الفصل الخامس
لم البث أن وطأت قدمي باب غرفتي حتى سمعت صوت محرك سيارة إيان وانطلاقها بسرعة هائلة، إنتفض قلبي جزعاً عليه ، إلى أين يمكن أن يذهب في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ماذا حصل له؟ أيعقل أن قبلتنا هي السبب؟
أسرعت إلى هاتفي أحاول الاتصال به دون جدوى، إذ بعد عدّة محاولات أعطاني أن الرقم خارج نطاق التغطية... يبدو أنه أقفل هاتفه... يا الله!!!،ماذا أفعل الآن ، ماذا إذ حصل له مكروه ، لم أحد أمامي حلاًّ أخر إلاّ الاتصال بطلال الذي أجابني من المحاولة الثانية بصوت متحشرج وقلق:"ألو... نور ماذا يحصل؟ هل أنت بخير؟"
صمتُّ للحظات أفكر بكيفية نقل الخبر اليه لأشعر بالكلمات تختنق في حنجرتي عاجزةً عن التحرر. ماذا سأقول له؟ كيف سأشرح له ما حصل. ثم تمتمت بالكلمات:
"أنا بخير، ولكن إيان..."
قاطعني مذعوراً "ما به إيان؟ أجيبيني؟"
" لقد ، لقد تسللت إلى غرفته كالعادة لأفاجأ به مستيقظ، أنّبني وصرخ بوجهي ومن ثم ..... ثم قبّلني و "
قاطعني ثائراً " يا للهول !! إنها مصيبة، ماذا فعلت أيتها الغبية ؟"
إهتزّ صوتي لتسبح عيوني بدموعي الحارّة خجلاً وخزياً من فعلتي "لقد حصل الأمر دون تخطيط، وبعد ذلك أخذ السيارة ورحل... أنا خائفة عليه، لم يبدُ بخير عندما غادرت غرفته وبالتأكيد لم يكن كذلك عندما غادر المنزل، أرجوك طلال جِده.. أنا قلقة جداً عليه." شعرت بأن يداي عاجزتان عن حمل الهاتف من شدة توتري وخوفي عليه، يا الله ماذا فعلت؟؟!!.
" لقدّ حذّرتك من تصرفاتك الرعناء ، لقد أخطأت خطأًً غير قابل للغفران، أنت لا تعرفين ماذا فعلت به ، فعلتك هذه كيف ستؤثر عليه،أتريدين تدمير ما تبقى منه ، إنه ضحية ، ضحية تحاول الاستمرار بحياتها ولكنّك تدمرين حصونه المنيعة .»
أنهى عباراته الغاضبة مغلقاً الخط بوجهي ، متأكدة لو أني أمامه لكان صفعني بقوة ، طلال غاضب جداً وقلق على إيّان ، ماذا هناك؟؟ ضحية ماذا؟؟
أغلق الخط وتركني وحدي في عتمة الليل ووحدته أسترجع ذكريات ما حصل. لقد شعرت بلهفته إتجاهي ، كنت طليقة حرّة بين ذراعيه، أشعر بقوته تحيطني والطمأنينة تغمرني، فجُلّ ما أردته هو البقاء بقربه كل العمر. ولكن صدى كلماته بقي يتردد في ذهني:
"ماذا فعلت بي؟ ماذا صنعت مني؟" ماذا يقصد بهذه الكلمات البسيطة في التركيب العميقة في المعنى.
غادر النوم عيوني مثيراً قلقي المتزايد مع مرور الوقت ، بزغ الفجر ولم أسمع حتى الآن خبراً مطمئناً عن إيّان. وطلال هو الآخر يتحاشاني ولا يرد على اتصالاتي.
غادرت غرفتي متّجهةً نحو غرفة إيّان لأجد الضوء مضاء والباب مفتوح على مصراعيه. دخلت الغرفة بتردد أتلفت حولي لأجد شظايا المرآة المعلقة على الحائط في كل مكان وقطرات من الدماء متناثرة على الأرض ونحو الحمام،إنقبض قلبي شاهقة بفزع تابعةً الآثار لأجد منشفة مليئة بالدماء ملقاة على طرف حوض الاستحمام.
أنا السبب، أنا من قاده إلى هذا ، يا لي من حمقاء أنانية ، هذا الرجل يثير قلقي وهمّي ، لقد لكم المرآة بقبضته مسبباً جرحها . أيعقل أنه أسرع إلى المشفى .
استلقيت على سريره أبكي شاهقةً خيبتي وحزني وقلقي ، رائحته تفوح من كل مكان، حضنت وسادته مجهشةً بالبكاء المرير، قلبي يؤلمني وروحي تؤنّبني وكأني مجرمة طعنت حبيبها للتوّ... ما الذي يعذبه ويجعله غير قادر على حبي؟ فأنا متأكدة من أنه يهتم لأمري ولا يطيق أن يصيبني مكروه. ولكنه يموّه اهتمامه بي على أنه واجب ووعد قطعه على والدي. رغم هذا كله فأنا متأكدة بأن هناك شيئاً أكثر من واجب ووعد، ولكن كيف أقنعه بأن هذا هو الحب.
الغموض الذي يحيط به يرهقني ويتركني عاجزة عن إيجاد وسيلة لمساعدته. أحبه ولا أعتقد بأني سأقدر على التوقف عن حبّه يوماً...
*******
"يا الله !!! ماذا حصل هنا؟ وأين إيان؟ نور، لم أنت نائمة هنا؟"
استيقظت على صوت ليلى وهي تناديني بقلق، ما زلت أشعر بنعاس شديد. فتحت عيناي بصعوبة لأراها واقفة بجانب السرير تنتظر مني تفسيراً لسبب الفوضى التي تعمّ في غرفة إيان.
نظرت إلى الساعة مباشرة وإذ بها تشير إلى الثانية ظهراً:
"هل نمت كل هذا الوقت؟ هل عاد إيان؟"سألتها بتكاسل وأنا أتمدّد في السرير.
"وأين هو؟ يبدو أنه لم يعد منذ ليلة البارحة، فأنا لم أصعد لتفقّدك حتى الآن، ظناً مني أنك ما تزالين نائمة ، بغرفتك"شدّدت على أخر كلمة ترمقني بإستنكار
جالت بنظرها حول الغرفة ليلفت انتباهها الدماء على الأرض، التفتت إلي وسألتني بذعر:
"ولكن أجيبيني، ماذا حصل هنا؟ ودماء من هذه؟ ولم أنت نائمة هنا؟"
"آ ليلى، أرجوك، فأنا حتى الآن لا أعرف ماذا حصل، وإيان... لقد... لقد" سكتُّ للحظات أفكر بكيفية صياغة كلماتي "لقد تشاجرت معه... ثم يبدو أنه لكم المرآة بيده وجرحها، ثم غادر المنزل من دون تعليق"
حدّقت بي بنظرات شك لا تصدق بأن هذه هي القصة الكاملة، لا بد أنها شعرت بأني أخفي شيئاً ما، ولكنها لم تلحّ مطالبة بالمزيد، بل أخذت هاتفها تاركةً الغرفة تتصل منه.
إنتشلت هاتفي وتبعتها مسرعة علّي أسمع منها شيئاً يطمئنني عنه.
"ألو... نعم... نعم... لقد عرفت للتو. أين هو... هل هو بخير؟ ... وكيف حال يده؟... حسناً لا تقلق" ثم التفتت إلي وأجابته "إنها بخير... نعم" ثم أغلقت الخط.
سألتها بعدم صبر، "أخبريني، هل هذا طلال؟ هل وجد إيان؟"
"نعم، وطلب مني إخبارك بأن لا تقلقي، فهو بخير"
"متى سيعود؟"
"ليس قريباً... لا تنتظري عودتهما اليوم"
ثم تركتني وعادت إلى الغرفة بأغراض التنظيف.
******
كنت أتصفح الإنترنت عندما رن هاتفي فأسرعت إليه ظنّاً مني أنه إيان أو طلال وإذ برينا المتصلة:
"الو رينا، كيف حالك؟"
"أهلا نور، ماذا تفعلين؟"
"لا شيء، أشعر بالملل، وأنت؟"
"إننا نخطط للخروج للسهر في مكان ما الليلة، أترغبين في القدوم؟"
"نعم ولم لا، فأنا لم أفعل شيئاً منذ الصباح غير النوم والأكل وتصفح الانترنت، ولكن عليّ تدبر أحدهم ليقلّني فأنا بعيدة عن وسط المدينة"
"بإمكانك أن تطلبي سيارة أجرة"
"إنها فكرة جيدة، نعم أظنني سأفعل ذلك، متى وأين نلتقي؟"
"عند السابعة، أمام المقهى المقابل للبنك، أتعرفين المكان؟"
"سأسأل، لا أعتقد بأني سأتوه عنه، إلى اللقاء إذاً"
ماذا سأفعل الآن، لن يسمح لي الحراس بالخروج ما لم يعطهم إيّان الإذن بذلك، وهو بدوره لا يجيب على اتصالاتي، لذا من الأفضل أن أتصل بطلال، وبعد عدة محاولات رد علي بنبرة حادة تنمّ عن عدم الرضا.
"ماذا تريدين؟"
نبرة صوته الجافة والباردة أزعجتني فأجبته غاضبة:
"أنا لا أتصل لأزعجك سيد طلال، ولكني أريد إعلامك بأني سأخرج للسهر مع أصدقائي، لذا من الأفضل إعلام الحراس عند البوابة للسماح لي بالخروج." أجبته بثقة وصوت آمر، فهو وإيّان لم يجيبا على اتصالاتي طوال النهار، وأنا مللت منهما.
رد طلال على سؤالي بالصمت.
"ألو طلال... طلال هل تسمعني؟"
"نعم نور... سأعاود الاتصال بك بعد قليل" ثم أغلق الخط. ولكن ما الذي حصل للتو، فهو لم يجبني. وبعد عدة دقائق عاود الاتصال بي، وفي اللحظة التي فتحت بها الخط قال:
"ألو نور ... اسمعيني، أنا قادم إلى المنزل، أحتاج إلى التحدث معك بأمر مهم، من الأفضل أن تتصلي بصديقتك وتؤجلي موعد خروجك معها."
ثمّ أغلق الخط من جديد دون أن يسمع ردي. ما الذي يحصل معه، لقد كان يصد اتصالاتي طوال النهار، والآن فجأة أصبح يريد أن يتحدث، بالتأكيد يريد تضييع وقتي كي لا أخرج مع رينا.
اتصلت برينا معتذرةً منها بالطبع لم يعجبها ذلك، إذ بدت متحمسة جداً عندما قبلت بالخروج معهم. ولكني وعدتها بأن أخرج معهم قريباً، وهذا ما سأسعى إلى حصوله.
نزلت إلى الحديقة وجلست تحت خيمة القرميد، بجانب حوض السباحة أنتظر قدوم طلال.
كانت الشمس تشارف على المغيب عندما رأيته قادماً من الحديقة الأمامية. التعب والإرهاق باديان على محياه، شعرت بالذنب لحالته تلك إذ بالتأكيد أنا السبب فيها .
"مرحباً" ألقى التحية وجلس قبالتي.
"أهلأً، تبدو مرهقاً، ألم تنم منذ البارحة؟"
"لا... لم أنم" أجابني ببرودة وجفاء، ولكني لم أدقق على الموضوع وسألته:"أين وجدت إيان؟ هل هو بخير؟"
"لا... ليس بخير، طالما أنت تتصرفين بتهوّر ورعونة وعدم اكتراث لن يكون بخير"
"ولكن ما الذي يحدث له؟؟ إذ كنت أنا لست غاضبة من قبلتنا لم هو يتصرف بهذه الطريقة"
"لأن ما حصل خطأ ، لقد وضعك والدك أمانة تحت عهدته ، كيف تريدينه أن يشعر وهو يستغل أمانة والدك بهذه الطريقة المشينة "
"هو ... هو لم يخطئ ، لقد كان خطأي طلال ، أنا من دفعه إلى ....تقبيلي" علّقت بصوت متردد خجل" ولكنّي لم أخطط لها، لقد ظننته نائماً عندما تسللت إلى غرفته و..."
قاطعني صارّاً على أسنانه بحنق شديد "يجب أن تتوقفي عن التسلل إلى غرفته، إنها عادة سيئة وغير لائقة " زفر بعجز متابعاً بصوت مخنوق "إنه يشعر بذنب كبير لأنه سمح لأمر رهيب كهذا أن يحصل بينكما. ما حصل يعذبه ويتركه عاجزاً عن التفكير بمنطق، ولا يعرف كيف يمكن للأمور أن تعود كسابق عهدها بينكما بعد الذي حصل"
"لا أريد للأمور أن تعود كما كانت، لقد إعترفت له بحبي ... أنا أحبه... وأريده أن يبادلني شعوري"
لكم طلال الطاولة بعصبية حادة أفزعتني "هذا أبداً لن يحصل، لقد حذرتك من هذا نور، إيان لن يحبك أبداً، فأنت مجرد طفلة بحاجة إلى رعايته لا أكثر ولا أقل، وإذا بقيت على عنادك هذا، سيضطر إلى تغيير طريقة تعامله معك كلياً"
صرخت به بعجز "لقد مللت من هذه الكلمة، أنا لست طفلة طلال، بعد غد سأكمل الثامنة عشرة ولن أعود تحت وصايته، سأصبح حرة نفسي. وإذا كان رحيلي عن هذا المنزل هو السبيل الوحيد لجعله يراني امرأة ناضجة وليست بحاجة إلى رعايته، فسأرحل من هنا، حالما أكمل الثامنة عشرة وأستلم أملاك والدي"
حدّق بي متفاجئاً وكأنه لم يتوقع سماع ما قلته ، هز رأسه بعصبية مشيراً نحوي بسبابته قائلاً بحنق :
"هذا لن يحصل، لن ترحلي من هذا المنزل إلا عندما يتأكد بنفسه أنك قادرة على الاهتمام بنفسك، لقد وعد والدك بذلك، وحتى اللحظة الأخيرة سيبقى وفياً لوعده. وبالنسبة إلى أن يحبك... هذا لن يحصل، إيان غير قادر على الحب، الحب ليس في قاموس حياته، لقد جرّبَت قبلك كثيرات وفشلن، وأنت بالذات تجسدين ذكرياته الأليمة ومأساته التي حرمته طفولته وكسرت قلبه، أنت بالذات لن يسمح لنفسه بالتلاعب بك أو استغلالك أبداً."
عدنا إلى التحدّث بغموض ، ذلك الغموض الذي يثير جنوني ، وقفت عن الكرسي صارخة به ملئ حنجرتي ، علّه يستوعب غضبي وعجزي :
"لم... لم أنا بالذات؟؟ ماذا حصل في ماضيه ليجعل منه ما هو عليه الآن؟ ماذا أمثّل أنا في ماضيه؟ قل لي، ساعدني لأفهمه وأفهم سبب طلبك لي بالتخلي عنه.فأنت طالما تكلمني بهذا الغموض لن نصل أبداً لحل ، كن واضحاً معي وأخبرني، فأنا بحاجة إلى سبب واضح ومقنع"
"أظن بأني قلت ما يكفي لتفهمي أن إيان ليس لك، ولن يكون أبداً. إنه يهتم لأمرك كثيراً نور، ولكن ليس بهذه الطريقة. فهو يرى فيك نور الصباح الذي حرم منه مراهقاً، لذا عليك أن تتقبلي فكرة ان ما حصل في غرفة نومه كان غلطة لن تتكرر ولا معنى لها أبداً بالنسبة إليه"
"أين هو؟... لمَ لم يأتِ بنفسه ويخبرني أن ما حصل كان غلطة وبأنه لا يحبّني ولن يحبني أبداً"
"لقد فعل ذلك مراراً وتكراراً، لكن عنادك أبى أن يسمعه"
"لقد قبّلني" قلتها بصوتٍ عالٍ وحاد وكأن قلبي يصرخ بها"لقد قبّلني بشغف وحبّ ورغبة. قُبلتَه أخبرتني أنه يريدني."
"هناك فرق كبير بالنسبة إليه بين الرغبة والحب، أتريدين الذهاب معه في ذلك الطريق نور؟... إنه طريق لن تخرجي منه سوى محطمة الروح والفؤاد"
كلماته قاسية وحادّة ومؤلمة، تطعن الصدر وتخرق القلب بسهولة.
ماذا يرى عندما ينظر إلي؟ بم أُذكره؟ وما هي هذه الذكرى الأليمة التي أجسّدها؟ وجدت أن طلال أعطاني المزيد من التساؤلات بدل الإجابات. ازداد إيّان غموضاً ورهبة عندي، أيعقل بأنه لن يحبني أبداً؟
عدت وجلست على الكرسي،حاضنةً رأسي بين كفي وسألته باستسلام:
"أين هو الآن؟"
لانَ صوت طلال وقال بهدوء محاولاً تهدئة الوضع بيننا:
"لا تقلقي عليه، فهو يعرف كيف يتدبر أموره ، إنّه بحاجة للإبتعاد لبعض الوقت"
اقترب مني أخذاً بكفّي المرتعش بين كفَّيه الدافئتين، رفع ذقني حتى التقت عينانا وتابع:
"إنه قلق عليك كثيراً، لا يريد التسبب لك بالأذى، إنه يهتم كثيراً لأمرك نور، وهمه الوحيد حمايتك وتأمين مستقبلك، وأنت تصعبين الأمر عليه.
أنت ما زلت صغيرة، وأمامك درب طويل، فكري الآن بجامعتك ودروسك ودعي الحب إلى حينه"
لم أجبه بل اكتفيت بالنظر إلى عينيه الصادقتين اللتين تحاولان جاهدةً إقناعي بما يقوله. اغرورقت عينايمنهمرةً بدموع سخية،ساخنة،تنهّد بعمق آخذاً إيّاي بين أحضانه يهدّئني :
"توقفي أرجوك... إنها ليست نهاية العالم، فأنت شابة جميلة ورقيقة، ويوماً ما ستجدين حبك الحقيقيي، عندها ستكتشفين ان حبك لإيان لم يكن إلا طيش شباب"
كلماته زادتني رغبة في البكاء فاحتضنته بقوّة أبكي بسخاء على كتفه.
هل سيكون سهلاً نسيانه؟ ولم أنساه؟ فأنا إذا سألت نفسي عن سبب حبه سأجد ملايين الأجوبة، ولكن إذا سألني قلبي، لم تريدين نسيانه؟ بم سأجيبه؟ كيف سأبرر له؟ فإن سهم الحب أصابني واخترق كياني وسكن روحي وأصبح جزءاً لا يتجزأ مني، نما بذرة صغيرة في قلبي وامتدّ في كل أرجاء جسدي حتى أصبح كل جزء مني يصرخ بحاجته.
فكيف يعيش القلب بلا نبض، والروح بلا عبادة، والجسد بلا غذاء، والعقل بلا معرفة.
بدونه سأكون طيفاً يفتقر إلى كل هؤلاء.
*********
لم يغادر طلال المنزل البارحة وإيان لم يعد، ويبدو أن غيابه سيطول إذ جهزَت له ليلى حقيبة صغيرة ببعض الثياب والأغراض المهمة وأرسلتها له، وعندما سألتها عن السبب، قالت بأن لديه عملاً طارئاً في دبي في شركة الهندسة والبناء التي يملكها هناك واضطر إلى السفر على عجلة. ولكني واثقة بأن سبب سفره ليس العمل الطارئ، بل بسبب ما حصل بيننا وحاجته إلى خلق مسافة، ولكن إلى متى؟
منذ الصباح وأنا أحاول عبثاً أن أنهي مشروعاً يجب أن أقدمه في بداية الأسبوع. عقلي لا يطاوعني على التركيز إذ إن إيان لا يبارح عقلي وتفكيري.
رن هاتفي مشيراً وصول رسالة نصية . إنه طلال.
طلال:
مرحباً نور، كيف حالك. أنا وسارة بانتظارك في الأسفل عند الحديقة الخلفية بجانب حوض السباحة.
ملاحظة: ارتدي شيئاً أنيقاً ولا تتأخري، فأنا أحضر مفاجأة لسارة.
لقد مرّ الوقت دون أن أشعر به، إنها الثامنة والنصف.
ختمت مشروعي وأرسلته عبر البريد الإلكتروني إلى الدكتور المسؤول عنه وارتديت فستاناً بنفسجياً داكن اللون وتركت شعري منسدلاً على طبيعته وانطلقت مسرعة نحو الأسفل.
لا يوجد أثر لأحد في المنزل، يبدو أن ليلى مدعوة أيضاً، أيعقل أن طلال سيطلب يد سارة اليوم... سيكون هذا حدثاً مميزاً.
الجو جميل في الخارج، القمر بدر، إذ ضوءه يغطي على الإضاءة المبعثرة في أرجاء الحديقة، وصلت إلى حوض السباحة، الأضواء مطفأة ولا أثر لأحد هنا، هذا غريب ، هل أخطأت فهم الرسالة .
ناديت بتردد "طلال... ليلى... أهناك أحد... أين الجميع؟"وإذ بالمكان يضاء دُفعةً واحدة وصوتاً صادحاً ضجَّ بالأرجاء "مفاجأة... كل عام وأنت بخير"
شهقت منتفضاً قلبي بين أضلاعي لأفاجأ بالجميع أمامي .
طلال، سارة، ليلى، رينا، تمارة، عمر وسليم. رؤيتهم تركتني عاجزة عن إبداء ردة فعل مناسبة، فوجدت نفسي متجمدّة من هول المفاجأة أناظرهم بدهشة والفرحة تغمرهم.
الطاولة مليئة بالأطعمة والحلويات والمشروبات، الزينة والبالونات تعم أرجاء المكان، يبدو أنهم كانوا يعملون منذ الصباح على هذه المفاجأة من وراء ظهري ، حتى أن ليلى أخذت لي الغذاء إلى غرفتي لتضمن عدم نزولي وكشف مفاجأتهم.
اقتربت رينا مني إحتضنتني تقول بفرحة عارمة:
"كل عام وأنت بخير...ما هو شعورك الآن وقد أكملت الثامنة عشرة"
تمتمت لها "شكراً لك، إنها حقاً مفاجأة جميلة لم أتوقع حصولها ، أنتم رائعين ."
وقف طلال على مسافة قريبة منتظراً رينا حتى تنهي كلامها ثم احتضنني هامساً بأذني وكأنه يشعر بألمي:
"أرجو أن تكون سنواتك القادمة مليئة بالفرحة والنّجاح"ثم طبع قبلة خفيفة على رأسي وانسحب عائداً إلى سارة.
"هاي فتاة عيد الميلاد... ما رأيك بهذه المفاجأة الجميلة"
علّق عمر ثم تبعه سليم:
"ما هذه المفاجأة؟ أيعقل أنك تعيشين في هذا القصر الرائع ولم تذكريه لنا قط، أصابتني الدهشة عندما وصلت إلى هنا. من أنت؟ ابنة وزير أو رجل مافيا؟ وما قصة كل هذه الكاميرات المزروعة في أرجاء المكان، البوابة الضخمة عند المدخل والحرس. ظننت نفسي وأنا أدخل بأني رجل مهم و..."
قاطعته رينا وهي ترمقه بنظرة عتاب:
"حسناً سليم كفى... دع الفتاة تأخذ نفساً" ثم أخذت بيدي وأبعدتني عنهم وهي تسألني بقلق:
"هل أنت بخير؟ تبدين مرهقة."
رفعت بصري اليها متفاجئة من سؤالها ، هل حزني واضح لهذه الدرجة ؟
أجبتها مدّعيّة أَنِّي بأفضل ما يرام "نعم... نعم أنا بخير وسعيدة جداً بوجودكم".
جلت بنظري أفتش بين الحاضرين عن ليلى، أظن بأني رأيتها عندما أضاءوا المكان ثم اختفت بعد ذلك.
سارة تجلس إلى طاولة محايدة وتبدو كأنها تعاني من مشكلة ما وطلال يجالسها بصمت. عمر وسليم وتمارة يستكشفان المكان وعلامات الدهشة والانبهار بادية على محياهم. ورينا بقربي تراقبهم وتضحك على تصرفاتهم الصبيانية.
تركتهم يستكشفون المكان على راحتهم وتوجهت نحو المنزل أفتش عن ليلى ، دخلت من الباب الخلفي الذي يقود مباشرة إلى المطبخ لأفاجأ بها جالسة إلى الطاولة وكأنها تبكي ، نقف قلبي ذعراً مقلّصاً معدتي لحالتها فأسرعت اليها أسألها "ليلى ما بك؟... لم تبكين؟ لقد أخفتني! أرجوك أخبريني ماذا هناك؟"
التفتت الي هي الاخرى مذعورة من تواجدي المفاجئ ورائها فوقفت عن الكرسي آخذةً إيّاي بين أحضانها مرددة بصوتها المرتعش الباكي :
"لن أحتمل بعدك عني،... لن ترحلي أليس كذلك، لن تتركي هذا المنزل وتتركيني"
"ولكن، لم تقولين هذا؟ بالطبع لن أرحل، ولمَ سأرحل؟ فأنتم عائلتي وكل ما أملك في هذه الدنيا. وأنا أحبكم جميعاً دون استثناء" حضنتها بقوة لأشعر بألمها وخوفها وطيبتها
”هيا، فالجميع في انتظارنا في الخارج، وأنا لن أحتفل بعيد ميلادي إلا إذا كنت أول الحاضرين هناك، وعلى فكرة" رفعت رأسها تناظرني بعينيها الحمراوتين الدامعتين بتساؤل "أشكرك جداً على كل ما فعلته لأجلي، وكل ما حضرته من مأكولات وحلويات، أنت رائعة جداً، وأنا أحبك كثيراً كثيراً، وحتى لو أتى يوم ورحلت عن هذا المنزل فلن أنقطع عن زيارتك والسؤال عنك أبداً"
ضحكت عيناها وسط الدموع وقالت "حسناً، اذهبي إلى أصدقائك، سأغسل وجهي وألحق بك"
*******
يبدو أن الحفل بدأ بدوني، إذ الموسيقى تعلو في أرجاء المكان، والكل يستمتع بوقته، وطالما أن جميعهم بذلوا كل هذا المجهود لإسعادي، فالطريقة الوحيدة لرد الجميل هي أن أستمتع بوقتي معهم.
الجميع يرقص، ما عدا طلال وسارة، مازالا على حالهما كما تركتهما منذ قليل ، أمرهما غريب هذان الإثنان ، ذهبت إليهما .
"مرحبا سارة، كيف حالك"
التفتت نحوي تناظرني بغرابة ، لم أستطع إستيعاب مغزاها وإذ بطلال يقف من مكانه قائلاً
"هل لي برقصة مع صاحبة عيد الميلاد؟" رفعت حاجبي بتساؤل رامقةً سارة بطرف عيني وعندما وجدتها منشغلة بعدم مبالاة بهاتفها ومأت له منقادة ورائه إلى حلبة الرقص
إبتسمت يتأملني بتفحّص ليهمس "حتى بعينيك المرهقتين والحزينتين، تبدين رائعة الجمال والأناقة"
أخجلتني كلماته الرقيقة لأشعر بموجة حارّة تجتاح وجنتي،أشحت بنظري عنه قائلة:
"شكراً لك طلال، لكل ما فعلته من أجلي حتى الآن ولأنك دعوت أصدقائي وحضرت لهذه الحفلة، إنها حقاً مفاجأة جميلة جداً"
أجابني بتفاخر:"أقيمت هذه الحفلة لزرع الفرحة في قلبك الحزين، وما نفع الأصدقاء إذا لم يشاركوك فرحتك هذه، أليس كذلك؟"
"نعم، هذا صحيح"
إتحدّت نظراتي للحظة بنظرات سارّة التي كانت تراقبنا بنظرات ثاقبة وكأن هناك ناراً مشتعلة بداخلها مؤكدّة لي أن هناك خطبٌ ما ، فلم أستطع تمالك نفسي عن سؤال طلال :"أهناك خطب ما بينك وبين سارة؟"
رمق سارة بطرف عينه مجيباً "لا تشغلي بالك بنا، إنها مسألة بسيطة وسنتخطاها ان شاء الله"
"لا تبدو لي مسألة بسيطة، إذ يبدو أن سارة ستفقد أعصابها في أي لحظة من الآن،" قلت ممازحة
"أرجو أن لا تفعل" أجابني ضاحكاً معيداً إنتباهه إلى سارة وكأنّه يترقب ثورتها بأي لحظة .
"أهناك شيء ما يمكنني فعله لأجلكما؟... أرجوك لا تتردد في السؤال"
هزّ برأسه يناظرني بإمتنان "يمكنك أن تفكّي أسري وتعيديني إليها"
يبدو أن المشكلة بينهما كبيرة وجدّية، إذ نظرات سارة الحادة لم تتبدل وهي تراقبه يعود إليها، حتى أنها لم تبتسم له عندما اقترب مقبّلاً وجنتها جالساً بقربها يحتضنها برفق .
غيّر عمر الموسيقى الهادئة بموسيقى صاخبة ودعا الجميع إلى التصرف بجنون قائلاً:
"هيا يا شباب فنحن هنا لنمرح ونتصرف بجنون، فلنفقد أنفسنا قليلاً"�ويبدو أنه فقد نفسه كلياً إذ باشر بالقيام بحركات بهلوانية مضحكة ، أمسك بيد رينا وراح يراقصها على وقع الموسيقى الصاخبة، تركته وهي تنعته بالمجنون وسرعان ما انضم سليم وتمارة إليه، وقررت أن أنضم إليهم بدوري. أمسكت بيد رينا وقلت لها:
"هيا، لن يضرنا القليل من الجنون"
سحبتها معي إلى الحلقة ورحنا نرقص دون الاكتراث لمن يراقبنا أو يعلق على تصرفاتنا. لمحت ليلى تراقبنا وتتمايل دون وعي منها على وقع الأنغام والفرحة تعلو وجهها، فرحتها بعثت الفرحة في قلبي.
غادر طلال وسارة المكان ليعود طلال بعد فترة قصيرة وحيداً متجهم الوجه وكأن شيئاً ما حصل بينهما ولكنه رسم إبتسامةً على محياه محاولاً موارات مشاعره عنّي لحظة وجدني أراقبه بحزن وقلق ، وضعه يقلقني ، ماذا يحصل بينهما يا ترى .
توجه مباشرة إلى طاولة الطعام، ملأ طبقه منها وعاد إلى طاولته يأكل مدّعياً بأن كل شيئ على ما يرام معه.
عند الثانية عشرة تمامأً، أتت ليلى بقالب الحلوى والشموع عليه مضاءة، وضعته في وسط الطاولة حيث تجمعنا حوله ليبدأ الجميع بالغناء.
جلت بنظري حول الطاولة،أفتش عن ضالّتي ، فالجميع هنا ما عدا إيان، وفي هذه اللحظة بالذات شعرت بالاشتياق الشديد لوجوده ، أفتقده كثيراً وافتقد وجوده معي وأمامي يغني متمنياً لي عيداً سعيداً. افتقدت والدي أيضاً الذي لم يفوت عيد ميلاد لي من قبل، فها هما أكثر شخصين عزيزين على قلبي قد فوتا عيد ميلادي الثامن عشر. رسمت إبتسامة زائفة وأطفأت الشموع حيث انطفأت معها فرحتي.
*********
استيقظت متأخرة اليوم، ورحت أركض حول الغرفة أستعجل نفسي فطلال في الأسفل ينتظرني ليقلّني إلى الجامعة.
استقبلتني ليلى عند المدخل وهي تحمل فطيرة وكوب عصير.
"آليلى، أنا على عجلة من أمري، لقد تأخرت كثيراً."
"على الأقل خذي الفطيرة وكليها في السيارة، لن أدعك تذهبين دون فطور"
أخذت الكوب من يدها، شربت منه جرعة طويلة وأخذت الفطيرة من يدها وركضت مسرعة إلى السيارة.
"يبدو أنك تأخرت حتى نمت البارحة" استقبلني طلال بسؤال.
"صباح النور، وأنت يبدو أنك لم تنم منذ البارحة"
حدق بي يهزُّ برأسه ولكنّه لم يعلق على تعليقي تهرُّباً من الوقوع بفخّي وأنهال عليه بالأسئلة حول مشكلته مع سارة .
أدار محرّك السيّارة وانطلق بها مسرعاً، علّه يوصلني دون تأخير.
"لم رحلت سارة البارحة باكراً، ودون أن تودعني؟ ماذا حصل؟"�أجابني دون تردد وكأنه كان يتوقع سؤالي :
"أعتذر منك عن تصرف سارة، ولكنَّها تعاني من مشكلة شخصية أثّرت على مزاجها البارحة ؟"
" أرجوك أخبرني إذ كنت أستطيع مساعدتها في أي شيئ ، وأنت كذلك الامر ، إذ كنتما تعانيان من مشكلة ما لا تتردد في طلب مساعدتي ، فأنا بنت وأفهم مشاكل البنات أكثر منك "
أخذ نفساً عميقاً ممرراً أصابعه بين خصلات شعره قائلاً:�"لن تستطيعي فعل شيء، فأنا أعرف سبب الخلاف الذي هو انعدام الثقة بيننا، وطالما هي تعاند على رأيها ولا تريد تصديق كلامي من دون تقديم البراهين فهذه مشكلتها وليست مشكلتي."
*******
مضى باقي النهار بسرعة، وبعد انتهائي من الدوام ذهبت مباشرة إلى المقهى حيث نجتمع دائماً، يبدو أنني أول الواصلين، اخترت طاولة تتسع لنا جميعاً وجلست أنتظر حضورهم. بعد فترة بدأت الطاولات تمتلئ والضجة تعم المكان، ثم رأيت رينا تطل من الباب وهي تفتش عن أحد منا، أشرت لها بيدي كي ترى مكاني:
"مرحباً... آ، الحمد لله أنك هنا" قالت وهي تجلس "كنت خائفة من أن لا نجد طاولة شاغرة" نظرت حولها تتسائل "ولكن أين الجميع؟"
"لا أدري... لم أجد أحداً عندما أتيت"
"وأنت كيف حالك اليوم؟ لا يعجبني حالك إذ تبدين مرهقة وشاردة"
فاجأني سؤالها، أإلى هذه الدرجة معاناتي واضحة للعيان ولكنّي لست مستعدة بعد للتحدّث إليها عن إيان ومشاكلي معه فأجبتها بقليل من الحقيقة:
"أنا بخير، ولكن أفتقر إلى النوم، لقد كنت منشغلة بمشروع كان عليّ تقديمه اليوم"
بدت متوترة وتتصرف بغرابة تراقبني بطريقة غريبة وكأنها تريد قول شيء ما ولا تعرف كيف تبدأ لتقول بتردد:
"لاحظت أن والديك لم يكونان في المنزل البارحة، هل هما مسافران؟"
حدّقت بها متفاجئةً من سؤالها الغير متوقع ، نعم البارحة إفتقدت وجود أعز ثلاث أشخاص لي بحياتي أمي وأبي وإيّان ، غيابهما أنقص فرحتي وأحزنني كثيراً .
"أرجوك اعذريني على سؤالي، لست مضطرة للإجابة عنه، إنه سؤال سخيف وما كان يجب أن أطرحه عليك"قالت ممسكةً بكفّي تقول بصوت هادئ حنون يجوبه الندم ، وكأنها شعرت بأنّ سؤالها لي أحزنني كثيراً
ابتسمت لها مطمئنةً " لا تعتذري أرجوك، لم يزعجني سؤالك بل أعاد إلي ذكريات حزينة، نحن أصدقاء ويحق لك أن تسألي"
أخذت نفساً عميقاً مردفةً " توفيت أمي بعد ولادتي بفترة قصيرة، وتوفّي والدي منذ سنتين بسبب أزمة قلبية. ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش حيث زُرتني البارحة، إنه ليس منزلي، بل منزل الرجل الذي تركني والدي في عهدته قبل وفاته"
بدت متفاجئة من كلامي متأثرةً بقصتي"أنا آسفة نور، لم أتوقع أبداً أن يكون هذا جوابك، ولكن ألا يوجد عندك أقارب؟"
"لا... أمي أسترالية الجنسية والهوية وعائلتها تعيش بين كندا وأستراليا ، لا أعرف عنهم شيئ، وعائلة والدي كلها في كندا ، وفِي الحقيقة لم يكونوا راضين عن زواج والدي من أجنبية فرفضوا إستقبالي بعد وفاة والدي "
"هذا صعب، أن تعيشي في بلد لا أقارب لديك فيه ولكن يبدو أن العائلة التي تعيشين عندها تحبك كثيراً وتهتم لأمرك. بدا ذلك واضحاً البارحة"
"نعم، إنهم رائعون، وأحبهم كثيراً"
أتت باقي الشلة دفعة واحدة يحملون القهوة و قطع الكيك لتعلو أصواتهم دُفعةً واحدة ، تركوني عاجزة عن التركيز مع أحد منهم فأخذت قهوتي أرتشفها وأنا أراقبهم والحماس يعلو وجوههم، وما جعلني أستمتع في جلستي معهم كثرة المواضيع التي طُرحت من اللحظة الأولى التي جلسوا فيها. المال، الجمال، العائلة، الحب، الفتيات والفتيان وكلٌ يعطي رأيه ويفتح موضوعاً آخر وهكذا.
"أنظري رينا، إنه آدم" صاحت تمارة مشيرةً إليه تدعوه للانضمام إلينا.
إقترب أدم يراقبني من بعيد ، نظراته ثاقبة واثقة وكأنه متجهٌ نحو هدفه ، جلس بيني وبين رينا يحيّ الجميع :
"كيف حالكم شباب، يبدو أنكم لا تضيعون وقتكم"
أجابه سليم "وأنت على غير عادتك، ألا يجب أن تكون في قاعة المحاضرات. ماذا تفعل هنا؟"
جال آدم بنظره حتى وقع عليّ قائلاً بمعنى مبطن " لست هنا من أجلكم"
أشعرتني نظراته بالقشعريرة ، وكأن موجة باردة اعترتني مجمِّدةً عروقي. ادّعيت بأني لم أفهم مقصده لامحةً رينا التي تراقبنا باستمتاع. ماذا تخطط هذه المجنونة، أيعقل أنها تحاول أن تجمع بيني وبين أخيها. إنها فكرة سيئة وفاشلة.
"عيد ميلاد سعيد. اليوم عيد ميلادك أليس كذلك؟"
قال آدم مقدماً لي قطعة حلوى.
حدّقت برينا وأنا لا أعرف ماذا أفعل أو أقول وكأن لساني عُقِد. أجبته بتوتر:
"نعم، شكراً لك"
أخذت هاتفي وأرسلت رسالة قصيرة إلى طلال أطلب منه فيها القدوم لأخذي من الجامعة ورحت أقلب بصفحاته علّي أشغل نفسي عنه ولكن يبدو أنه مصر على محادثتي:
"أكل شيء يسير على ما يرام في محاضراتك؟ أرجوك لا تترددي في سؤالي إن احتجت إلى أي مساعدة"
رفعت نظري عن الهاتف إليه مبتسمة وأجبت "شكراً على اهتمامك. فالأمور حتى الآن تسير بسلاسة، ولا أواجه صعوبة في أي مادة."
رفع حاجبه وأجابني بحماس "هذا جيد، يبدو أنك طالبة ذكية"
ضحكت على تعليقه وقلت "نعم ... يبدو كذلك"
يبدو أن إجابتي وتّرته قاطعةً عليه الطريق، إذ مرر يده على شعره الكثيف وضحك بخجل. ضحكته جذّابة برزت ملامحه بشكل ملفت وغامض، وجدتني أتأمله دون أن أشعر، لا يوجد عنده علامة فارقة تميّزه ولكنه بلا شك يتمتع بشخصية جذابة ككل.
أنقذني رنين هاتفي من إطالة النظر إليه، إنه طلال يخبرني بأنه في الخارج بانتظاري. جمعت أغراضي واستأذنتهم للرحيل.علّقت رينا على رحيلي متذمرة:
"ولكن لم العجلة، فنحن نستمتع بوقتنا، ابقي قليلاً بعد"
"لا أستطيع، طلال في الخارج بانتظاري، أراكم غداً إن شاء الله"
ثم تركتهم خارجة بخطى سريعة وإذ بآدم يستوقفني أمام المقهى قائلاً:
"المعذرة، لن أُأَخرك ، أردت فقط أن أستأذنك في أخذ رقم هاتفك من رينا كي أستطيع محادثتك في وقت لاحق"
أحرجني سؤاله وفاجأني ولكن نظراته الخجولة تركتني عاجزة عن رفض طلبه والتصرف بوقاحة، لمحت طلال يراقبنا عبر نافذة السيارة فأجبته دون مقدمات:
"حسناً، لا مانع عندي، أراك لاحقاً" وانصرفت هاربة من أمامه ومن نظرات طلال له المتفحصة .
أنت تقرأ
فى ظلال الماضى لكاتبة أمل القادرى
Romanceمقدمة الكتاب أكّد فرويد أنّ شخصيّة الإنسان يحدّدها ويصنعها ماضيه وحاضره ومستقبله. لذا لا حاضر بلا ماضي ولا مستقبل بلا ماضي ، حيث أنّ للماضي أهمّيّة كبيرة وجذرية في نحت شخصيّة الإنسان وصنعها وصقلها ودفعها إلى الحاضر. ومن هنا تأتي أهمّيّة الطّفولة حيث...