الفصل الحادى عشر

682 19 0
                                    

الفصل الحادي عشر

عاد طلال برفقة طبيب، يبدو في حوالي الخمسين من عمره وسيم الطلة ومرح الملامح، دخل الغرفة وتوجه مباشرة نحوي وقال بطيبة:
" ها هي مريضتنا المثابرة، كيف حالك اليوم؟ "
أجبته بخجل رامقةً طلال بتساؤل " بخير، الحمد لله "
قاطعنا طلال قائلاً "إنّه طبيب إيّان، سألته أن يأتي إليك ليخبرك عن حالته"
جلس الطبيب على الأريكة وقال " أعرف شعورك وأنت قابعة هنا لا تستطيعين الحراك وهو هناك في غرفة العناية المشدّدة. لذا ،سأحاول نقل حالته لك بطريقة علميّة مبسّطة وشفّافة. عندما وصل السيد كرم الى المستشفى كان قد توقف قلبه لحوالي دقيقة، ولكن الحمد لله تمكن طاقم سيارة الإسعاف من إنعاشه من جديد.
وصل إلينا مصاباً بثلاث طلقات ناريّة، طلقتين منهما استطعنا استخراجهما بنجاح ومن دون مضاعفات، ولكن، ... هناك الرصاصة الثالثة التي تثير قلقنا، إنّها قريبة جدّاً من القلب وكان قد خسر الكثير من الدماء لذا لم نرد المخاطرة بحياته وإجراء ثلاث عمليّات له، فوضعناه في حالة سبات اصطناعي الى أن يتعافى من العمليتين الأوليتين ثم نجري له العملية الثالثة. لذا نرجو أن تبقى حاله مستقرّة على ما هي عليه حتّى ذلك الحين.
إنّه مناضل آنسة رضى، كحالك تماماً وأعتقد بأنه سيتكمن من الحراك والمشي قبل أن تتمكني أنت من ذلك " وقف عن الأريكة وقال " أرجو أن أكون قد أجبت عن كل تساؤلاتك حول صحة السيد كرم. والآن اعذريني، عندي جولة عليّ إكمالها" ثم خرج من الغرفة مهرولاً كما دخل.
وقف طلال عند النافذة، ينظر الى الخارج بصمت. يبدو مرهقاً، شعره مبعثر وذقنه طويلة، مرر أصابعه بعصبيّة عبر شعره آخذاً نفساً عميقاً ثم تركها معلقة عند مؤخرة رأسه وكأنه يحاول كبت شيئاً أليما بداخله.
كسر سكون اللحظة رنين هاتفه، انتشله من جيبه وأجاب: " نعم ... ... لقد استيقظت ... .... لا .... .... أفضّل أن تأتي غداً، حالتها النفسيّة لا تسمح لها بالكلام اليوم ... .... حسناً، موعدنا غداً إذاً عند العاشرة صباحاً ... إن شاء الله. "
أقفل الخطّ، قرّب الاريكة من سريري، انتشل ظرفاً من جيبه ثم جلس.
وقبل أن أسأله عن هوية المتصل قال:
" إنّه المحقّق الذي يحقق في قضيتكما، يحتاج الى بعض المعلومات منك حول ما حصل. طلبت منه أن يأتي غداً، لا أريدك أن تتحدّثي عن الموضوع قبل أن تصبحي مستعدّة."
ابتسمت له ابتسامة باردة وضعيفة وعينايَ تراقبان الظرف في يده. راح يقلّب الظرف بتوتّر وقال:
" أعطاني إيّان هذا الظّرف قبل أن يتركنا ويذهب إليك... ...
طلب منّي إعطاءك إيّاه في حال حصل مكروه له. أعرف بأنّ الوقت ليس مناسباً ولكنّي متأكد كذلك الأمر بأنّه يتمنّى منّي إعطاءك إيّاه الآن. "
أعطاني الظّرف وهو يحاول قدر الإمكان تحاشي النّظر الى عيوني.
فتحته بلهفة وأنا أشعر بقلبي ينبض بين يدي. حدّقت مطوّلاً إلى الورقة قبل أن تبدأ الأحرف والكلمات تتوضّح أمامي... ...
" حبيبتي نور:
اذا كنت تقرئين هذه الرسالة، هذا يعني أنّ الأمور لم تجر كما تمنّيت لها أن تكون.
أرجوك لا تشعري بالضيق، سامحيني واغفري لي فراقك المفاجئ بهذه الطريقة ولا تلومي نفسك لأنه لا ذنب لك بكل ما حصل.
ومهما كانت الحقيقة التي ستعرفينها فهي لن تغيّر من حقيقة وقوّة مشاعري تجاهك.
مازلت أذكر تلك اللحظة التي رأيتك فيها للمرّة الأولى وأنت تنزلين من السيارة وتنظرين حولك باستفسار في ذلك الفستان الأسود وشعرك الطويل وعيناك الحزينتان على فراق والدك.
أيقنت ذلك الوقت بأنك لست إنسانة عاديّة ولن يكون الوضع سهلاً وجودنا في نفس المكان والزّمان.
أسرتني بجمالك الحزين والرقيق وبعنادك وإصرارك المُرْهِقان، وببراءة قلبك وطهارة روحك.
مع أنّي حاولت جاهداً مقاومة هذا الحبّ وكتمه في قلبي وروحي لأسباب خاصّة ومؤلمة، إلاّ أنّ عنادك حال دون ذلك، إذ استمريتِ بالاندفاع نحوي، وتركتني عاجزاً عن التفكير بمنطق فوجدت نفسي متيّماً بك وقلبي وروحي يتقطران شوقاً وهياماً للمزيد منك.
لقد أحببت فيك ذكاءك ومرحك وعشقك للحياة، لذا أرجوك ابقي كذلك ولا تيأسي، فالحياة جميلة وتستحقّ أن يحارب الإنسان من أجلها ويعيشها بكل لحظاتها الجميلة والتعيسة وأنت بالتأكيد تستحقين كل جميل فيها.
لقد بقى سرّاً واحداً لم أبوح به لك ظنّاً مني أنّه للأفضل من أجل مصلحتك ومستقبلك ، حبيبتي نور ، قبل وفاة والدك تم عقد قراني عليك بنية أنّ يبقي مجرد ورقة أستعملها إذ إحتجت اليها وأمزقها عندما تجهزين للإلتفات إلى حياتك بعيداً عني ، ولكنّي للأسف إضطررت إلى تثبيت ذلك العقد قانونياً قبل ذهابي اليك كي أضمن حقوقك كاملة بإستملاك أملاكي مناصفةً بينك وبين طلال ، طلال سيهتم بك من جميع النواحي ، لا تقلقي ، لن يتخلّى عنك أبداً.  
أرجوك نور فأنا اتمنّى منك تخطي هذه المسألة بطيب خاطر وبأقل ضرر ممكن وسامحيني أرجوك، سامحي هذا القلب الذي لم ينبض إلاّ عندما ارتوى بحبك وغادر هذه الدنيا لا يفكّر إلاّ بك".
شهقت مقلبّةً الورقة عليّ أجد فيها المزيد من كلامه وريحه. خانتني دموعي وكأنّها كانت تنتظر اللحظة المناسبة لتنهمر دون توقف، أنا زوجته!!  إنّه زوجي !! لقد أخفى عنّي ذلك ، وماذا بعد ؟! إذ كل يوم أكتشف سرّاً عظيماً ، اليماً ، مقيتاً ، إفلاس والدي ، تشردي ، والآن خبر زواجي الذي لا أعلم به حتى ، وهل هذا يجوز ، أن أكون زوجة لرجل لا أعلم بأني زوجته.
أخذ طلال الرسالة من يدي وقال:
" أرجوك نور، أعطيتك الرسالة لتتحلّي عبرها بالقوّة والإرادة وليس العكس."
" هل كنت تعلم ، هل كنت تعلم بزواجنا ؟؟!! كيف ، كيف ؟؟" صرخت عاجزة عن إدِّعاء الهدوء .
طأطأ طلال رأسه خَجِلاً من نفسه ومن ما سيقوله " نعم ، نعم ، لقد كنت شاهداً على ذلك الزواج "
" كيف يتزوجني بدون علمي ، هل هذا يجوز ، اليس من المفروض أخذ موافقتي "
" لقد توّلى والدك الإنابة عنك ، لقد كنت قاصر وهو ولي أمرك فتولّى المسألة بنفسه دون العودة اليك ، إنّه زواج شرعي من كل النواحي نور"
" وهل كنتما تنويان إخباري ، هل كان ينوي إخباري "
سكت ، صمت ، لا يملك إجابة ، وأنا ، أشعر بالخيانة ، أشعر بالغضب والحنق ، أشعر بالرغبة للصراخ عالياً ، عالياً ، عالياً . 
شهقت عاجزة عن تمييز ألمي، أهو جسديّ نتيجة الكسور والرضوض أم ألم قلبي وروحي ونفسي التي تبكي فراق حبيبها وتندبه، الخيانات المتتالية ،أمْ كل ذلك معاً.
دخلت الممرّضة في هذه الأثناء مع أدويتي، رمقتني بشفقة قائلة:
" يبدو أنّنا حسدناك، كناّ اليوم نتحدّث عنك ونشيد بصبرك وتماسكك. هيا اهدئي، فالبكاء سيزيد من ألمك. إن شاء الله سيتعافى حبيبك ويعود إليك من جديد" غرزت حقنة في كيس المصل مردفةً "هذا مسكن للألم، سيساعدك على النوم والاسترخاء لصباح الغدّ"
أخذت منديلاً رطباً تمسح فيه وجهي الرطب من دموعي الصامته وعنقي الى أن غرقت في نوم عميق لم أستيقظ منه إلاّ في صباح اليوم التالي.
دخلت الممرّضة غرفتي بعد استيقاظي بدقائق قليلة، حيّتني بوجهها البشوش،
" صباح الخير، أرجو أن تكوني قد نمت جيّداً " سألتني وهي تعاين المعدّات وتفحص مؤشراتي الحيويّة.
سألتها " أين طلال ؟؟ "
أجابتني وهي مشغولة بضبط تدفق المصل:
" ذلك المسكين، لم يغادر المستشفى منذ ثلاثة أيّام مضت.
أجبرناه البارحة على الرحيل ليرتاح قليلاً ، واليوم جاء قبل شروق الشّمس"
" أين هو الآن؟ "
" أعتقد بأنّه عند إيّان في الأعلى، أتى لرؤيتك باكراً، كنت نائمة بقي لفترة ثمّ خرج"
لقد أطلقت عنان غضبي البارحة على ذلك المسكين ، إيّان ووالدي خدعاني ، ظنّاً منهما بأنهما يحميانني ، ولكنّهما لم يدركان بأنهما يؤذيانني حدّ الصميم .
زوجي إيّان كرم ، لم أرد أن أكتشف بأني زوجته بل أرتدته أن يطلبني للزواج ، يحبني ، يقع بغرامي يعشقني حدّ الجنون ومن ثم يطلبني للزواج .
مسحت دمعةً يتيمة ، إنزلقت رغماً عنّي ، لن أعترف بهذا الزواج ، لا أريد منه شيئ ، هذا الزواج باطل .
وطلال خدعني ، ولكّني رغم كل ذلك ، لا أستطيع أن أحقد عليه بعمق ، وهو هذا المسكين الذي يحمل همّ الدنيا على ظهره، وخاصّة الآن وبهذه الظروف .
*********
عند العاشرة تماماً، دخل طلال الغرفة برفقة رجل يرتدي ثياباً رسميّة، لا بدّ انّه المحقّق. 
" مرحباً نور، أنا المحقّق منير خليل، أرجو أن يكون وقتك مناسباً للإجابة عن بعض الأسئلة"
قال مقرّباً الأريكة الى سريري وجلس عليها. وطلال أسند ظهره الى النافذة يراقبنا بصمت.
" نعم تفضّل، أنا جاهزة للإجابة عن كل أسئلتك"
انتشل دفتراً صغيراً من جيبه وقلَماً ثمّ سألني:
" هل كنت تعرفين الخاطف من قبل؟ "
" لا، كانت المرّة الأولى التي أراه فيها"
" عندما اختطفك، هل طلب فدية ماليّة مقابل إرجاعك؟ "
" لا ...لم يطلب مالاً "
"كيف عرفت ذلك؟ "
"من فحوى كلامه مع إيّان، لم يكن يسعى الى المال بل للانتقام"
هل رأيت معه أحدا أثناء عمليّة اختطافك أو حيث كان يحتجزك؟ "
" لا أعتقد ذلك، كنت طوال الوقت معصبة العينين ولكني واثقة من أنّي لم أسمع صوت أحد غيره في أرجاء المكان. "
" بحسب ما علمنا، لم تكن المرّة الأولى التي حاول فيها قتل السيد كرم. منذ عشرة سنوات مضت قَتَل زوجته وفشل في قتل السيد كرم. هل لديك معلومات عن تلك الحادثة؟ "
كلامه فاجأني وضيّعني ، قتل زوجته، هذا يعني ... ... كيف هذا ؟ قال بأنّه قتل نايا ذلك اليوم، أيعقل هذا؟ سألته:
" قلتَ بأنه قتل زوجته، ما اسم زوجته حضرة المحقّق؟ "
" نايا سالم، لقد قُتلت في نفس المكان والزمان الذي أصيب فيه السيد كرم، منذ عشرة سنوات مضت. إذًاً تقولين أنّه لا علم لك بأسباب تلك الحادثة "
نظرت إلى طلال مستغربة ما أسمعه وعاجزة عن ربط الأمور ببعضها وهو بدوره غضّ بصره عنّي متحاشياً النظر إلى عيوني.
نايا إذاً هي زوجة خاله، حسناً، أنا ضعت هنا، ما عدّت أفهم شيئاً، إذا كانت زوجة خاله، فهذا يعني أنّها لم تكن حبيبته... ... ومنذ عشرة سنوات مضت كان إيّان في السابعة عشرة من عمره... لم خاله حاول قتله؟ حينها كان مجرّد مراهق... ....
" آنسة نور، أما زلت معي؟ " أيقظني صوت المحقّق من غفلتي فأجبته معتذرة:
" نعم اعتذر منك، ماذا كان سؤالك؟ "
" ما الذي سمعته بالتحديد، عندما التقى السيد كرم بخاله السيد كمال عيد؟ "
"بالحقيقة لم أفهم شيئاً ممّا حصل "
" أخبرينا أنت بالتفاصيل ودعي التحليل لنا "
لم يتحدّثوا كثيراً، كلّ ما أذكره هو قوله لإيّان: لن أخطئ في إصابة قلبك هذه المرّة " شعرت لأثر هذه الذكرى وكأنّ قلبي ينبض في جسدي بأكمله، سكتّ لبرهة محاولة استعادة ربط جأشي ثمّ تابعت " ثمّ راح يتحدّث عن نايا وكيف أنها وقفت بينهما وتلقت كل الرصاصات، فقط لاغير."
" هل أنت متأكدة نور، لم تسمعي شيئاً آخر؟ " سألني وكأنّني أمسك عنه معلومات أخرى.
" لا، أنا متأكّدة، لم يتكلما عن شيء آخر، هذا كل شيء "
أعاد الدفتر الى جيبه ووقف قائلاً:
" شكراً لك على استقبالي هنا، أرجو أن لا أكون قد أزعجتك"
" العفو حضرة المحقّق،... ماذا حصل لخاله؟ أين هو الآن؟ "
" لقي حتفه إثر طلقات ناريّة أصيب بها بمسدّسه الخاصّ، توفي فوراً في مسرح الجريمة" أجابني ثم اعتذر وخرج.
هذا رهيب!! لقد قتله إيّان. هل هذا جيّد؟ بالطبع لا ...إنّها كارثة.
خاصّة بالنسبة الى إيّان، لن يتقبّل فكرة أن يكون قد قتل نفساً وخاصّة اذا كانت هذه النّفس خاله. إنّه أمر مخيف. ولكنه لم يقتله عمداً كان دفاعاً عن النّفس ضدّ رجل عنيف ومسلّح وخطير.
جلس طلال على الأريكة مكان المحقّق،يبدو حزيناً مرهقاً مهموماً ، أمسك بيدي وقال:
" أنا آسف نور، آسف لجعلك تمرّين بكل هذه المأساة وهذه الظروف خاصّة أنه لا ذنب لك بكلّ هذا سوى حبّك الكبير لإيّان."
" أنا لا افهم شيئاً طلال، ما الذي حصل قبل عشرة سنوات ليدفع رجلاً يسعى يائساً لقتل زوجته وابن أخته ومن ثمّ يعاود الكرّة بكلّ برود أعصاب؟ ما الذي حصل حينها؟ وما قصّة نايا؟  لطالما ظننت أنّها حبيبته ليتضح بعد ذلك أنّها زوجة خاله. ما الذي يحصل؟ أجبني؟" سألته بكلمات تختنق في حنجرتي.
وضع طلال رأسه بين كفّيه وكأنّه يحمل جبلاً فوقه، أخذ نفساً عميقاً وقال:
" أظنّ بأنّ الوقت قد حان لتعرفي الحقيقة كاملة، ولكن عليك أن تعديني بأنّ الحقيقة مهما كانت لن تؤثر على طبيعة مشاعرك لإيّان "
"أعدك بذلك " وعدته مرتعبة من تلك الحقيقة التي أشعر بأعماقي بأنها ليست من حقي ، وبأنها تحمل أسراراً فضيعة .
سرح بنظره بعيداً وكأنّه يغوص في غيابات الماضي وقال:
" بدأت قصّة إيّان قبل ولادته بسنوات طويلة، مع والده السيد إحسان كرم، كان رجلاً نزيهاً يملك أموالاً لا تأكلها النيران. كان متزوّجاً من امرأة أحبها كثيراً، ورغم عجزها عن إنجاب طفل له يرثه لم يتركها، بل بقي معها الى أن توفيت بمرضٍ عضال.
كان والده في ذلك الحين قد شارف على الستين من عمره. بعد وفاة زوجته قرر أن يجرب حظّه ويتزوج بامرأة شابّة علّها تنجب له وريثاً يرث أمواله وأملاكه من بعده. وهنا أتى دور والدة إيّان، ريّا عيد، كانت تعمل عنده كموظفة استقبال، شابّة جميلة في حوالي الرابعة والعشرين من عمرها، فقيرة وتعمل لكسب رزقها. عندما أخبرها السيد إحسان بنيّته قبلت على الفور. قبلت وهي تفكر بالأموال الطائلة التي سترثها بعد وفاته وكيف ستصرفها ولكنها لم تفكّر ابداً بالطفل الذي ستنجبه له ليرثه.
تركت خطيبها وتزوجته، وأنجبت له إيّان.
توفّي والده بعد أربعة سنوات من الزواج بسبب أزمة قلبيّة حادّة، وجدوه ميتاً في منزله وحيداً دون صحبة.
هنا بدأت مأساة إيّان المتتالية. كان عندها في الثالثة من عمره اذ اكتشفت والدته بأنّ زوجها لم يترك لها شيئاً بعد وفاته وبأنّه سجّل كلّ أمواله وأملاكه بإسم إيّان وحدّد له مبلغاً شهرياً يُصرف عليه حتّى يبلغ سنّ الرشد ويتسلّم أمواله بنفسه. وترك فقط المنزل ومبلغاً شهرياً مماثلاً للأم.
لم يعجبها ما حصل وعطّل عليها مخططاتها المستقبليّة فثارت ثورتها وانصبّت على هذا الطفل المسكين الذي لا يفقه شيئاً من هذه الدنيا سوى حاجته الفطريّة والماسّة لأّمه وصدرها الحنون.
تزوجت بخطيبها السابق , الذي بدوره كذلك الأمر أعماه الطّمع، لم تخبره بحقيقة تجميد أملاك زوجها لصالح ابنه فتزوّجها ظنّاً منه أنه يكسب بزواجه منها أموالاً وأملاكاً سيموت قبل صرفها ليتفاجأ بالخبر بعد زواجهما.
بالطبع جنّ جنونه وصبّ جام غضبه عليها وعلى إيّان الذي أصبح بالنسبة إليهما عدواً وسبباً رئيسيّاً في منع الأموال عنهما.
إهمال أمّه وعدم اكتراثها له وظلم زوجها وعنفه المستمرّ سبّبا له حرماناً وأذى مستديم استمرّ أربع سنوات الى أن توفيت والدته إثر جرعة زائدة من الممنوعات تاركةً إيّاه وحيداً للحياة ومأساتها.
كان إيّان في السابعة من عمره في ذلك الحين عندما اكتشفت مؤسسة حماية ورعاية الطفل العنف الذي تعرّض له من قبل أمّه وزوجها فنقلوه للعيش في بيت خاله ظناً منهم أنهم يؤمنون له بيئة عائليّة آمنة وطبيعيّة ليكتشفوا عكس ذلك ولكن بعد فوات الأوان"
توقّف لبرهة وكأنّه يحاول ضبط أفكاره ثم تابع " كان خاله رجلاً سكيراً وعنيفاً لقد كان جارنا في الحيّ، هناك تعرّفت الى إيّان وأصبحنا أصدقاء. كان لا يفصل بين منزلي ومنزله سوى سور خشبيٌّ عتيق فيه فتحة كان دائماً ما يتسلل منها ويأتي اليّ هرباً منه.
نايا كانت زوجة خاله، شابة في العشرين من عمرها، أتى بها من لبنان بعدما تزوجها لا أقارب عندها في كندا، كانت وحيدة وبسيطة حنونة وشابة جدّاً. أحبت إيّان كثيراً وهو بدوره أحبّها ووجد فيها حضن الأم الذي فقده في أمّه عندما كان طفلاً ، كان دائماً يتسلل الى فراشها اذا استيقظ من كابوس مزعج اثناء الليل لينام في حضنها وعند الصباح كانت تخرجه من المنزل وتطلب منه البقاء عندي الى ان تناديه.
كان دائماً ما يقف عند النافذة المطلّة من غرفتي إلى منزله ليستمع الى صراخ خاله وأصوات التكسير والضرب الذي كان ينهال به عليها في كل صباح يعود فيه ثملاً إلى المنزل.
كان يعمل حارساً ليلياً لإحدى الشركات وكان غالباً ما يعود الى المنزل ثملاً وينهال على نايا بالضرب ولا يوفر إيّان إذا صادفه في المنزل، لذا كانت ترسله إلينا كل صباح كي لا تعرضه لما تتعرّض إليه. مرّت السنوات على هذه الحالة إلى أن " غصّ طلال في الكلام وكأنّ ما سيقوله علق في حنجرته، أخذ نفساً عميقاً ثم تابع بصوت مليء بالأسى " إلى أن أتاني يوماً باكياً، لم يتوقف عن البكاء لساعات ثم قال لي ( أنا أحبها كثيراً، إنّها أمي التي ربّتني وحَمَتني وتلقّت الضربات عنّي، لا أستطيع فعل ما تريده منّي، لا أستطيع) كان إيّان حينها في الخامسة عشر من عمره ولم أفهم ما قاله إلاّ بعد سنوات عدّة.
في تلك الليلة التي أتاني فيها باكياً نور، كانت نايا قد قلبت الأدوار وهي من تسلل إلى فراشه مراهقاً وطلبت منه ما يستحيل على ابن أن يفعله لأمّه ولكن رغم ذلك، أرغم نفسه على الرضوخ لطلبها فقط لإرضائها.
بعد مرور سنتين على هذه الحالة، فاجأهم خاله في صباح يوم وهي في فراشه، أخذ المسدّس مطلقاً النّار عليهما عشوائياً. تلقت هي كل الرصاصات ما عدا واحدة، أصابت كتف إيّان.
توفّيت نايا على الفور وأدخل إيّان المستشفى للعلاج النّفسي قبل العلاج الجسديّ وحكم على خاله بالسجن لعشرة سنوات. بقي إيّان في قسم العلاج النفسي إلى أن أكمل الثامنة عشرة من عمره. كنت أزوره دائماً هناك وعندما خرج، باع بعض أملاك والده وحوّل أمواله الى لبنان وقرّر المجيء للعيش هنا. إنّه بلد والده الأصلي. طلب منّي مرافقته فقبلت دون تردّد ومنذ ذلك الحين ونحن معاً في السراء والضراء "
" يا ليت المسألة مسألة سؤال وجواب نور، إنّها طفولتي ومراهقتي وماضيّ بأكمله ، أنا رجل بلا طفولة، براءتي اغتصبت، روحي سجنت وقلبي تجوبه الظلمات. إنّني ظل رجل لم يبقَ منه إلاّ طيف يسير بلا هدى ولا هدف "
راح صدى كلماته يتردّد في عقلي مراراً وتكراراً.
هذا رهيب،أيعقل أن يكون في هذه الدنيا هكذا ظلم بحق الطفولة والمراهقة.  إنّه أمر مأساوي ورهيب ويستحيل أن يكون حقيقة واقعة بحقّ طفولة هذا الرجل الذي لا يتّصف سوى بعكس ما عاناه في ماضيه.
مالَ طلال وجهي اليه يرمقني بذعر " هل أنت بخير؟ قولي شيئاً؟ أنت تخيفينني "
أومأت له برأسي على انّي بخير، ولكن نظراته نحوي لا تشير على أنّه يراني بخير. أنا حقاً أشعر ... لا .... لا أعتقد بأنّي أشعر بشيء ، هذا يعني أنّي بخير، هذا ما قلته لنفسي . ثمّ فجأة اعترتني رغبة جامحة لرؤيته، لأحضنه وأبكي وأنوح على صدره، لأنعم بدفئه وحنانه وعطفه، لأمسك بيده وأخبره بأنّي أحبّه وأحتاجه وأرجوه بأن لا يتركني ويناضل من أجلي لأنّ حياتي يستحيل أن تستمرّ من دونه.
لألقي بنفسي بين أحضانه وأخبره بأنه أروع وأفضل وأحن إنسان بهذا الكون وبأني سأقضي حياتي كلها أُحبّه وأذكّره بأنّ هناك حب صادق بريئ وخالٍ من المصالح بهذا العالم، عليه فقط أن يناضل لأجل حياته وأجلي . 
همست لطلال بهدوء تامّ:
" أريد رؤية إيّان، خذني إليه ... أريد رؤية إيّان خذني إليه ... "
ثمّ رويداً رويداً بدا صوتي يرتفع حتّى ملأ ارجاء الغرفة. أمسكني طلال محاولاً منعي عن الحراك وبعد لحظات امتلأت الغرفة بالممرّضات.
رحت أصرخ علّهم يسمعون: " أنا بخير ... كل ما أريده هو رؤية إيّان ... أنا بحاجة إليه... اسمعوني، أنا فقط  بحاجة إليه... أحتاج لأن أكون بقربه ... أرجوكم خذوني إليه،إنه بحاجة الي ، فقط دعوني أكلّمه للحظات أرجوكم "
قال طلال بعصبيّة وهو ما يزال يحاول منعي عن الحراك " افعلوا شيئاً قبل أن تؤذي نفسها." 
أجابته الممرّضة وهي تحاول تثبيت حركتي " سنعطيها مهدءاً يجعلها تنام، إنه الحلّ الوحيد الآن، وسأتّصل بطبيبها وأعلمه عن حالها حالاً."
***
استيقظت من نومي مشوشة الأفكار، وأشعر بانزعاج كبير. ماذا حصل؟ ماذا فعلوا بي؟ لا أريد النّوم بعد الآن، ولا اريد الاستلقاء على هذا السّرير اللّعين عاجزة عن الحراك ، لقد مللت من وضعي وعجزي.
رؤيتي غير واضحة وكأنّي في غرفة مليئة بالضباب. نظرت جنبي لألاحظ امرأة ترتدي فستاناً زيتيّاً أنيقاً، تحمل كتاباً تقرأ فيه، شعرها معقود وترتدي نظارة طبّيّة. ابتسمت لي لمجرّد رؤيتي أحاول رؤيتها بوضوح.
رفعت سريري قليلاً حتّى لا ابقى في وضعيّة الاستلقاء التّام ثم ناولتني كوب ماء وهي تبتسم مطمئنة.
أخذت الكوب من يدها وأنا أراقبها. من هي هذه المرأة؟ وماذا تفعل هنا؟
يبدو أنّها لاحظت نظرة التساؤل في عيوني فبادرت بالقول:
" أنا الطبيبة سهى جابر، معالجة نفسيّة، كيف حالك اليوم؟ سمعت بأنّك مررت بحالة هستيريا طفيفة البارحة. لا داعي للخوف هذا أمرٌ طبيعيّ في وضعك وظروفك ولا يعدّ أمراً خطيراً. "
رفعت لها حاجبي مبدية عدم إعجابي بوجودها ولكن ماذا سأقول، إنّها معالجة نفسيّة ولا أعتقد بأنّها بحاجة لتسمع منّي كلاماً لتفهم ما يجول في خاطري. اذ ابتسمت ثم أخذت نظارتها عن عيونها وقالت بصوت دافئ:
"أعرف بأنك تتساءلين عن سبب وجودي هنا. فأنا هنا بناءً على طلب طلال ... لا تخافي ليس لمعالجتك بل للإجابة عن أسئلتك حول موضوع السّيّد إيّان وماضيه. "
رمقتها بنظرة استغراب. ماذا تقصد بكلامها؟ أيعقل أن يكون طلال قد أخبرها بما أخبرني إيّاه عن إيّان؟ هذا لا يجوز، لا يحقّ له بذلك. إنّها مسألة تخصّ إيّان وحده؟
" بالطبع تتساءلين عن الخصوصيّة السّرّية التي تمنع أي طبيب من مناقشة حالة مرضاه مع أي جهة كانت دون إذنه. لقد تلقيت خطاباً من السيد إيّان قبل ساعات قليلة من إصابته يطلب فيها منّي أن أقوم بمساعدتك والإجابة عن أي سؤال قد يجول في بالك حول حالته النفسية والمرضيّة في حال فارق الحياة. ولكن يبدو أنّ طلال استبق الأمور وأخبرك بكل شيء وتركني في وضع حرج لا أستطيع التخلي فيه عنك، لذا أنا جاهزة للإجابة عن كلّ أسئلتك"
كلامها أثار تساؤلاتي، ولم إيّان يقصد طبيبة نفسيّة بعد مضي كلّ هذه السنوات ؟؟ سألتها: "منذ متى وإيّان يتعالج عندك؟ "
"لقد كنت طبيبته المعالجة للأشهر الستة التي مضت والفضل في ذلك يعود الى طلال الذي سعى جاهداً لإقناعه بذلك"
ولمَ يسعى طلال لإقناع إيّان باللجوء الى معالجة نفسيّة؟
" عفواً على سؤالي، ولكن ما الذي دفع إيّان في اللجوء الى علاج نفسي عندك؟ "
" أنت دفعته الى ذلك "
صدمني جوابها، ماذا تقصد؟ ماذا فعلت أنا؟
" نعم، هذا صحيح، لا تستغربي ذلك.
عندما أتى إيّان لزيارتي في المرّة الأولى، كان في المراحل الأولى للصراع النفسي الذي تملكه عندما بدأ يلاحظ إعجابك به ومحاولاتك للفت انتباهه. وهو بدوره كان قد بدأ يشعر بالضعف والعجز عن مقاومتك بسبب عنادك وإصرارك عليه.
الصراع الذي ولَّدْتِهِ عنده تعود جذوره الى ما عاشه في طفولته. فالمرأة التي أحبّها كأمّه وأعطته الحبّ والحنان والعطف والحماية منذ كان في السابعة من عمره، تحول إلى مرض ومأساة في عمر الخامسة عشر. ففي نفس الوقت الذي كان ما يزال يرى في نايا الأم التي حُرم منها ويحتاج إليها، هي بدأت ترى فيه شاباً وسيماً تريده لنفسها وبشدّة، خارقة بذلك قوانين الطبيعة.
لقد كانت مرحلة صعبة جداً عليه، إذ جعلته يتخلّى فيها عن كل شيء يسمّى براءة وحضن أم دافئ كان ما يزال بحاجته.
أقنعته بأنّها ربّته وحمته وأعطته والآن أتى دوره في إعطائها وحبّها وحمايتها. غرست في عقيدته أنّ الحبّ هو أخذ وعطاء، لا تعطي إلاّ إذ كنت تتوقع شيئاً بالمقابل ولا يهمّ الوسيلة أو الغاية.
نعم، لقد اغتصبت براءته وطفولته وعقيدته وجعلت الحب بالنسبة إليه وسيلة وليس غاية، بل قضت على قوانين الحبّ بأكملها لديه.
لكنّه تخطّى الأمر وعاش حياته من بعدها، يأخذ ويعطي، عاشر النساء واختار الناضجات منهنّ والذوات خبرة بالحياة وتجاربها وابتعد عن أي امرأة تبدو له بلا خبرة او تجربة سابقة.
كلّهنّ كنّ في عمره تقريباً أو حتّى أكبر منه سنّاً.
في هذه المرحلة العقل الباطن كان هو الذي يتحكّم بتصرّفاته دون أن يشعر هو به. حتّى ظهرتِ انت في حياته وجسّدت كلّ ماضيه وآلامه وأعدته الى مرحلةٍ من حياته كان يظنّ بأنّها قد ولّت. وأنت بعنادك وإصرارك كنت تضغطين عليه باستمرار ،والذي جعل حاله تسوء أكثر أنّه بدأ يحبك وبدأت عقدة الذنب تحطم الجدران التي عاش لفترة عشرة سنوات يبنيها بينه وبين الماضي وكأنك أعدته اليه بكبسة زر"
قاطعتها واليأس يتملّكني " ولكن لم أنا؟ لم أنا بالذات التي أعادت له الماضي؟ قلتِ بأنّه عاشر عددًا من النساء بشكل طبيعيّ، فما الذي اختلف معي وجعلني سبب آلامه، وجسر عبور الماضي إليه؟ "
" هذا هو السؤال الذي أريد الإجابة عليه بالتحديد.
كل النساء اللواتي كان يعاشرهنّ مجربات، ناضجات، عندهن خبرة بالحياة. أمّا أنت جعلته يعيش الماضي من جديد ولكنك قلبت الأدوار هذه المرّة. ذكّرته بنفسه عندما كان في مثل سنّك يعيش تحت كنف امرأة أحبّها واحترمها كثيراً كأمّ له.
وأنت أتيت إليه تلك المراهقة البريئة والتي لا خبرة لها بالحياة وما تزال بحاجة الى حضن أبيها الدافئ الذي فقدته. وكأنّ التاريخ يعيد نفسه. فأنت أتيت للعيش في منزله ووُضعتِ تحت وصايته ليحميك من غدر الدنيا ،ويعلّمك ويكون لك بمكانة والدك الذي خسرته وليس العكس"
"ولكن هذا ليس صحيحاً. فإيّان كان متحفّظاً جدّاً بعلاقته معي. وهناك اختلاف كبير بين علاقتي به وعلاقته بنايا. كيف يعقل أن يفكر بهذه الطريقة؟"
"نعم هذا صحيح بالنسبة إليك والى كل شخص لم يعش الحالة التي عاشها إيّان، ولكن بالنسبة إليه، عقله الباطن هو الذي كان يفسّر له الحالة التي كان عليها معك.
أن تسألي شخصاً ما أن يشعر بك وبألمك لن يكون نفس الشعور ما ذا كان الألم بداخله. تماماً كالمثل الذي يقول: من يشعر بدفء النار ليس كمن يُكوى بها.
وهذا ما حصل مع إيّان. إذ في كلّ مرّة كان يقترب فيها منك أو يشعر برغبة تجاهك كان يستعيد ذلك الألم والعذاب الذي كان يشعر به وهو بين أحضان نايا فكانت عقدة الذنب ترهقه اذ يتهيأ له انّه يستغلك كما استغلّته نايا في ذلك الوقت.
وهنا أتى دوري لأساعده وأقنعه بأنّ ما يحصل هنا أبداً لا يشبه ما حصل في الماضي وأنك حتى ولو كنت مراهقة وبريئة وعديمة الخبرة وتحت وصايته الشرعية.  ورغم كلّ أوجه الشّبه هذه التي ربطت بينك وبينه في تلك الأثناء, إلاّ أن هناك فارق جذري وهو أنك أبداً لم تنظري إليه، كما هو نظر إلى نايا ولم تعتبريه ولو للحظة كوالد لك. بل منذ اللحظة التي دخل فيها حياتك وجدت فيه رجل أحلامك الذي تحبينه وتعشقينه. "
" أتقصدين من كلّ هذا أنّه تخطّى المشكلة واقتنع أنّ حبّه لي لا يشبه حبّ نايا له؟ "
"الإجابة عن هذا السؤال معقّدة قليلاً. لا يمكنني القول بأنّه تخطّى تماماً هذه العقدة "عقدة الذنب" ولكنّه أصبح في مراحل متقدّمة من العلاج بخصوصها، إذ بدا يتقبّل الفكرة عموماً واقتنع بأنك لن تكوني سعيدة من دونه وأنك بحاجة إليه، خوفه عليك كان السبب الرئيسي لبوحه بحبه لك. "
"إذاً، مازال يصارع نفسه من أجل حٌبّي ومازلت سبباً في عذابه وعقدة ذنبه " وجدتني أتساءل بصوت مرتفع، دون أن أشعر ، إذ بادرت الطبيبة بالإجابة عن تساؤلاتي:
"لا أريدك أن تفكّري بهذه الطريقة، بل اريدك أن تعرفي بأن حبكما لبعضكما هو افضل ما حصل له وما يمكن أن يحصل.
فحبّه لك أعاد إليه حياته الطبيعيّة كإنسان يحبّ، يحلم بالغدّ، يشعر، يتمنّى، يخاف، يتألّم. أنت لست سبباً لآلامه، بل أنت درب التّخلّص منه والدواء الذي سيقضي عليه .ولكن صبراً عليه، فهو مازال مبتدأً في هذه الأمور"
ذكرتني كلماتها بما قاله لي ذلك اليوم تحت شجرة السّرو:
" صبراً عليّ، فأنا مازلت مبتدأ في هذه المسائل" نعم معها حقّ حبّي له غيّره للأفضل كما حبّه فعل معي وإن شاء الله، مع الوقت سيتخطّى تلك المرحلة من حياته وينساها كلّيّاً، طالما أنّنا نسير على الطريق الصحيح بالتأكيد سنصل الى غايتنا المنشودة في نهاية المطاف. وأنا عليّ أن أتقن دوري وأقنعه بأنّه لا يجتاح براءتي أو يستغلّني بحبه لي، بل  بالعكس، إنّه يدافع عنها ويحميها أكثر من أي شخص على وجه هذه الأرض.
الآن فهمت سبب رفضه المستمرّ لي وخوفه عليّ من نفسه، وإذ كان يشعر بي وأنا بين يديه كما كان يشعر بنفسه وهو بين يدين تلك الحقيرة والمريضة نايا، كيف طاوعها قلبها بعد أن ربّته كابنها طفلاً لتستغلّه بعد ذلك وتجبره على أن يكون عشيقها.
لو أنّ زوجها لم يقتلها، لكنت أنا قتلتها بنفسي وعصرتها وقطّعتها. إنّها عديمة الرّحمة والإنسانيّة، وكأنّ ما عاناه من أمّه وزوجها وخاله لم يكفه، لتأتي هي وتقضي على كلّ ما تبقى منه.
إنّه طيب القلب والروح ليحاول حمايتي من نفسه خوفاً من أن يكون مثل نايا ويستغلّ وضعي وضعفي وبراءتي وصغر سنّي لصالحه.
*********
ليس هناك أصعب من لحظات الانتظار إذ تتحوّل الدقيقة الى ساعات طويلة ومملّة ومخيفة خاصّة اذا كانت تتعلّق بمسألة موت أو حياة أعزّ وأغلى ما أملك في هذه الدنيا والخبر الذي أنتظره يتعلّق بمصير حياتي ومستقبلي وسعادتي أو حزني الأبديّ.
لليوم حتّى سمحوا لرينا وتمارة بزيارتي، لا أدري، أهي صدفة أم فعل قصد، قصده طلال كي يصرف انتباهي عن عمليّة إيّان الّذي دخل غرفة العمليّات منذ أكثر من ساعتين مضت وإلى الآن لم أسمح أي خبر عنه. وحتّى طلال لم يعد الى غرفتي منذ الصباح حين أتى ليطمئنّ عليّ ويخبرني بموعد بدء العمليّة.
قطعت رينا حبل أفكاري وقلقي وهي تحاول تبرير نفسها:
" اليوم حتّى سمحوا لنا بزيارتك، كانوا دائماً يرفضون بحجّة أنّ حالتك لا تسمح بذلك "
قاطعتها تمارة " لقد خفنا عليك كثيراً، فأنت لا تعرفين ما الذي يقوله الجميع في الجامعة، أحقاً أنّ هذا الرّجل اختطفك وطلب مقابل ارجاعك 10 ملايين دولار ولم يقبل إلا من إيّان أن يذهب بنفسه ووحده لتسليمه المال"
ضربت رينا قدمها بقدم تمارة بخفّة محاولة عدم لفت انتباهي لذلك لكي تغلق فمها ولا تتفوّه بالمزيد ثم قالت:
" أنا أعتذر منك نور على كل ما بدر منّي ذلك اليوم في القهوة.
الغضب أعمى بصيرتي وجعلني أتفوّه بأشياء لم أقصدها، فأنت صديقتي العزيزة ومهما حصل سنبقى أصدقاء "
أشعرتني كلماتها بالراحة لأني بحاجة اليها كثيراً خاصّة في هذا الوقت والوضع، أمسكت بيدها وضغطت عليها بخفّة وقلت:
" وأنا كذلك الأمر، أعتذر على كلّ ما بدر منّي وأعدك من الآن وصاعداً أن لا أخفي عنك شيئاً أبداً و  ...."
فقاطعتني فرحة:
" وأشكرك على ما فعلته من أجل والدي وآدم، يبدو أنّ تأثيرك قوي على إيّان اذ اتصل بنفسه بوالدي واعتذر عمّا بدر منه من كلام لآدم وأرسل بطاقة اعتذار مع باقة أزهار جميلة جدّاً الى المنزل باسم العائلة كلّها"
كلماتها جعلت قلبي يعتصر حزناً وألماً واغرورقت عيناي بالدموع.
حبيب قلبي وروحي وعمري، ظننته يمزح عندما قال بأنّه سيرسل بطاقة اعتذار للعائلة بأكملها، اقتربت رينا منّي أكثر مقبّلةً وجنتي وقالت:
" أرجوك،لا تحزني، سيكون بخير، فانا أدعو يومياً لك وله ليشفى ويعود إليك معافاً إن شاء الله"
" أرجو ذلك، ارجو ذلك رينا، وأنا متوتّرة وخائفة جدّاً. أين طلال؟ لمَ لمْ يأت حتى الآن؟ ما قصّته، ألا يعرف بأنّي أتحرّق لمعرفة خبر عن إيّان؟ "
اقتربت تمارة من رينا وهي تراقبني بأسى وقالت:
" اهدئي نور. ما رأيك أن أذهب وأفتّش عن طلال وأسأله القدوم إليك لإخبارك بما تريدين؟ "
مسحت دموعي السخية الحارّة محاولةً كبت نفسي عن البكاء "لا أعرف أين هو، ولا أظنّهم سيخبرونك، فهم متحفّظون جدّاً بمسألة إيّان نظراً لفضول الصحافة، فهم يمنعون أي أحد من الاقتراب من جناحه ويتعاملون مع حالته بسرّيّة تامّة "
قالت رينا علّها تهدئني " حسناً إذاً لا خيار عندك سوى الانتظار، ونحن سنبقى هنا بقربك الى أن يأتيك الخبر وإن شاء الله سيكون خبراً سعيداً ليفرح قلبك. "
أغمضت عيوني مسندةً رأسي الى الخلف محاولةً احتواء ألمي وحزني وخوفي. أشعر بأنّ قلبي سيتوقف قبل أن يدخل طلال من هذا الباب ليأتيني بالخبر، يا الله!! ما أصعب لحظات الانتظار اذ أشعر أنّها تتآكلني من الداخل وتقضي عليّ ببطء.
***
قفز قلبي من صدري رعباً عندما دخل طلال الغرفة. نظرت الى عينيه الشاحبتين أفتّش فيهما عن علامة تطمئنني عن حالة إيّان. خوفي يسيطر على كلّ افكاري وكأنّ قلبي ينبض في كل أرجاء جسدي. لست مستعدّة، لست مستعدّة لسماع الخبر، أغمضت عيوني راجية من الله أن لا يُسمعني إلاّ الخبر الطيب عنه، فتحتهما من جديد لأرى طلال واقفاً بجانب سريري والإرهاق بادي على محياه، شعره مبعثر وذقنه طويلة، شهقت بذعر  منتظرة ما سيقوله .
" لقد خرج من العمليّة منذ نصف ساعة، أعادوه الى غرفة العناية المشدّدة، رفض طبيبه إعطائي أي معلومات عن حاله منتظراً حتى الغد ليستيقظ من العمليّة، لذا ليس بيدنا حيلة سوى الانتظار والدعاء"
" ماذا تعني طلال؟ أنا لا أفهمك، هل نجحت العمليّة أم لا؟ "سألته لا أستوعب ما قاله
" هذا السؤال سيجيب عنه الطبيب غداً نور، هذا ما أعنيه "
" ولمَ أشعر بأنّك تخفي عنّي شيئاً ما، اخبرني طلال، هل هناك شيء آخر تخفيه عنّي؟ "
أجابني بجدّيّة تامّة:
" نور، أنا لا اخفي عنك شيء، أنا فقط متعب ومرهق وأحتاج الى النّوم، آسف، ولكنّي مضطرّ لتركك لبعض الوقت، سأذهب لأستحمّ وأنام قليلاً ثمّ أعود إليك غداً وأرجوك صدّقيني، لقد أخبرتك بما اخبرني به الطبيب، لذا لا تبدئي بتفسير الأمور على هواك وكأنّه ينقصك بعض الهمّ والغمّ، انتهت العمليّة دون مضاعفات وكلّ ما ننتظره منه الآن هو استيقاظه غداً فقط لا غير. "
أومأت برأسي ماسحةً دموعي لتحلّ مكانها أخرى حارّة تحرق عيوني ووجنتي.
بعد فترة قصيرة، دخلت الممرّضة الغرفة مع أدويتي وقالت بلطف:
" أرجو المعذرة صبايا، تأخر الوقت وانتهت فترة الزيارة. فلندع المريضة ترتاح الآن" . ثمّ غرزت حقنة الأدوية في مصلي.
سألتها " ما هذا؟ لا تقولي لي إنّه مهدئ للأعصاب، لا أريد أن أنام، أنا بخير" ولكني قبل أن أنهي جملتي غلبني النّعاس وغطيت في نوم عميق.
***
" صباح الخير، كيف حالك اليوم؟ " حيّتني الممرّضة وهي تقدّم لي فطوري. رمقتها بطرف عيني غاضبة منها ومن فعلتها ليلة البارحة، وضعت صينيّة الفطور أمامي وقالت بإعتذار:
" لقد كنت أتبع الأوامر نور، اتصل بي طبيبك البارحة وسألني إعطاءك المهدئ لتنامي ففعلت"
أجبتها متذمّرة: " ولم لم تخبريني بذلك، على الأقل كنت أعلمتني بما ستفعلينه"
" لأنّي عرفت بأنّك لن تقبلي بها وستتعبيني لأعطيك إيّاها "
دخل طلال في هذه الأثناء، يبدو مرتاحاً اليوم، اذ شعره مصفف وذقنه محلوقة ويرتدي بنطالاً كحلي وقميص مقلّم، تنفست الممرضة الصعداء عندما رأته وقالت:
" هذا جيّد أنّك أتيت, هيّا أخبرها أنّ لا شأن لي بما حصل البارحة فهي غاضبة منّي، لقد كنت عبداً مأموراً ليس إلاّ "
وجهت انتباهي إلى طلال مستغربة كلامها، وما شأنه هو بذلك ؟ الى أن فهمت القصّة بأكملها. قلت حانقة عليه:
" طلال... هل أنت من طلب من الطبيب إعطائي مهدئاً لأنام البارحة؟ "
وقف بقرب السرير يراقب فطوري بشهيةً وكأنه يعاني مجاعة، أشار الى الممرّضة بالانصراف ثمّ مدّ يده آخذاً علبة الهلام عن الصينيّة فتحها وراح يلتهمها بشهيّة مفرطة:
" مم ... لطالما كنت احبّ أكل الهلام، إنّها لذيذة " ثمّ نظر إليّ ببراءة وقال " آسف لم أسألك، أتريدين القليل منها؟ " ثمّ عاد يأكلها من جديد.
رحت أراقبه بغضب ولو أني قادرة على الحراك لوقفت من مكاني وانهلت عليه بالضرب الشّديد. أعادها الى الصينيّة فارغة، ثمّ جلس على الأريكة وقال:
" نعم أنا طلبت من طبيبك إعطاءك المهدئ، فأنت لم تري حالتك كيف كانت البارحة، وبصراحة انا كنت مرهقاً كثيراً وبحاجة الى النوم وكان هذا الحلّ الوحيد لأنام وأرتاح"
ماذا يحصل معه اليوم؟ وما شأنه بي؟ إذا كان هو مرهقاً وبحاجة الى النوم فيعطيني المنوم ، لينام هو بسلام؟ كيف يحصل هذا؟ سألته غاضبة من فعلته: " وما شأني بك، تعطيني منوّماً لتنام أنت، كيف يحصل هذا؟ "
" أعطيك منوماً آنسة نور، لأنام مطمئنّاً من دون قلق على حضرتك "
" أنت أناني طلال "
حدّق بي غير مصدّق ما قلته :
" أناني!...أهذا ما استنتجته في نهاية المطاف، أناني !... شكراً لك آنسة نور "
" هلاّ توقفت عن مناداتي آنسة نور "
" أمرك، آنسة نور "
يا الله!! أشعر وكأنّي بركان هائج على وشك الثوران في أي لحظة. أمسكت بعلبة الهلام الفارغة ورميتها عليه بعصبيّة، التقطها قبل أن تصيبه ثمّ فتحها من جديد وراح يأكل ما تبقّى من أثرها.
إبتسمت أراقبه غير قادرة على تمالك نفسي عن الضحك من تصرفاته.
قلت وأنا أحاول تهدئة نفسي عن الضحك إذ شعرت بألم حاد في خاصرتي:
" ما خطبك اليوم طلال؟ فأنت على غير عادتك؟"
أجابني بجدية تامّة والحزن والإرهاق بادٍ في نبرة صوته
" لقد تعبت نور، تعبت من كل شيء،... والبارحة كان يوماً شاقاً ومرهقاً ، وكأنّي كنت أقف عند حافّة الهاوية منتظراً من أحدهم ليدفعني نحو الأسفل"
تمنّيت لو أنّ بإمكاني الحراك لاحتضنته بقوّة لمواساته. فأنا وإيّان قابعان في سريرين طوال النهار والليل ولا ندري بما يدور من حولنا. أمّا هو فعليه مواجهة كل شيء من حوله، العمل، الصحافة، الأطباء، ونحن. يا الله، وبعد كل هذا أتذمّر منه ومن تصرفاته وغيابه عنّي لبضع ساعات، دون أن أفكّر به وبمشاعره وخوفه وقلقه وتعبه وأعماله، وكأنّه رجل آلة يعمل على البطاريّة. أنا سيئة، وسيئة جدّاً. جلّ همّي كان إيّان ونسيت هذا الرجل القابع أمامي يتعّذّب ويحاول جاهداً تأمين حاجاتنا دون تذمّر أو تقصير.
" أرجوك طلال سامحني، فأنا في بعض الأحيان أتصرّف دون تفكير و ......"
قاطعني قائلاً: " هاي، هاي نور، أنا أرجوك، فأنا اليوم أشعر بالراحة لذا لا تفسدي عليّ هذه اللحظات وعودي الى ضحكتك، فهي بالنسبة لي أفضل من كل الكلام والمبرّرات التي ستعددينها أمامي الآن"
" كيف حالك أنتَ وسارة؟ هل عادت المياه الى مجاريها بينكما؟ "
" نحن بخير، سارة امرأة طيّبة ويجمعنا تفاهم عميق وقديم، لذا كان من السهل إصلاح الأمور بيننا من جديد "
لا يبدو سعيداً بكلامه عن علاقته مع سارة، لا بدّ أنّ ما حصل أثّر على عمق مشاعره نحوها، ولكن كما قال، فهو يعرفها منذ أكثر من ثلاث سنوات وما يجمعهما يتعدّى قصّة الحبّ بل تاريخ وتجارب وعِشرة ، وهذه الأمور ليس من السهل التخلي عنها بسهولة.
ربّما مع الوقت سيتخطّى ما حصل بينهما ويعود معها كسابق عهده.
سألته بتردّد:
" ماذا ستفعل مع إيّان ، خاصّة الآن، بعد ان عدت الى سارة، أتظنّ أنّه من الضروري إخباره سبب المشكلة؟ "
نظر إليّ مطوّلاً وكأنّه شرد في وجهي ليتنبّه لذلك تنحنح معتدلاً في جلسته:
" لقد أخبرت إيّان، بات يعرف كلّ شيء، لذا لا داعي للقلق حول هذه المسألة بعد الآن"
صدمني كلامه ! أخبر إيّان!!
سألته مذهولةً من كلامه " أخبرته !، ولكن كيف ومتى فعلت ذلك؟ انت وعدتني بأنّنا سنخبره معاً." ثمّ وجدتني اصرخ به " لقد نظرت الى عينيه وكذبت في وجهه دون تردّد طلال . كيف فعلت بي ذلك؟ "
" لقد علم أنّك تخفين عنه شيئاً ما ،نور، أوتظنّين أنّ المسألة مرّت على إيّان بهذه البساطة دون ان يلاحظ أنّ هناك خطباً ما؟ "
" ماذا تقصد؟ "
" لقد شعر بأنّك تخفين شيئاً عندما كنتما تتحدّثان بالسيارة ، ولكنّه لم يرد إحراجك والضغط عليك للبوح بما تخفينه ، وعندما وصل الى الشركة سألني عن مشكلتي مع سارة، عندها عرفت أنّه يشك بأمر ما، فاضطررت لإخباره بكلّ شيء. أنا أعرف إيّان جيّداً، ما كانت مسألة كهذه لتمرّ عليه بسهولة، خاصّة اذا كانت تخصّك "
" هذا رهيب، طلال، ولكنّه لم يفتح معي هذا الموضوع، لم يتحدّث عنه معي قطّ. كيف كانت ردّة فعله؟ هل صدّقك؟ ماذا سيظنّ بي الآن؟ سيظنّني كاذبة "
" اهدئي نور ... أوّلاً، نعم، اعترف لك أنّه انزعج منّا ولكن لسبب واحد وهو محاولة إخفاء سبب المشكلة عنه وكأنّنا لا نثق برجاحة تفكيره ، ولكنه في نهاية الأمر تفهم السبب الذي دفعك لفعل ذلك.
أمّا أنّه ظنّ بنا كما ظنّت سارة، فهذا مستحيل. إيّان أوعى من ذلك بكثير وهو واثق من صدق مشاعرك تجاهه لذا وجد انّه ما من داعي لإعطاء المسألة أكثر ممّا تستحقّ، فأغلق على الموضوع دون أي تعليق إضافيّ. "

فى ظلال الماضى لكاتبة أمل القادرىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن