الفصل الثاني عشر
تفقدت السّاعة إنّها الرابعة مساءً وحتّى الآن لم نسمع خبراً عن إيّان. تركني طلال منذ أكثر من ثلاث ساعات، ذهب الى الشركة لينهي بعض الأعمال العالقة ولم يعد حتّى الآن.
الممرّضات لا يعرفن شيئاً عن حالته. التوتر يقتلني ويجعل صبري ينفذ. قفز قلبي فرحاً لحظة دخل طلال الغرفة عند الخامسة مساءً برفقة الممرّضة فاستقبلته فرحة لرؤيته ومتذمّرة من تأخيره:
" وأخيراً! ايعقل هذا؟ أكلّ هذا الوقت في الشركة أم بالتأكيد ذهبت الى سارة بعد ذلك "
تبادل والممرّضة نظرات غامضه ثمّ عاد إليّ عاقداً حاجبيه وأنا تابعت تذمّراتي متجاهلة إيّاه
" هل ذهبت الى إيّان؟ هل استيقظ؟ الجميع هنا يرفض إخباري بأيّ شيء، هيا طلال، ما بالك أخبرني"
ضحك يهزّ برأسه وقال: " وكأنّه لا يكفينا متذمّر واحد، الآن أصبحوا اثنين "
" ماذا تقصد؟ "
" أقصد إيّان، لم يكفّ عن السؤال عنك منذ اللحظة التي استيقظ فيها، ولو أنه قادر على الحراك لأتاك بنفسه راكضاً"
قفز قلبي فرحاً وانقبضت معدتي لهذا الخبر. أجبته فرحة وكأنّ السماء تمطر أزهاراً ملوّنة:
" لقد استيقظ، كيف حاله؟ وماذا كنت تنتظر لتخبرني؟"
" استيقظ منذ حوالي الساعتين، ولكنّ طبيبه أبقاه في العناية حتّى انتهى من إجراء كلّ الفحوصات اللازمة له. والحمد لله جميعها كانت جيّدة، فنقلوه منذ قليل الى غرفته. "
أغمضت عيوني مسندةً برأسي الى الخلف أتنفس الصعداء، الحمد لله، إنّها المرّة الأولى منذ أسبوع أقدر فيها على الاسترخاء والتّنفّس دون أن أشعر بأنّ هناك شيئاً ما يضغط على صدري ويعصر معدتي وأمعائي ...
" أريدك أن تأخذني إليه ... أرجوك طلال "
جلس على الأريكة بجانبي وقال:
" حسناً، هذا ما أريد التحدّث إليك بشأنه الآن، طبيبك غير راضٍ عن صور الأشعة التي أخذوها لك صباح اليوم وقال بأنّك تضغطين على نفسك وتتحرّكين رغم أنّه منعك من ذلك. لذا، يا عزيزتي، لن تذهبي اليوم الى أي مكان... ولكن .. " سكت يحاول ضبط نفسه عن الضحك وكأنّ هناك شيئاً ما يدغدغه ثمّ تابع بحماس " غداً سننقلك الى غرفة مشتركة مع إيّان علّنا نرتاح من تذمّراتك وطلباتك"
شهقت فرحةً " حقاً .. وهل قبل طبيبه بذلك؟ هل حال إيّان تسمح بأن أبقى بقربه؟ "
"وهل كان للطبيب خيار آخر، فأنت لم تري إيّان عندما استيقظ كان همّه الوحيد رؤيتك والاطمئنان عليك، لولا سيطرة الطبيب على الأمور لكان أتاك بنفسه. لذا وجدنا أن جَمعكما في غرفة واحدة هو الحلّ الوحيد للسّيطرة عليكما وعلى تمرّدكما"
حضنت نفسي فرحةً بكلامه، لقد عاد، حبيبي عاد ومشتاق اليّ كاشتياقي إليه. حسناً لا ضرّ بأن أنتظر رؤيته للغد. لا أعرف كيف سأقضي ليلتي بانتظار نهار الغد ليأتي وأذهب إليه، لأراه وأشتمّ رائحته وأسمع صوته وألمس يده.
" وهناك شيئ آخر "
"ماذا ؟!" سألته بقلب مقبوض
" لن تتحدّثي عن موضوع زواجكما ، إنّه لا يعلم بأنّي أعطيتك الخطاب ، ولذا لن توقيعيني بمشكلة عويصة معه وتفضحين فعلتي ، إتفقنا "
حدّقت به أتأمل وسامته وروحه وطيبته ، أنا أُحبّه كثيراً كثيراً ، ومأت له برأسي أخذةً كفّه إحتضنتها برفق معلِّقةً" أنا أحبك كثيراً طلال ، أنت أروع شخص في حياتي "
ضحك معلّقاً هو الآخر " أروع شخص ، أو أروع ثاني شخص ؟؟!!"
" أنت أروع أوَّل شخص ، إيّان أروع ثاني شخص ، ولكن لا تخبره بذلك كي لا يغضب "
إسترسل بالضحك أخذاً رأسي يلثمه بحنان ثم وقف من مكانه مغادراً الغرفة.
***
وضعوني على كرسيّ مدولب وقادوني نحو غرفة إيّان، نبضات قلبي بدأت تخرج عن سيطرتي. التوتّر يرهقني وحماسي الشديد يجعلني أرغب في الوقوف والركض إليه.
تركتني الممرّضة مع طلال أمام الغرفة ودخلت، وبعد برهة سمعته يتحدّث معها... قفز قلبي من مكانه عندما سمعت صوته، ضغطت على جوانب الكرسيّ محاولةً التخفيف من حدّة توتّري، وضع طلال يده على كتفي وقال:
" اهدئي، لا تتركيه يراك هكذا، لقد قضينا البارحة بأكملها نقنعه أنك بخير لذا حاولي أن تطمئنيه عنك وليس العكس"
" أصبح سريرك جاهزاً لاستقبالك، فلندخل "
راحت عيناي تفتّشان عنه، لا أريد رؤية أي شيء آخر غيره، لاقتني عيناه الزرقاوتين الباهتتين والمرهقتين من المرض وكثرة النوم، ابتسم ابتسامة باهتة وهو يمدّ يده إليّ يدعوني للاقتراب منه. ابتسمت له محاولةً كبت دموعي، طلال محق، يجب أن لا أدعه يقلق عليّ، لذا لن أبكي لرؤيته بل سأبتسم وأفرح به.
قربني طلال من سريره القابع من الجهة الداخليّة للغرفة بجانب النافذة صدره ملفوف مع كتفه بقطعة شاش عريضة تغطي قسماً كبيراً منه.
والمصل يتدلّى من يده وآلة الضغط والقلب موصولتان بصدره.
تركني طلال بقرب سريره وقال ممازحاً " سنعود بعد قليل، لا تستأنسوا" ثمّ اختفى هو والممرّضة وراء الباب.
أعطيته يدي وأنا أراقبه متفحّصة إيّاه. شعره مبعثر وطويل، بشرته وشفتاه الباهتتان، لا لون فيهما، ذقنه الطويلة نسبياً. لو أن بقدرتي لوقفت عن الكرسيّ ورميت بنفسي بأحضانه. إنه هنا بشحمه ولحمه مستلقياً على السرير وبخير يراقبني بنظرات مشتاقة وقلقة ، أشعر برغبة في البكاء والإرتماء على صدره والبقاء بقربه الى الأبد لأنه جزء لا يتجزأ مني ، إنه نبض قلبي وروح جسدي والنفس الذي أحيا بواسطته.
"هل أنت بخير؟ أتتألمين كثيراً؟" قال بصوت ضعيف وهو يمسك بيدي. قواه خائرة ولمسته ضعيفة وبطيئة وكأنّه يحاول جاهداً تحريك يديه والنطق بالكلمات.
ضغطت على يده بخفّة وقلت " أنا بخير طالما أنت بخير " ثمّ لاحظته يتأمّل ذراعي المشدودة الى عنقي وفخدي المحاط بالجص الأخضر، حرّر يدي مقترباً من وجهي يتلمس بشرتي وملامحي بأنامله ، بدأ من جبهتي وانتهى عند شفتي.
لم أستطيع تمالك نفسي فأخذت كفّه عن وجهي وقبّلتها بشوق وحب .
قال بصوت واهن " ملاكي الصغير، حبيبتي العزيزة على قلبي وروحي ونفسي، ماذا كنت سأفعل من دونك؟ "
أجبته " وماذا كنت سأفعل أنا من دونك؟ "
" يعذبني ما أصابك. ولو كان بإمكاني أخذ آلامك لفعلت وأرحتك منها"
قربت يده من قلبي وقلت " وأنا ما كنت لأرضى بأقل مما حدث لي مقابل أن أكون بقربك دائماً وأبداً"
نظر إليّ بأسى وكأن قولي أزعجه، اختفت الابتسامة عن شفتيه ولكنه قبل أن يعلق على ما قلته، دخل طلال برفقة الممرّضة وقال:
" هذا يكفي للآن، علينا وضعك في سريرك قبل أن يأتي طبيبك ويعترض على ما نفعله"
تبعتهما ممرضة إيّان، قالت وهي تضع حقنة في مصله:
" لقد أخرت دواءك بما فيه الكفاية ليتسنّى لك الوقت لرؤية نور والاطمئنان عليها ، والآن بعد أن فعلت، أظنّ أنّ الوقت قد حان لتأخذ دواءك دون اعتراض، عليك أن ترتاح الآن"
وبينما طلال والممرّضة يساعدانني على الاستلقاء في سريري، لاحظت أن إيّان يحاول جاهداً مقاومة نعاسه دون جدوى، إذ لحظات وغطّ في نوم عميق.
" إلى متى سينام؟ " سألت ممرّضتة عند الباب.
" الى صباح الغد ان شاء الله، لا تخافي، فجسده مازال ضعيفاً من العمليّة ويحتاج الى النوم والراحة ليستعيد عافيته، غداً سيكون أفضل بإذن الله "
وجودي قربه وهو نائم كالطفل الصغير ذكرني بحديث طلال عنه وكل ما عاناه في طفولته وفترة مراهقته، لا أصدق بأن هذا الرجل المستلقي في ذلك السرير عانى ما عاناه في ماضيه.
مازلت أذكر كلامه عندما أخذ بيدي ووضعها على قلبه ووصفه بالسقيم والبارد والغير قادر على الحبّ وإعطاء الحبّ, إنّه مخطئ. إذا كان هو غير قادر على الحبّ، فماذا يسمّى كل ما فعله من أجلي، ابتداءً من حمايته لي ومشاعره تجاهي وحنانه وعطفه وحبّه الكبير. وكأنّ ما مرّ به من مأساة وخيبات وآلام وأحزان، صنعوا منه رجلاً أفضل , نادر الوجود غير قادر إلا على إعطاء ما حرم منه طوال حياته وهو الحب والحماية والحنان. بقربه أشعر بكياني وأنوثتي، وصعاب الحياة تنساب بسهولة لتصبح مجرد ذكرى منسيّة. إنّه بكل تأكيد، إيّان حياتي.
***
استيقظت على صوت قادم من ناحية إيّان، إنه صباح اليوم الثاني وآخر ما أذكره قدوم طلال مساءً ليطمئن علينا. لا بدّ أنّي غفوت وأنا أراقب إيّان نائماً.
الستارة التي تفصل سريرينا مغلقة، لا بدّ أنّ طبيبه عنده اذ سمعته يقول:
"هذا ممتاز، يبدو أنّ الرفقة نفعتك في نهاية الأمر، مؤشراتك الحيويّة أفضل بكثير ممّا كنت أتوقع"
ثم سمعت إيّان يقول، صوته اليوم يبدو أحسن من البارحة.
" أحتاج لأن تسمح لي باستعمال الحاسوب لإنهاء بعض الأعمال العالقة"
" إنّها مسألة صعبة سيد كرم، فأنت مازلت في فترة النقاهة، صحتك الآن هي الأهمّ من كل شيء وأهمّ من الملايين التي ستكسبها من صفقاتك العالقة، أليس كذلك؟ " قال مازحاً.
" معك حقّ، صحتي أهم من كل ما أملك ولكن عندي مسؤوليات اتجاه موظفي وعمالي وأنا أعتبرهم بأهمية صحتي أيها الطبيب، لذا أنا مجبر على إنهاء تلك الأعمال العالقة، فمستقبل عائلات كثيرة يتوقف عليها."
سكت الطبيب لبرهة ثم ّ قال " لا شكّ عندي سيد كرم أنّ رجلاً بشهامتك يستحقّ ان يكون بمركزك، ولكن عليك أن تعدني بأن لا تضغط على نفسك كثيراً، فاليوم سندعك تمضي نهارك دون مسكنات لنرى غداً كيف ستكون نتيجة فحوصاتك، جسدك مازال يتأقلم للعودة الى وضعه الطبيعي، حتى ذلك الحين عليك الاعتدال بكل الأمور"
" سأفعل، أعدك بذلك "
ثم سمعت وقع أقدام الطبيب يغادر الغرفة ولكن يبدو أن ممرضته مازالت عنده اذ أرى ظلّها يتحرّك بجانب سريره، لا بدّ أنّها تمسح جسده بالفوط المعقّمة اذ أشمّ رائحتها تفوح في أرجاء الغرفة.
أزعجتني فكرة يدها على جسده، لا بدّ أنّها فرحة بنفسها وهي تلامسه بحجة تنظيفه، أوتظنّ بأنّي لم أنتبه لها البارحة عندما كانت تراقبه برغبة مصفّفَةً شعره بيديها بعد أن أعطته المهدئ لينام.
إنّه سحر إيّان، لا أعتقد بأن هناك من يقدر على مقاومة سحره ذاك.
ضغطتّ على زرّ استدعاء ممرضتي التي وجدتها أمامي بلمح البصر. طلبت منها أن تفتح الستارة بيننا، فتركتني وذهبت الى الجهة الثانية لتأخذ إذن إيّان بذلك ومن ثمّ فتحتها من جهته.
وإذ ممرضته العزيزة قريبةً منه حدّ الخطر ترمقه بابتسامة خجولة وتوتر بادٍ على محياها ممسكةً بيده تمسح بين أصابعه، رؤيتها على هذه الحال زادت من نار الغيرة في قلبي. أمسكت نفسي عنها كي لا أصرخ بها مطالبةً نزع يدها عنه، رمقت إيّان بطرف عيني فوجدته يراقبني بعينيه الزرقاوتين والابتسامة على شفتيه. تجاهلته عاجزة عن مبادلته الابتسامة نظراً لما يختلج في صدري من غيرة هوجاء.
سحب يده من يد الممرّضة وقال بلطف: " شكراً لك ، هذا يكفي "
ثمّ أعاد انتباهه إليّ عاقداً حاجبيه وقال:
" ما الذي يدور في بالك نور؟ "
رفعت حاجبي بإستنكار رافضةً النظر اليه محوّلةً انتباهي الى ممرضته التي تتهادى مغادرةً من أمامي وكأنّها غير مكترثة لوجودي.
سألته وأنا أحاول ضبط وتيرة صوتي الحانق " ألا يوجد ممرض ذكر في هذه المستشفى؟ "
أجابني بنبرة وكأنّ سؤالي لم يعجبه " وما حاجتك الى ممرض ذكر؟ "
" ليعتني بك ويساعدك بدلاً من هذه الممرّضة التي يبدو أنّه لا شغل عندها سوى مداعبة شعرك وأنت نائم وإمساك يدك وملامستك"
ضحك ضحكة ضعيفة باسطاً كفّه مكان إصابته، لا بدّ أنّ الضحك سبب له الألم "أتغارين عليّ من الممرّضة؟ وأنا في هذه الحالة؟! ...حبيبتي، أنا لا أرى في هذه الدنيا سواك. أنت نبض هذا القلب، دونك ستنعدم الحياة فيه دون رجعة"
أجبته متذمّرة وكأنّ كلامه ليس بكافٍ لإقناعي " ولكنّي لا أطيق أن أرى أحداً غيري يرعاك ويهتمّ بك، عجزي يحزنني ويحبطني.... "
قاطعني قائلاً بأسى " توقفي أرجوك، توقفي ولا تكملي. لا تنسي أن حالتك هذه أنا السبب فيها. فلولا مشاكلي وماضيّ وحبي لك لما واجهتِ كل هذا، واقتربتِ من الموت الى تلك الدرجة. "
أجبته بصوت ضعيف متحاشية النظر إلى عينيه:
" أنا بخير إيّان، إصاباتي كلها ليست بخطيرة، ولم تتعدّ بعض الكسور والرضوض. ولكن حالتك هي التي كانت تخيفني، ظننت بأني خسرتك إلى الأبد ولم أصدّق أنّك مازلت على قيد الحياة إلاّ عندما رأيتك بنفسي في غرفة العناية المشدّدة.
كنت أصلّي كل يوم متمنية شفاءك وعودتك اليّ. ما كنت لأتحمّل خسارتك، أفضّل الموت على فراقك إيّان "
أجابني خانقاً:
" أوتظنّين أنّ الموت لعبة أو قرار يأخذه الإنسان بسهولة كما فعلت حضرتك ذلك اليوم. عنادك وتمرّدك كانا سيوديان بحياتك ويجعل كل ما فعلته يذهب هباءً دون جدوى "
أجبته غير مكترثة لما أقوله، إذ ذكّرني للتوّ بما فعله الأسبوع الماضي:
" وكيف ظننت للحظة من اللحظات بأنّي سأخرج من ذلك المكان تاركة إيّاك لذلك الرّجل. وكيف طاوعك قلبك على تسليم نفسك مكاني، وأنت على علم بأنه سيقتلك ولن يتركك تخرج حياً. نعم، أنا أفضل الموت على فراقك. ولو تكرّر هذا الأمر سأكرر نفس الفعل لن أخرج. ولن أخرج وسأبقى لألقى ما تلقاه أفهمت إيّان. "
رفع صوته الضعيف قدر إمكانه يقول حانقاً:
" السبب الوحيد الذي جعلني أذهب إليه هو لإنقاذك منه، إنّه مجرم وعديم الرّحمة وأنت لا دعوة لك بكلّ ما حصل. ماذا كنت سأفعل لو أنّه قتلك؟ أخبريني، كيف كانت ستكون حياتي لو أنّ مكروهاً أصابك وبسببي؟ قولي لي ... ... ما الذي يجري لك نور، أإلى هذه الدّرجة حياتك رخيصة عندك؟ "
نبرة صوته الضعيفة أخافتني، إذ اختفى صوته قبل أن ينهي جملته الأخيرة غطّى وجهه بكفّه وكأنّه يحاول كبت ألمه ومشاعره.
أخافني ضعفه ، هل فقدتُ عقلي كليّاً ؟؟!! ما الذي نفعله؟ ما الذي أفعله؟ الوقت ليس ملائماً لهكذا حديث خاصّةً الآن وهو بحالته هذه،حالته لا تسمح له بالانفعال ...
أنقذ دخول طلال علينا الوضع ، يحمل جهازي حاسوب وقف بين سريرينا يهزّ برأسه معاتباً يبدو أنّه غير راضٍ بما سمعه.
" ما الذي سمعته وأنا قادم من البهو؟ لا تقولا لي أنكما تتشاجران، إذا كان هذا ما تفعلانه فمن المستحسن أن أستدعي الممرّضة حالاً لنقل أحدكما من هنا... "
قاطعه إيّان باسطاً ذراعه نحوه لأخذ حاسوبه "هذا ما كنت أحتاج إليه، أعطني الحاسوب واخرج من هنا "
رمقت طلال بطرف عيني لأراه يحمل حاسوبي أنا أيضاً، أعطاني إيّاه وقال:
" خذي حاسوبك وراجعي محاضراتك وتوقفي عن مضايقته. صحّته لا تسمح بذلك "
رفعت حاجبي منزعجة من تعليقه. ولم يظن بأنّي أنا من يزعجه؟ لما لا يكون العكس، وهو من يزعجني؟ تجاهل نظراتي وتركني راحلاً ليتوقف عند الباب يقول ممازحاً :
"أتريدونني أن أغلق الستارة بينكما؟ فأنا أشعر بأنّ الجوّ مشحون ولا أريد المخاطرة بترككما وحدكما لأعود وأجد مجزرة قائمة بينكما "
في نفس اللحظة التي رمقت فيها طلال بنظرة كفى هراءً رمقه إيّان بالمثل.
ضحك رافعاً ذراعيه في الهواء مستسلماً " حسنا، حسناً سأخرج " واختفى وراء الباب.
فتح إيّان حاسوبه فور استلامه يتفحّص بريده الإلكتروني. طالما أنه يتحاشاني فسأفعل مثله. فتحت حاسوبي لأراجع محاضراتي التي أرسلتها لي رينا:
أوّل رسالة كانت منها وتقول:
عزيزتي نور:
أرجو أن تكوني بحالة جيّدة، سمعت بأنّ عمليّة إيّان أجريَت بنجاح، حمداً لله على سلامته وبلّغيه تحياتي.
منعوا عنّا الزيارة عندما انتقلت الى الغرفة المشتركة بحجّة عدم إزعاجه.
لقد سألت عن أفضل زميل لك يأخذ نفس المواد التي تأخذينها ودلوني على هشام صالح، لست متأكدة من أنك تعرفينه، ولكنه يعرفك وأبدى اهتماماً شديداً لمساعدتك، لذا أعطيته بريدك الإلكتروني وطلبت منه إرسال كل المحاضرات التي فاتتك إليه.
أرجو لك التوفيق
صديقتك المشتاقة رينا.
وجدتني أبتسم للشاشة دون أن أعى، إنّها حقاً لصديقة وفيّة ومحبّة. فتحت أوّل محاضرة وبدأت بمراجعتها. وبعد مرور بضع ساعات من تصفح محاضراتي شعرت بالملل والتعب.
رمقت أيّان بطرف عيني فوجدته على نفس الوضعيّة التي كان عليها ، أصابعه لم تتوقّف عن ضرب أزرار الحاسوب منذ استلمه، يقرأ، يطبع ثم يرسل وهكذا. إنّها المرّة الأولى التي أراه يعمل فيها ، وكأنّه يعيش في عالمه الخاص ، حتّى أنّه لم يرفع بصره عن الحاسوب عندما دخلت علينا الممرّضة لتفقدنا.
أيعقل هذا، أعتقد بأنه سيقضي نهاره بطوله يعمل. وأنا ماذا أفعل؟ أأنظر الى الجدران؟ أريد التحدّث معه، خاصة الآن، إنّه غاضب مني ، لا يمكنني تركه هكذا عليّ مصالحته، ولكن كيف؟
دخلت البريد الإلكتروني وطبعت:
أنت تقرأ
فى ظلال الماضى لكاتبة أمل القادرى
Romanceمقدمة الكتاب أكّد فرويد أنّ شخصيّة الإنسان يحدّدها ويصنعها ماضيه وحاضره ومستقبله. لذا لا حاضر بلا ماضي ولا مستقبل بلا ماضي ، حيث أنّ للماضي أهمّيّة كبيرة وجذرية في نحت شخصيّة الإنسان وصنعها وصقلها ودفعها إلى الحاضر. ومن هنا تأتي أهمّيّة الطّفولة حيث...