الفصل السابع

680 17 0
                                    

الفصل السابع

قررت اليوم بأنّي سأكون نور جديدة ، لا أحد يعرفها، لا تحبّ إيّان ولا تهتمّ لأمره. تعيش حياتها كما تريد دون قيود. علّه يكون الحل لتخطّي كلّ ما مررت به سابقاً.
نزلت الى الأسفل لأجد الجميع حول طاولة الطّعام، ألقيت التّحيّة عليهم وجلست متحاشية النّظر الى أحدِ منهم.
سألتني ليلى "البيض المقلي، أم الفطائر المحلاّت"
"الاثنين، أنا جائعة جدّاً"، أخذت كوب العصير وشربته منتظرة ليلى. نظر طلال إليّ مستغرباً، رمقته بطرف عيني ثمّ قررت مخاطبته فقلت له بجدّيّة تامّة:
"إذا كنت مضطرّة لمرافقة أحد، فلا أريد سواك. إذا مازلت موافقاً على هذه المهمّة؟"
ضحك بارتياح وقال:" بالطّبع أوافق وما كنت لأرضى بغيري مرافقاً لك"
"هذا جيّد"
وضعت ليلى الطبق أمامي لأباشر بأكله بشهيّة مفرطة ، فأنا جائعة جدّاً. لاحظت عيون إيّان تراقبني بتمعن ، نعم أنا أعرف بأنّه يحب مراقبتي وأنا آكل ، كان يراقبني محاولاً إخفاء نظراته الخاطفة عني، وكاتي تأكل كالصّوص، تنقب طعامها بالشّوكة والسّكين.
لن أدعهما يؤثّران على شهيّتي أو يعرقلان خطّتي الجديدة.
قالت كاتي بدلع: "علينا ان نخطط لفعل شيء ما الليلة. فالدراما التّي حصلت البارحة منعتنا من الخروج. لا أريد تمضية وقتي في المنزل اذ سأعود قريباً الى دبي"
عرفت أنّها تعنيني بكلامها ورغم ذلك لم أعرها انتباهي، بل أبقيته عند طبقي. لا أرغب في النّظر إليهما ولا حتّى معرفة ما يرتديان أو كيف يبدوان.
سألني طلال: "أتريدين القيام بأمر ما اليوم؟"
أومأت له برأسي وأنا أمضغ طعامي ثمّ أجبته: "لم أفكّر بعد. لكنّي متأكّدة من أنّي أريد تعلّم قيادة السّيّارة. إن كنت لا تمانع سيّد إيّان؟ " قلت موجهةً كلامي له الذي بدوره رمقني بنظرة غامضة لم أفهم مغزاها.
لا أدري ما الذي يمتّعه اليوم، اذ منذ اللحظة التي جلست فيها الى الطاولة وهو يراقبني باستمتاع وكأنّي أقوم بحركات بهلوانيّة لإمتاعه. ما خطبه؟ ربّما تعجبه نور الجديدة. هذا جيّد فاللعبة لا يلعبها إلا اثنان وها نحن أصبحنا اثنين. وإذ بكاتي تمسك بكفّه قائلة:
« لم تجبني، الى أين ستأخذني اليوم؟»
توقفت الملعقة في فمي وأنا أراقبها تضع يدها على عنقه مداعبةً شعره. ياللحقيرة، ألا يكفيها أنّها كانت في فراشه الليل بطوله؟ ألم تشبع من مغازلته؟لألاحظ  إيّان غير مرتاح ليدها على شعره اذ حرّك رأسه بطريقة ليجبرها على نزعها وقال لها ببرودة وهو يقف من مكانه:
"ألا تظنّين بأنّ الوقت مازال مبكّراً للتّخطيط للمساء؟ أعدك بأنّنا سنجد أمراً ما نقوم به. أمّا الآن، فأنا مشغول لبعض الوقت. عليّ قراءة بعض الرّسائل والرّدّ عليها، بالإذن"خرج من المطبخ مسرعاً.
رمقتني كاتي بنظره اتهام وكأنّي السّبب بما حصل للتّوّ. ثمّ عادت تقلب طعامها الذي بالكاد لمسته محاولةً إخفاء خيبتها من ردّ إيّان. وطلال تبسّم بمكرِ وهو يقضي على ما تبقّى في طبقه، ثمّ وقف هوالآخر وقال لي:
" سأكون جاهزاً لك بعد ساعة، أيناسبك ذلك؟"
"بالطّبع يناسبني، أين ستعلّمني القيادة؟ "
"سنبدأ داخل محيط القصر، إذا لا مانع لديك؟"
رمقته عاقدة حاجباي، ما به يتحدّث معي برسميّةْ!
فضحك قائلاً وهو يشير بإصبعه نحوي: " أنت تخيفينني أيتها الصّغيرة"
"هذه الصّغيرة لم تعد صغيرة بعد الآن، إنّها تكبر" أجبته بفخر تام
***
"ما رأيك بي؟ " سألت طلال وأنا أركن السيارة أمام مدخل القصر.
" يا ليتك هكذا مطيعة وتستوعبين بسرعة في كل الأمور الأخرى"
"أتسخر من طبعي أم من قيادتي سيد طلال؟"
" حاشاك آنسة نور، بالعكس كنت رائعة" أجابني يترجّل من السّيّارة، لحقت به وسألته:
"طلال... ستعلّمني القيادة كلّ يوم، أليس كذلك؟"
"سأفعل إن شاء الله" أجابني متّجهاً نحو الحديقة الخلفيّة
"ولكن الى أين أنت ذاهب؟" سألته وأنا أتبعه
"أفتّش عن هاتفي، آخر مرّة استعملته كنت قرب المسبح"
علا صوت كاتي لحظة اقتربنا من المسبح،لنجدها مستلقية على كرسيّ التّسمير بثوب سباحة من قطعتين ذهبيّ اللون تتحدّث عبر الهاتف. ليبدو  الارتباك على طلال عندما رآها مستلقية أمامه بهذا المنظر إذ تراجع متفاجئاً من شكلها . تنحنح ليعلمها بوجوده، لترفع رأسها  معلّقةً دون خجل:
" هذا أنت طلال، ظننتك إيّان، وعدني بالسّباحة معي منذ أكثر من ساعة مضت. يبدو أنّه لم ينهِ عمله بعد"
تركتهما متوجّهةً نحو المطبخ، لا مزاج لي لرؤيتها مستلقية وتعرض مفاتنها،يا لها من عديمة الحياء ، ولكن يبدو أنّ طلال أعجبه المنظر، حسنا معه حقّ، فليس كلّ يوم يذهب ليفتّش عن هاتفه فيجد امرأة جميلة وشبه عارية مكانه. وكأنّها ظهرت له من فانوس علي بابا.
مررت بالمكتب وأنا في طريقي إلى الأعلى، لألمح إيّان جالس وراء مكتبه واضعا رأسه بين كفيه، يبدو مهموماً وكأنّه يفكّر بأمر ما. ما به يا ترى؟ لم أستطع تمالك نفسي فطرقت الباب بخفّة ودخلت.
رفع رأسه ولاقاني بعينيه المرهقتين، ابتسم ببرودة وقال:
"أهلا نور، هل أنهيت درس القيادة؟"
"نعم أنهيته"
"وكيف كان؟ "
"جيّد" أجبته جالسةً قبالته وسألته "أتعاني من خطب ما؟ تبدو قلقاً ومرهقاً"
"بعض المشاكل في العمل، ليس بالأمر الخطير، لا تقلقي" أجابني يقلّب بملفات أمامه وكأنه يتحاشى النظر إليّ عبرهما.
" أنا ، أنا أسفة لما حصل البارحة،أعلم بأنك تحاول جاهداً التأقلم مع وضعي ولكّني أستمر بتصعيب الامور عليك "
رفع نظره الي محدّقاً بي للحظات ليعود من جديد إلى ملفاته معلّقاً " الخطأ ليس خطأك وحدك ، أنا ملام كذلك الامر ، ولكنّك حقاً تتعبينني نور، أنا لا أستطيع إرخاء الحبل لك لأنّك أمانة بعنقي ، لقد وعدّت المرحوم والدك أن أهتم بك وأحافظ عليك حتى من نفسي ، وهذا ما سأسعى لتحقيقه إلى النهاية "
"إيّان!!" ناديته أحتاج لأن ينظر نحوي ، يراني
رفع بصره مجدداً عن أوراقه يناظرني بغموض" أعدك بأنّ لا أقدم على إزعاجك بعد الآن ، لا مزيد من التسلل إلى غرفتك ولا مزيد من النوح على الاطلال من أجلك، أنا أستسلم "
وقف من مكانه واقفاً أمامي " نور، أنا من المستحيل أن أجلب إمرأة أقيم معها علاقة إلى القصر ، هذا القصر لم تدخله إمرأة من قبل ما عداك أنت وليلى ولن تفعل إمرأة أخرى غيركما أبداً ، إنه قصرك، منزلك ، بيتك ، ونحن عائلتك إلى الابد ، كاثي مديرة أعمالي بشركة من الشركات وأتت معي من أجل إتمام عمل مطلوب منها ، إتفقنا؟"
ومأت له برأسي بأني فهمت ، نعم ، أنا صاحبة القصر ، ولكّني لا أريد القصر ، بل أريد قلب مالك القصر ، أريد حبّه وحنانه ومشاعره وإهتمامه ، لا أريد قصراً .
" عاد إلى حاسوبه أطفأه معلّقاً" سأصعد إلى غرفتي لأرتاح قليلاً ، هل تحتاجين لشيئ ما "
ومأت له برأسي بلا أراقبه يأخذ هاتفه عن الطاولة ويخرج من المكتب بخطوات واسعة واثقة شعرت على إثرها أنّه يكتم على أنفاسي بعنف مع كل خطوة يخطوها بعيداً عنّي.
تنهدّت بأسى وحزن شديد ، هذه هي النهاية ، لقد قالها بوضوح تام ، لن يحبّني أبداً كما أُحبّه، لن يفعلها أبداً لا الآن ولا أبدا.
دخلت غرفتي بشرود تام لأنتبه لهاتفي يومض بجانب سريري، فتحته فوجدت أربع رسائل قصيرة وثلاث اتصالات لم يردّ عليها. إنّها رينا، يبدو أنّها تحاول الاتصال بي منذ الصّباح الباكر.
فتحت الرّسالة الأولى:
"مرحبا نور، أحاول الاتصال بك منذ الصباح، سنخرج اليوم للسهر. هناك حفلة تقام في وسط المدينة، اتصلي بي عندما تتلقين رسالتي لأخبرك بالتّفاصيل"
الرسالة الثانية:
" هاي نور، ماذا يحصل معك؟ أين أنت؟ "
الرسالة الثالثة:
" بدأت أشعر بالضيق، أريد خنقك، أنت وعادتك، بالتأكيد أنت في مكان ما وهاتفك في غرفتك" 
الرسالة الرابعة:
"طفح الكيل، ماذا سأفعل كي تصلك رسائلي أو تردّي على اتصالاتي"
هناك اتصال من آدم واثنين من رينا. لا بدّ أنّها غاضبة جدّاً. من الأفضل أن أكلّم طلال أوّلا ثمّ أردّ على اتصالاتها.
"ألو طلال ، مرحبا، أين وجدت هاتفك؟"
"عند المسبح، ماذا هناك؟"
"اتصلت رينا تدعوني الى حفلة وسط المدينة، أيمكنك اصطحابي عند المساء لألتقي بهم؟ "
أتريدين أن أصطحبك للسهر في ملهى ليلي" سألني بطريقة ساخرة وكأنّ الأمر لا يعجبه أبداً. فقاطعته قبل أن يكمل جملته:
"إنه مطعم طلال ... وليس ملهى ليلي"
"هل أنت متأكدة؟ "
"نعم"
سكت لبرهة وكأنّه يفكّر بالأمر، فقلت له قبل أن يطيل التّفكير بأمر لا أريده أن يعطي رأيه فيه:
"طلال أنا لا أسألك الإذن. إذا كنت لا تريد اصطحابي أو تفكر في أخذ موافقة إيّان أوّلا، فأنا أخبرك منذ الآن، سأذهب معك او بدونك وبرأيك أو بدونه ولا تدخّل إيّان بالموضوع"
"متى ستذهبين؟"
لا أريد إخباره بأنّي لم أكلّم رينا بعد لأسألها عن العنوان والوقت كي لا يظنّ بأنّي كنت أسعى للحصول على موافقته أوّلاً، فأجبته بثقة:
"سأرسل لك الوقت والعنوان برسالة نصّيّة لتتأكد من المكان بنفسك.
أقفلت الخطّ واتصلت مباشرة برينا.
"ألو نور، وأخيراً، أين كنت منذ الصباح؟ "
"كنت أتعلّم قيادة السيارة ونسيت هاتفي في غرفتي"
"هل ستأتين الى الحفلة؟"
" نعم، فأنا أتّصل لأخبرك بذلك وأحتاجك لأن ترسلي عنوان المطعم برسالة نصّيّة"
" هذا رائع، اذا سنلتقي عند المساء، هاي لا تتأخري، سنكون هناك عند الثامنة"
" حسنا، لن أتأخّر"
هذه الفتاة لا يشغل بالها سوى اللهو والسّهر، أرسلت العنوان الى طلال وتوجهت الى خزانتي لأنتقي ما سألبسه عند المساء.
يا الله!! قلبت خزانتي بأكملها ومازلت حائرة بما سأرتديه، رنّ هاتفي عند السابعة تماماً معلناً وصول رسالة قصيرة، إنّه طلال
" أنا جاهز في الأسفل، كلّ تأخير منذ اللحظة هو بسببك"
حسناً وأنا جاهزة كذلك الأمر. ألقيت نظرة أخيرة الى نفسي في المرآة لأشهق مذعورة. يا الله !! ماذا فعلت؟ إذا كنت أنا قد استغربت شكلي فكيف الآخرين؟"
... كيف أبدو؟ ممم... أبدو جذّابة، نعم هذا ما فعلته بنفسي، ارتديت تنورة سوداء قصيرة وكنزة سوداء بحمالات رفيعة وفوقها قميص أسود مفتوح بأزرار فضية وحذاء أحمر كعبه عالي. رفعت شعري الى أعلى رأسي ثمّ تركته يتدلّى من جديد كالشلال ليغطّي عنقي، سواده يحاكي سواد ثيابي. ووضعت كحلة سوداء وأحمر شفاه أحمر اللون. لون جريء أعرف ذلك وهذا ما أريد إظهاره اليوم بشخصيّتي.
فتح طلال فاه محدّقا بي وهو يراقبني قادمة نحوه الى السيارة، يبدو أنيقاً وجذّاباً ببنطاله الكحلي وقميصه الأبيض وشعره المصفّف، وقفت أمامه غير مبالية لردّة فعله منتظرة أن يبتعد عن طريقي لأدخل السيارة ولكنه لم يفعل بل بقي محدّقاً وعلامات الدّهشة على وجهه وكأنّه لا يصدّق ما يراه
" هاي طلال، ماذا حصل لك؟ " سألته بجرأة محاولة إخفاء خجلي وارتباكي من نظراته.
" ما هذا الذي ترتدينه نور؟ وما هذا الذي تضعينه على شفتيك وعينيك؟ " سألني واضعاً سبّابته على شفتيّ، فأجبته ببراءة تامّة وكأنّي لم أفهم قصده:
" ما ارتديه يسمّى ثياب، وما أضعه على وجهي يسمّى ماكياج"
كتّف ذراعيه عند صدره وقال ساخراً:
" حقّاً ! لم أكن أعرف ذلك، تعرفين ما أقصده بسؤالي نور"
طأطأت رأسي وتعدّيته، دخلت السيارة أنتظره، يبدو أنّه مصرّ على رأيه، إذ بقي واقفاً مكانه يراقبني بالدهشة ذاتها، حسناً على الأقل فليخبرني بأنّي أبدو جميلة، رائعة، جذّابة يصفني بكلمة ما بدل هذه الدهشة على وجهه وكأنّي مريعة.
جلست في السّيارة بعناد منتظرة منه الاستسلام، حتّى فعل، ركب السّيّارة وانطلق بها وهو يهزّ برأسه غير مسرور بي، بقي صامتاً لأكثر من ثلث ساعة حتّى قرّر أخيراً فتح فمه.
" لو أنّ إيّان رآك هكذا، لما تركك تخرجين من المنزل"
بدأت الدماء تفور في عروقي في اللحظة التي ذكر فيها إيّان فأجبته غاضبة:
وما شأن إيّان بما أرتديه؟ إنّه ليس أبي ولا أخي ولا علاقة له بي وبما أفعله، لذا لا تفسد عليّ سهرتي بذكره فأنا أرغب في نسيانه نهائيّاً"
" وما علاقة ثيابك بنسيانه نور؟ "
" ومن أخبرك أنً  هناك علاقة؟ لقد ارتديت ما رأيته مناسباً لحفلة في خزانتي، هذا كلّ شيء. فأنا اليوم أشعر بمزاج ارتداء الأسود ففعلت. وكأنّك في حياتك لم تذهب الى حفل وترى الفتيات ما يرتدين فيها"
هزّ برأسه غير معلّق، هذا جيّد، لقد سئمت التحدّث بهذا الموضوع فسألته مغيّرةً الموضوع:
" وماذا حصل مع سارة، أما زلتما على خلاف؟ "
" لا مزاج لي بالتحدّث عن هذا الموضوع"
ألقيت اليه نظرة سخيفة وعدت أراقب الطّريق عبر النّافذة،لقد غضب مني ، حسناً فاليفعل،لا يهمّني .
***
دخلنا المطعم، الموسيقى صاخبة والمكان مزدحم والطاولات كلها شاغرة، سألني طلال وهو يتفقّد المكان حوله:
" هل ترين أحد من أصدقائك؟ أتأكدتِ أنّهم وصلوا؟ "
" نعم، إنهم هنا، أنظر ذاك سليم، سأذهب إليه"
" سأكون عند المشرب، أبقي هاتفك قريباً منك، وانتبهي الى نفسك"
" سأفعل" أجبته وشققت طريقي بين الطاولات نحو سليم الذي بدوره أشار لي عندما رآني وأتى نحوي.
قال وهو يراقبني ضاحكاً : " لقد غششتني من بعيد، تساءلت عن هذه الفتاة الجميلة القادمة نحوي بكل اهتمامها لأكتشف أنّها أنت، ما هذا الجمال كله؟ أين كنت تخبئينه؟ "
" كفى مزاحاً سليم، أين البقيّة فأنا لا أرى أحدا ًمنهم "
أخذ بيدي وقادني بين الجموع الى الطاولة، يبدو أنّه لاحظ مثلي أنّ هناك عيونا كثيرة تراقبنا، فقرّبني منه أكثر وكأنّه يحاول أن يحميني من عيونهم وابتسم لي ابتسامة خجولة يطمئنني عبرها، فابتسمت له بالمقابل واستقبلت قربه منّي برحابة صدر.
الجميع حول الطاولة تمارة، عمر، رينا وحتى آدم الذي نظر إليّ باندهاش كما فعل طلال عندما رآني قبل ساعة، ضحكت على نكتتي الخاصّة بي وجلست بجانب رينا التي اسقبلتني كعادتها بعتاب.
" ما الذي يحصل معك؟ لماذا تأخرت؟"
" لم أتأخر كنت أفتّش عنكم، فالمطعم يعجّ بالزبائن ولولا رؤيتي لسليم لكنت ما زلت أفتّش عنكم"
" ولمَ لم تتصلي بي؟"
ضحكت على نفسي وقلت: " فاتتني هذه " حقّاً لم يخطر ببالي أن أتصل بها لأسألها عن موقعها بالتحديد. فطلال وإيّان أخذا عقلي وأفقداني تركيزي.
انتقل آدم الى جانبي وهو يراقبني بإعجاب وسألني:
" كيف حالك اليوم؟"
"بخير وأنت؟"
" بخير، اتصلت بك اليوم ولكنك لم تردّي على اتصالي"
ذكرني باتصاله، كيف لم أنتبه بأن أردّ له اتصاله فقلت محاولة تبرير نفسي
" آسفة، فقد انتبهت لاتصالك قبل فترة قصيرة من قدومي ففكّرت بما أنّي سأراك هنا فلا داعي لأردّ لك الاتصال"
" تبدين فاتنة، الأسود يليق بك كثيراً ويجعلك مميزة، لا تشبهين نفسك أبداً في الأيام العاديّة "
رفعت له حاجبي وقلت مستنكرة كلامه " ماذا تقصد، ألست جميلة في الأيام العاديّة؟ "
فتح عينيه غير مصدّق كيف فهمت جملته ثم بدا عليه الارتباك وقال مبرّراً:
" يا الله!!! لا ، ليس كذلك، أنت جميلة  كل يوم، لكنك اليوم " سكت لبرهة وهو يضحك ثم تابع
" لا أعتقد بأني سأتمكّن من شرح ما قصدته. أنت جميلة وفاتنة كل يوم، ولكنك اليوم تفوقين الوصف"
" شكراً لك على إطرائك آدم، لقد وصلتني الفكرة" أجبته مشيحةً بنظري عنه لا أريد إعطاءه فرصة لإطالة الحديث معي.
وقفت تمارة آخذةً بيدي تقول:
" تعالي معي، سنذهب لإحضار المشروب، وأنت عمر اذهب لاستعجالهم بالطعام"
وبينما نحن واقفتان ننتظر دورنا في طلب المشروب سألتني:
" طلال يجلس هناك وحده عند المشرب، أهو من أوصلك الى هنا؟ "
نظرت باتجاه المكان الذي أشارت اليه فرأيته يراقبنا من بعيد، يبدو أنه اختار مكاناً يمكّنه من رؤيتي أينما أكون في أرجاء المطعم
" نعم هو من أوصلني، يبدو أنه قرر البقاء والاستمتاع بالحفلة"
كذبت، وماذا سأقول غير ذلك؟ أأخبرها بأنه يلعب دور حارسي الشخصي وهو هناك يراقبني ويحرسني.
" لم لا تدعيه للجلوس معنا على الطاولة بدل البقاء لوحده، فنحن لا مانع لدينا بذلك"
" لا أظنه يقبل "
" بلى تعالي معي سنذهب لنسأله " قالت وهي تأخذ بيدي محاولة اصطحابي معها فاستوقفتها قائلة:
تمارة لن يقبل ، دعيه وشأنه، فهو لا يمانع في البقاء وحده."
نظرت اليّ راجيه ، ما بالها ؟ ولما كل هذا الاهتمام المفاجئ بطلال فسألتها وأنا لست واثقة من إجابتها:
" تمارة، أيعجبك طلال؟ " 
هزت برأسها مقرّةً بإعجابها بخجل.
" منذ متى؟" سألتها مشفقة عليها،
" منذ عيد ميلادك، لم أستطع التوقف عن التفكير به"
" ولكن لمَ لم تخبريني من قبل؟ "
" لا أدري، ظننت بأنّي سأتخطى إعجابي به، ولكن اليوم عندما رأيته عند المشرب وحده، عادت كل مشاعري وأقوى من قبل، أحتاج الى التحدث معه، أرجوك ساعديني"
أتى دورنا في طلب المشروب، نظرت إلى الساعي حائرة، لقد نسيت ما طلبه منّي البقيّة فتركت مكاني وأعطيته للذي ورائي وأخذت تمارة بعيداً قليلاً عن ازدحام الناس وقلت لها:
" أتعرفين أنه مرتبط؟ تلك المرأة التي كانت في عيد ميلادي إنها حبيبته "
أجابتني بسرعة وكأنها فكرت ملياً من قبل بالإجابة عن هذا السؤال:
" لا تبدو لي علاقتهما جدّيّة، فها هو هنا من دونها، وحتى في الحفلة لاحظت أنّ الأمور باردة بينهما"
رحت أراقبها وهي تناظرني راجية واليأس يتملّكها، أشفقت على حالها، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل لها؟ طلال يحب سارة، ولا أظنه مستعدّ للبدء بعلاقة جديدة. ولكن رؤية تمارة واقفة أمامي منتظرة ردّي بشغف يجعلني غير قادرة على رفض طلبها فقلت:
" لا أعدك بشيء منذ الآن، ولكني سأحاول مخاطبته بموضوعك. اطلبي المشروب وعودي الى الطاولة، وأنا سأذهب لأتحدّث معه"
صفّقت ترقص من الفرحة وكأنّ طلال قَبِل بها، حضنتني بقوّة ثمّ عادت تنتظر دورها من جديد لطلب المشروب. وأنا شققت طريقي بين الناس نحو طلال الجالس عند المشرب.
وقفت بجانبه ولكنه لم يعرني اهتمامه أو حتى يخاطبني، ما باله ؟
بالتأكيد يفكر بسارة ووضعه معها فقلت له:
" لا يبدو أنك تستمتع بوقتك هنا، أنظر الى حالك، لم لا تتصل بسارة وتدعوها الى ملاقاتك هنا؟"
لم يجبني، بل اكتفى بإعطائي نظرة لامبالاة، ثم عاد لارتشاف كأسه من جديد. أخذت الكأس من يده وقلت له:
" أعرف بأنه لا يحق لي التدخل بحياتك العاطفيّة، ولكني أرجو منك أن تعطيني فرصة لمساعدتك"
قال ببرودة دون أن ينظر اليّ " ألا يكفي ما فعلته حتى الآن. أنا أشكرك. ولكن لا ... لست بحاجة الى مساعدتك "  ثم استعاد كأسه وأضاف " وأنت قلتها بنفسك، لا يحق لك التدخل بهذه الأمور. إنّها ليست لعبة مشاعر وأحاسيس نور. وأنت أدرى الناس بذلك"
أخذ رشفة أخرى من كأسه وقال متحاشياً النظر إليّ: "عودي الى أصدقائك. وانتبهي الى ما تشربينه، تأكّدي أوّلا أنه خالٍ من الكحول مئة بالمائة "
إنّه يتألّم، هذا واضح. أشعر بعذابه وألمه ولكنّه يكابر ولا يريد الاعتراف بما يختلج بداخله. شعرت برغبة في احتضانه ومواساته ولكني اكتفيت بالتربيت على كتفه وتركته لوحده عائدة الى طاولة أصدقائي حيث استقبلتني تمارة بنظراتها الفضوليّة فأومأت لها برأسي بأنّ الموضوع لم يسر كما تبتغيه. كانت تهمّ بالوقوف لتأتي إليّ ثم عادت وجلست والخيبة على وجهها.
أشحت بنظري عنها. لا أريد أن أرى هذا المنظر على أي أحد بعد اليوم سئمت خيبة الرفض وألمه وعذابه.وإذ برينا تمسك بذراعي وتشدّني نحوها بحماس مفرط والفرحة عارمة على وجهها وكأنها قابلت للتّو فارس أحلامها وقالت:
" يا الله!! نور، لا أصدّق، لن تصدّقي من رأيت هنا، إنّه آخر شخص على وجه الأرض أتوقع رؤيته في هذا المكان "
حماسها وفرحتها أثارا فضولي فسألتها باهتمام،
" من رأيت؟ هيا أخبريني"
وقفت أمامي وهي تحاول ضبط نفسها وقالت: " هل أنت مستعدّة؟ "
" تكلّمي رينا، ماذا يحصل معك؟ "
" إيّان كرم " ضمت يديها إلى صدرها تتراقص فرحاً ثم تابعت " إنّه فارس أحلامي، كنت أحلم به، لم أتوقّع رؤيته حقيقة أبداً ، إنّه أكثر من رائع "
أجابتني وهي تحاول عبثاً إبقاء قدميها على الأرض. هذا غريب، وماذا يفعل إيّان هنا؟ ومن أين تعرفه رينا؟ سألتها وأنا أحاول إخفاء صدمتي من كلامها.
" ومن أين تعرفين إيّان كرم؟ "
" لا أعرفه شخصيّاً ولكنني أتابع كل أخباره وانجازاته إنه رجل أعمال مشهور وناجح جدّاً، وانتُخب منذ سنتين على أنّه أوسم وأصغر رجل أعمال في العالم العربي. كنت أتمنى يوماً ما أن ألتقي به شخصيّاً، وها هو اليوم حلمي أصبح حقيقة "
لا أعرف بماذا سأعلّق على كلامها أو ماذا سأخبرها. ولكن ما يشغل بالي الآن هو ما الذي يفعله هنا وبرفقة من أتى فسألتها: "هل هو وحده هنا، أم يرافقه أحد؟ "
" إنّه برفقة امرأة سمراء طويلة. ولكن لا يهمني، فكلّ ما أريده هو إيجاد طريقة للتعرف عليه " ثم راحت تتلمس ثيابها وشعرها وسألتني " كيف أبدو؟ أأبدو جميلة؟ أأعجبه هكذا؟ "
أي رينا دعيني بهمي الآن، ذاك الحقير، هل أتى إلى هنا ليفسد عليّ فرحتي؟ ماذا سأفعل الآن؟ شعرت بالدماء تفور في عروقي والحرّ شديد والضجة عالية وكأنّي فجأة ما عدت قادرة على تحمّل شيئ حولي.
خلعت قميصي لألاحظ أكواب العصير كلّها مليئة على الطاولة فأخذت واحداً وشربته كلّه لم أنزله عن فمي إلا فارغاً، أشعر بالحرّ والعطش أخذت الكوب الثاني فأمسك آدم بيدي منبّهاً:
" إهدئي، رفقاً بنفسك، هذا ليس عصيراً "
ولكني لم أهتم بكلامه وشربته هو الآخر كلّه، حدّق بي يراقبني وأنا أضع يدي على معدتي التى امتلأت فجأة بالمشروب وسألني باهتمام:
" هل انت بخير؟ "
" نعم بخير،..." أجبته أجول بنظري علّه يقع على إيّان ، سأقتله ، أشعر بالرغبة الملحة للذهاب اليه وإفتعال فضيحة . عدّت بإنتباهي إلى آدم الجالس أمامي يراقبني بإهتمام ، فلم أعي على نفسي إلاّ وأنا أسأله بكل وقاحة : "أترقص؟ "
فتح عينيه غير مصدّق عرضي وقال وأقفاً من مكانه " بكل تأكيد، هيا بنا"
فصرخت بنا رينا متذمّرة:
" هاي، الى أين؟ وأنا ماذا سأفعل مع إيّان؟ "
فقلت لها وأنا أتبع آدم: " خذيه كلّه، فأنا أقدمه لك على طبق من فضّة، هذا اذا توفرت لك الفرصة "
نظرت اليّ وكأنها تقول في نفسها: ما بالها، عمّ تتحدّث هذه المجنونة. 
قادني آدم الى الحلقة، يبدو وسيماً اليوم، فلم أتمالك نفسي مقتربةً منه صارخةً بأذنه:
" تبدو جذّاباً اليوم "
وضع إصبعه في أذنه يحرّكها محاولاً فتحها اذ يبدو أني صرخت فيها عالياً وقال وهو يرمقني بتعجب وتساؤل:
" شكراً لك، أعتقد بأنّ المشروب بدأ يؤثر عليك "
" أي مشروب؟ فأنا لم أشرب سوى العصير "
ضحك معلّقاً " ما شربته، لم يكن عصيراً "
" أتقول بأنّي ثملة، لا أشعر بأنّي كذلك "
" لكنّك ثملة وبكلّ تأكيد "
اقتربت منه ،أحطت عنقه بذراعي أراقصه على أنغام " هيرو " بدا متوتّراً في البداية من مبادرتي ولكنه سرعان ما اقترب مني واحتضنني يراقصني.
تذكرت نفسي عندما كنت بين أحضان إيّان وهو يقبّلني بشغف وعادت اليّ كلّ تلك المشاعر والأحاسيس التي شعرت بها وأنا بين ذراعيه.
لا أشعر بشيء هنا بين ذراعيّ آدم، لا شيء البتّة، لا أحاسيس ولا عواطف ولا رغبة، لا شيء. أهكذا ستكون حياتي بين ذراعي رجل آخر باردة وخالية من المشاعر والأحاسيس.
نظرت الى عيني آدم لأراهما تلمعان رغبةً بي فلم أعِ إلاّ وأنا أسأله بكل جرأة ووقاحة ما إذ كان يريد تقبيلي .
حدّق بي غير مصدّق سؤالي، وقبل أن أعلّق على سؤالي أو أستوعب طلبي المخزي والمشين وأتراجع عنه ، أطبق فمه على فمي يقبلني بشغف، أحاطني بتملك يحتجزني بين ذراعيه.
فجأة شعرت بغثيان في معدتي ودوار شديد في رأسي وضيق في نفسي. ما الذي أفعله؟ ما الذي يحصل معي؟ دفعته عنّي علّه يتوقّف عن تقبيلي ولكنه استمرّ في الضغط عليّ والتعمق في قبلته الى أن شعرت بأنّ هناك يداً تدفعه عنّي بقوّة وإذا بآدم مطروحاً أرضاً. تلفّتُّ حولي غير مستوعبةً ما يحصل فرأيت إيّان فوق آدم يلكمه بعنف على وجهه وينعته بالحقير وطلال أمسك بذراعي وهو يراقبني بقلق واستغراب.
ياللإحراج ، ماذا فعلت، أصبحت فجأة محطً أنظار الجميع.
سليم وعمر أمسكا بإيّان يحاولان إبعاده عن آدم المطروح أرضاً والدماء تسيل من فمه وأنفه. وإيّان كالبركان الهائج مستعدّ لإحراق كل شيء أمامه.
جثت رينا بجانب أخيها تحاول مساعدته على الوقوف وهي تراقب إيّان باستغراب وتساؤل، لا تفهم ما الذي دفعه لفعل ذلك، الذي بدوره كان يحاول عبثاً تهدئة نفسه ثمّ نظر إليّ صارخاً في وجهي:
" هل أنت ثملة؟ أهكذا تستغلين حريتك؟ بارتدائك كالساقطات والتصرف مثلهنّ "
أتمنّى لو أنّ الأرض تنشق وتبتلعني، الإحراج سيقتلني. كيف وصلت بي الأمور إلى هنا وخرجت عن سيطرتي تماماً. يا الله!! ماذا فعلت؟ أخذ طلال بيدي وقادني خارج المطعم بصمت ودون تعليق.
لم أستطع تمالك نفسي فإنهمرت دموعي سخّيةً حارّة تحرق عيوني ووجنتي. وصل بي الى السيارة توقف بجانبها يجيب على هاتفه:
" نعم، إنّها معي ... عند السيارة ... حسناً سأنتظرك "
أقفل الخطّ يراقبني أبكي دون توقف وقال:
" ما الذي تحاولين فعله نور؟ بكلّ ما فعلته منذ الصباح حتّى الآن، إلى أين تريدين الوصول بكل هذا؟ "
أجبته وأنا أحاول تماسك نفسي بصعوبة، قلبي يؤلمني وضميري يؤنبني ونفسي تعاتبني.
" أقسم لك طلال، لا أعرف كيف خرجت الأمور عن السيطرة. كل ما أردته هو إيجاد وسيلة لنسيان إيّان وتخطّي أمره ومتابعة حياتي من دونه "
" بهذه الطريقة ، بارتدائك هذه الملابس وارتمائك في أحضان شاب غريب لم تلتق به سوى مرّات معدودة "
سكتُ، أحاول استجماع أفكاري لأبرّر فعلتي، كيف سأفعل؟ وهل أملك غير بالحقيقة ، فقلت وأنا أمسح دموعي القديمة لتحلّ مكانها أخرى جديدة حارّة ومؤلمة.
" أردت أن أجرّب شعور أن أكون بين أحضان أحد غير إيّان وأن يقبّلني أحد غيره "
مرّر طلال يديه بشعره بعصبيّة تامّة ، يحاول عبثاً كبت غضبه عني، معه حقّ، فعذري أقبح من ذنبي وتابعت " لم أتحملها ، لم أتحمّل قبلة آدم طلال ، كانت باردة ومؤلمة. شعرت بأنّها تقتلني من الداخل. حبّ إيّان قتلني، قتلني طلال، فأنا اليوم تأكّدت بأن قلبي لن ينبض لسواه "
خبأت وجهي بكفّيّ مسترسلةً بالبكاء المرير بألم ويأس، أخذني بين ذراعيه واحتضنني برفق يحاول تهدئتي، احتضنته بدوري بتملك أبكي على كتفه دون توقف. وإذا بصوت إيّان الغاضب يقول من خلفي بحنق شديد:
" ألم تكتفي بعد من الارتماء في أحضان كل من يصادف دربك؟ "
حاول طلال إبعادي عنه ولكني تمسكت به رافضة تركه لي وقلت:
" لا شأن لك بأحضان من أرتمي، دعني وشأني، ألا يكفيك ما فعلته في الداخل؟ "
أمسكني من ذراعي مبعداً إيّاي عن طلال بالقوّة وأمرني قائلاً:
" أدخلي الى السيارة هيّا "
مسحت دموعي متوقّفةً عن البكاء، فالغضب الذي أشعر به الآن أقوى من ألمي وقلت بعناد:
" لا أريد دخول السيارة، دعني وشأني "
قال صارّاً على أسنانه غضباً ، يحاول تمالك أعصابه هو الآخر" أدخلي الى السيارة اللعينة وإلاّ أقسم بالله لأدخلتك إليها عنوة"
نظرت إلى طلال متوسلة علّه يدعمني ولكنه نظر اليّ بعجز وكأنه يرجوني أن أفعل ما يأمرني به إيّان ففعلت.
تبادل إيّان وطلال مفاتيح السيارات ثم ركب إيّان السيارة معي وانطلق بها.
حاولت قدر استطاعتي أن أبقي نفسي هادئة ولا أبكي من جديد. حدّقت عبر النافذة نحو الخارج محاولةً قدر الإمكان تجاهل وجوده معي  بالسيارة، وبعد صمتٍ دام لوقت طويل، سألني بهدوء تام دون الالتفات اليّ
" ما الذي يحصل معك نور؟ كيف وصلت بك الأمور الى هذه الحالة ؟ أنت لست هذه الفتاة التي حاولت إظهارها اليوم، لست كذلك نور "
" ما الذي يثبت لك أني لست كذلك؟ ربما أريد أن أكون هذه الفتاة التي أنا عليها اليوم، إنها تعجبني"
حدّق بي مستغرباً ردّي " تعجبك! أيعجبك حالك هذا؟ ثملة وترتدين هذه الثياب الفاضحة وتسمحين للغرباء بتقبيلك، ومن هو ذاك الحقير ليسمح لنفسه بلمسك؟ "
أجبته بحدّة " إنّه ليس بحقير، على الأقلّ هو يحبّني ويهتمّ لأمري، يكنّ لي مشاعراً وأحاسيساً أنت لا تعرفها ولن تعرفها، لأنه لا قلب لديك لتشعر بها"
رغم قساوة كلامي، إلاّ انّه أجابني بنفس الوتيرة ونبرة صوته الهادئة:
" يحبك ويهتمّ لأمرك، كيف هذه؟ لو كان يهتمّ لأمرك فعلاً، لما سمح لنفسه بأن يستغلّ ثمالتك وتقبيلك وفي مكان عام كهذا، إنّها إهانة لك، لقد أهانك وقلل من قيمتك نور "
نظرت اليه بتمرّد وقلت بكل جرأة أملكها " أنا طلبت منه أن يقبّلني "
عقد حاجبيه يناظرني بغضب مستعر ودهشة وكأنه لا يصدّق ما سمعه للتو منّي. بقي للحظات محدّقا بي. فقلت ببرودة:
" انتبه الى الطريق أمامك، لا أريد أن أموت اليوم "
أوقف السيارة بجانب الطّريق وعاد يحدّق بي . قال مشدداً على مخارج الحروف وكأنّه يحاول ضبط أعصابه دون جدوى:
" أنت سألته أن يقبلك؟ ما الذي دفعك الى فعل ذلك؟ "
" لا شأن لك بالسبب، ولا يحقّ لك سؤالي عنه. أسألتك يوماً عن سبب معاشرتك للنّساء وتقبيلك لكاتي وغيرها؟ وحتّى لو فعلت كنت ستجيبني بأنه لا شأن لي بذلك "
" لا شأن لي بالسبب إذاً "
" نعم ولا يحقّ لك أن تنعتني بالساقطة كذلك الأمر , أنا لست كذلك "
" لم انعتك بالساقطة نور "
" ولا يحق لك أن تفعل كل ما فعلته في الحفلة، لقد أهنتني وأحرجتني وأفسدت فرحتي وجعلتني أضحوكة كل من في المطعم وخاصة أمام أصدقائي "
لم استطع تمالك نفسي، يا لهذه الدموع السخيفة، لا أريد البكاء، خاصّة الآن، ولكنها أبت أن تطاوعني فانهمرت بغزارة حاجبة عنّي الرؤية بوضوح. نزلت من السيارة وأنا أشعر بضيق في نفسي وكأنّ هناك يد خفيّة تضغط على عنقي. تبعني إيّان واقفاً بجانبي يراقبني بصمت قلت له بصوت مخنوق وسط دموعي:
" دعني وشأني إيّان، عدّ الى السيارة أرجوك، أريد البقاء وحدي لا أريدك أن تراني هكذا، اذهب"
"لقد أخبرتك بأني لست على علاقة بكاثي ، ولم أكن على علاقة مع إمرأة منذ فترة طويلة نور، إذ كان تصرفك هذا كي تردّين لي الصاع صاعين فأنا أهنئك ، لقد نجحت وبجدارة ، ولكن رغم كل هذا أنا وأنت أبداً لن نكون لبعضنا أفهمت "
إستدرت إليه حانقة حدّ الجنون ، صارخةً به " أنا أكرهك إيّان ، أكرهك حدّ الموت ، وإذ كنت تظن بأني فعلت ما فعلته من أجلك فأنت مخطئ، إرحل ، إرحل من هنا ، لا أريد رؤيتك ، لا أطيق رؤيتك "
ولكنه بدل أن يذهب اقترب منّي أكثر جاذباً إيّاي بين أحضانه هادماً حصوني الواهنة، حضنته بدوري بقوّة شديدة مسترسلةً بالبكاء شاهقة .
لا أعرف كيف سأتحمّل العيش مع غيره، أو فكرة أنّ أحد غيره سيحضنني أو يقبّلني أو يكون قريباً مني هكذا كما هو الآن. لم لا يريدني؟ لم لا يحبني كما أحبه؟ لم، لم ، لم كلها أسئلة لا ألقى لها أجوبة، تؤلمني وتعذبني.
إبتعدت عنه برهقة لحظة شعرت بغثيان شديد في معدتي ودوار في رأسي وكأنّ الأرض تدور بي بسرعة شديدة. جثيت أرضاً أتقيّأ ، الرائحة كريهة والطعم مرّ،لأشعر فجأة وكأنّ حرارتي إرتفعت حدّ الغليان أو أنّ الجوّ أصبح فجأة أكثر حرّاً. جثى إيّان بقربي مبعداً شعري عن وجهي.
سألته أن يبتعد عنّي، لا أريده أن يراني هكذا، إنّه لأمر مقرف ومقزّز ولكنه أبى أن يفعل، بل بقي بقربي إلى أن انتهيت، ساعدني على الوقوف وفي اللحظة التي وقفت فيها فقدت توازني اذ شعرت بأنّ الأرض تدور بي.
حملني الى السيارة حيثُ يبدو أنّي غفوت فيها اذ لم أشعر بنفسي إلّا وأنا بين ذراعي إيّان يضعني في السّرير، الغرفة مظلمة، متوسدةً ذراعه ويده الثانية تداعب شعري، لا بدّ اني أحلم، ماذا سيفعل إيّان في سريري؟ ولكن كيف وصلت الى هنا؟ فآخر ما أذكره أنّي كنت في الحفلة ، وماذا حصل بعد ذلك؟  أفكاري مشوّشة بالتأكيد أنا أحلم أنّ إيّان مستلقياً بقربي ويداعب شعري وإذ بي أسمع صوته الدافئ والحنون وكأنه يروي لي قصّة ما قبل النوم، كلماته الحزينة تدوي في رأسي:
" أنت كتلك الزّهرة التي نبتت بين نبات الصّبّار في الصحراء. عندما يراك الهائم يظن أنك سراب يتراءى له، وهمٌ جميل يتمنّى حصوله، ولكن رائحتك، لونك وملمسك يؤكدان وجودك في ذلك المكان المكفهر الذي لا يحوي سوى الرمال والأشواك. تتمايلين على نغمات نسيم الصحراء، لا تنكسرين ولا تنحنين، تفوح منك رائحة تغريني للاقتراب منك، لمسك، ولكن أبداً ما كنت لأجرؤ على تدنيس براءتك وفرادتك بأنانيتي مهما زادت رغبتي بك.
حبّي لك يدمرني، يتآكلني من الداخل، يذكرني بنفسي المعذبة والمشوّشة والحائرة.
لا أريد أن أتحوّل الى ذلك الجلاّد نور. لا أريد أن أصنع منك إيّان آخر. أنت جميلة، رقيقة وبريئة، مفعمة بالأمل والحياة. لا أريد تدنيس معتقداتك، براءتك ترهقني وتمنعني عنك. 
... أنا رجل بلا طفولة، برائتي اغتصبت، روحي سجنت وقلبي تجوبه الظلمات. إنني رجل لم يبق منه إلا طيف، يسير بلا هدى ولا هدف "
ثم راح صوته يتلاشى تدريجياً في عقلي ... .... .... .

فى ظلال الماضى لكاتبة أمل القادرىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن