليخت التي اقتربت مسرعة نحو طلال تحتضنه بتملك ، سلّمت علينا وأعطتني الدّواء ثمّ صعدنا على متنه.
أنت تقرأ
فى ظلال الماضى لكاتبة أمل القادرى
Romanceمقدمة الكتاب أكّد فرويد أنّ شخصيّة الإنسان يحدّدها ويصنعها ماضيه وحاضره ومستقبله. لذا لا حاضر بلا ماضي ولا مستقبل بلا ماضي ، حيث أنّ للماضي أهمّيّة كبيرة وجذرية في نحت شخصيّة الإنسان وصنعها وصقلها ودفعها إلى الحاضر. ومن هنا تأتي أهمّيّة الطّفولة حيث...