الفصل الثاني
على سطح اليخت في المقدّمة يوجد التراس حيث يمتدّ مقعد عريض وطويل من الجلد الرّمادي وأمامه طاولة ممتدة على طول المقعد الذي يتّسع لحوالي ثمانية أشخاص.
ثمّ في الوسط قمّرة القيادة محاطة بالزّجاج من جميع الجهات، ثمّ الحجرة التي تقود إلى الأسفل عبر سلالم عريضة رماديّة اللون.
وبحركة عفوية أعطاني إيّان يده وقال بمرح " أتودّين رؤية إسبيرو من الدّاخل"
أخذت كفّه وأجبته بحماس" نعم... إنّه يخت رائع، كنت أجده خياليّاً في مكتبك ولكنّه يفوق روعةً وجمالاً وأناقة وهو هنا يتهادى في المحيط"
"نعم إنّه رائع، ولكنّه ازداد روعة بوجودك على متنه. فأنت بمثابة البريق الذي يشعّ منه تحت أشعّة الشّمس وسط زرقة المحيط." أجابني دافعاً إيّاي أمامه
توقف قلبي للحظات ، نعم حرفياً توقف ،أيعقل هذا ، إيّان يتغنّى بوجودي على يخته .شعرت بموجة حارّة تجتاح وجهي وتوشّحه بحمرة الخجل . هذه أوّل مرة يتحدّث فيها معي بهذه الطّريقة الرّقيقة، أيعقل أنّه تأثير البحر عليه.
إقترب مني حدّ التماس،لتظهر ردة فعل جسدي الخائن جلية وقلبي يعصف داخل صدري محاولاً الهرب مني اليه، رمقني بنظرة غريبة غامضة وكأنّه شعر بي وبما يجول بجوفي فحرر يدي متنحنحاً فاسحاً لي المجال أن أنزل أمامه على الدّرج . إنّها سبع درجات، شعرت بها وكأنّها مئة درجة، فقدماي ترتعشان عاجزتان عن حملي أكثر .
وقفت عند أسفل الدرجات مشدوهة الفاه أراقب محيطي بإعجاب، المكان فسيح ومنير إذ النّوافذ تحيط به من كلّ الجهات. الأرضيّة رماديّة اللون مائلةٌ إلى الفضّيّة البرّاقة، الى اليمين المطبخ بكل معدّاته من الستانليس ستيل وخزائنه رماديّة اللون، وطاولة طعام دائريّة كبيرة وضخمة تحيط بها المقاعد الجلدية الرماديّة ثمّ إلى اليسار غرفتي نوم صغيرتين تضمّ كلّ واحدة سريرين وبعض الخزائن والمرايا والنّوافذ ثمّ حمّامين من كلّ جهة واحد ثمّ يواجهنا باب خشبي جرّار عريض، فتحه إيّان ودعاني للدّخول، إنّها غرفة النّوم الرئيسية، إذ تضمّ سريراً عريضاً، وكذلك الأمر الكثير من النوافذ المغطاة بستائر رماديّة والمرايا والخزائن تحيط به.
"هل تنام هنا؟" سألته مسرعةً نحو السرير راميةً بنفسي عليه بمرح أجرب مرونته ، أسندت ذراعي إلى الخلف، مسترخيةً ، وهو وقف عند المدخل مكتّف اليدين ويراقبني بإبتسامة خلاَّبة .
"بالتأكيد، فما لذّة امتلاك يخت دون استغلال كل مواضيع التّرفيه التي يقدّمها لصاحبه"
"أتُبحر وحدك؟"
سكت للحظات ثم أجاب بتردد
"في بعض الأحيان نعم... ولكن غالباً ما أكون برفقة أحد"
إجابته خيّبت أملي وظنّي ، أيعقل أنه يأتي بحبيبته إلى هنا ؟؟ فتحت فمي بنيّة سؤآله عن هويّة هذا الأحد، لكنّ الإحراج منعني... أو ربّما لم أسأل لأني لم أرد أن أعرف هويته فأشعر بالغيرة والإحباط .
إتكأ إلى حاجب الباب يحدّق إلى داخل الحجرة بشرود عيناه تحدّقان نحو المجهول وكأنّه يفكّر بأمر يشغل باله. نظراته غامضة وملامحه غير مقروءة، زفر نفساً طويلاً تاركاً مكانه مقترباً ، جلس بجانبي على السّرير وقال بهدوء :
"أحبّ البحر كثيراً، وغالباً ما آتي إلى هنا عندما أشعر بالضّيق، فأرمي همّي وأعود إلى الشاطئ إنساناً جديداً خالياً من الهموم"
أطلقت العنان لنظراتي الوقحة المتفقدة دون رقابه تجول على ملامحه الخلاّبة، أي نوع من الضّيق يمكن أن يعانيه رجل يملك كلّ شيء في هذه الدّنيا: المال، السلطة، الجمال، الشباب، والصحة. وأي امرأة مستعدة أن تعطيه قلبها وروحها من مجرّد إشارة منه.
وبدون سابق إنذار رفع بصره نحوي لأفاجأ به قريباً مني متّحدةً نظراتنا مسببةً شحنة كهرومغناطيسية بيننا، غير قادرين على فكّ أسرنا لبعضنا نظراته تلك تركتني في حالة هلع ورغبة، حاولت أن أغض بصري عنه فعجزت ليعاني قلبي المسكين من الإرهاق الشديد،... حاولت أن أعلّق أو أقول شيئاً ما ولكنّي شعرت بأنّ لساني لا يطاوعني، ليعلو فجأة صوت طلال ينادي من الأعلى:
"إيّان...أصبح كل شيئ جاهز للانطلاق... إننا بانتظارك"
إنتفض إيان عن السرير برهقة ،وكأن فيه ناراً لسعته، إستند إلى جدار الحجرة للحظات قبل أن ينادي طلال مجيباً:
"حسناً، أنا آتٍ" ثمّ وجّه كلامه لي متحاشياً النّظر إليّ: " من الأفضل أن نصعد سنبحر قريباً" ثمّ ترك الغرفة مسرعاً نحو الأعلى.
في الأعلى كان طلال وسارة قد ارتديا سترتي النّجاة وجاهزين للانطلاق، أخذ إيّان سترة وفتحها بين يديه منتظراً منّي ارتدائها ففعلت، ثمّ أغلقها بإحكام على صدري. ارتدى سترته وساعده طلال على إغلاقها ثمّ توجّها معاً نحو قمّرة القيادة يتحدّثان مع الرّبّان.
وقفنا أنا وسارة نراقب بَعضُنَا بصمت، لا يوجد بيننا أحاديث مشتركة فنحن نادراً ما نرى بعضنا البعض ثمّ قررت المبادرة فقلت:
"شكراً لك على الدّواء"
ابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت بلطف:
"أهلاً... أرجو أن يساعدك، فإذ لم يفعل ستكون رحلتك صعبة"
أومأت لها برأسي موافقةً وقلت:
"أرجو ذلك... فأنا لا أريد إفساد رحلتكم بسبب دواري"
" لا تقلقي بهذا الشأن... وكيف هي الأجواء في القصر؟ هل تأقلمت مع جوّ إيّان وطلال والوحدة أم بعد؟"
''أني أتدبر أمري ...ففي النهاية لا خيار عندي سوى التأقلم "
"نعم... ولكنه صعب على فتاة في مثل سنّك، أن تعيش وحيدة دون أصدقاء في ذلك المكان النّائي مع شابّين أعزبين وامرأة عجوز"
نعم هي محقّةٌ ، ولكن للظرورة أحكام ، وهكذا حكم القدر عليّ ، أن يتولى رعايتي شابّان أعزبان بعد وفاة والدي لأن جميع أقربائي يعيشون في كندا ورفضوا إستقبالي بسبب مشكلة قديمة بينهم وبين والدي ، فهم لم يكونوا راضين عن زواجه من أُمِّي الأجنبية وبالطبع ليسوا راضين عني كقريبة لهم.
"وأنت هل تأقلمت مع جو طلال وإيّان" سألتها وأنا أراقب نظراتها نحو طلال حبّها له بادٍ في كل حركاتها مثيرةً غيرتي متمنيّةً لو أنّي أستطيع النّظر إلى إيّان بنفس الطّريقة دون الخوف من أن يُفضح أمري.
أجابت بتنهيدة حالمة "لقد تعوّدت كحالك... وماذا عليّ أن أفعل؟ ففي النّهاية عليّ الاختيار، إمّا تقبّل طلال كما هو، أو تركه، وأنا اخترت أن أتحمّل علاقته بإيّان والبقاء معه"
لتبتسم ابتسامة عريضة وهي تراقب طلال قادماً نحونا، الذي بدوره احتضنها دون تحفظ يسألني بمرح، يبدو كمراهق في هذه الثياب وهذا الوجه البشوش، فهو دائماً ما يكون جدّي الطّلّة والملامح:
"أرجو المعذرة، هل تسمحين لي باستعادة حبيبتي الآن" قادها أمامه نحو مقدّمة اليخت حيث وقفا يتكآن إلى الحافته يراقبان المحيط .
أغمضت عيوني مستلقيةً على كرسيّ عند مقدّمة اليخت داعيّةً الله أن لا تسوء حالتي أكثر، إذ إنتابني الغثيان منذ اللحظة الاولى من انطلاقنا.
الدواء لا يساعدني كثيراً، إنّه يخفّف من عوارض الغثيان ولكنّه لا يقضي عليها كليّاً.
لم أرد أن أخبر إيّان بذلك كي لا أخيّب ظنّه، إذ يعتقد بأنّه يقدّم لي رحلة جميلة، خاصّة أنّه وعدني أن يخصّص لي وقتاً للخروج منذ فترة طويلة، ولكن ماذا عليّ أن أقول، أنا وحظّي التعيس.
يبدو أن طلال وسارة هما الوحيدان اللذان يستمتعان بوقتهما إذ ما إنفكا عن العبث وسرقة القبلات كمراهقين ظنّاً منهما أن لا أحد يعيرهما إنتباهه غافلين عنّي .
أرى الحبّ في كلّ ما يفعلانه... إنّهما جميلان معاً.
يبدو أنّها متفهّمة لوضعه مع إيّان، فهو متطلّب جداً إلى درجة أشعر فيها أنّه لا يدخل الحمّام دون طلال فالعلاقة التي تربطهما متينة وغامضة، حتى أنا لا أفهمها.
إيّان ما يزال متمركزاً وراء دفّة التّوجيه يتحدّث مع الرّبّان المساعد، أظنّهما يتناقشان بمسألة الوجهة والوقت، إذ إيّان يشير إلى السّاعة ثمّ إلى البوصلة أمامه. قررت أن أغمض عيني وأستمتع بالهواء الرطب الذي يداعب شعري ويلامس بشرتي.
"نور، هل أنت بخير؟... تبدين شاحبة"
فتحت عيناي بتكاسل لأجده واقفاً أمامي يراقبني بقلق.
"نعم... أنا بخير، هل وصلنا أم بعد؟" أجبته وأنا أحاول الاعتدال بجلستي لأعود وأخمد ، حركة خاطئة جداً.
"عشر دقائق ونصل. المياه في تلك المنطقة صافية وهادئة ممتعة للسباحة. بإمكانك أن تنزلي للأسفل وتبدّلي ملابسك هناك بعض ثياب السّباحة الجديدة في الخزانة يمكنك اختيار ما يناسبك منها." أجابني بحماس مفرط
حدّقت به بفزع ،هذا ما لم يكن بالحسبان، أن أسبح، أجبته بصوت مرتعب:
"من!أنا! بالطّبع لا" أرعبتني فكرة النّزول إلى المحيط وسط المجهول " أنا لا أسبح... لا أعرف السّباحة"
جثى بقربي يضحك وكأنّه لا يصدّق ما أقول، وقال:
"حقّاً..." ثمّ اختفت الضحكة عن شفتيه يراقبني بقلق :
"يا للهول! نور، لا تقولي لي بأنّك تخافين من المياه"
" المياه لا... ولكن البحر نعم... فأنا أخاف من البحر ولا أحبّذ فكرة النّزول إلى المحيط والسّباحة وسط المجهول"
حدّق بي بعينيه الزّرقاوتين وكأنّه لا يصدّق ما يسمعه، أو كأنّي أخبره قصّة من المستحيل أن تكون حقيقة. لتلين نظراته متحوّلةً إلى حنان خالص.
إنه غافل عن تأثير نظرته هذه التي أشعر بها تزيد من قوّة الدّوران والغثيان لديّ، بدأت معدتي تعتصر نفسها وقلبي يرقص من قوّة وسرعة خفقانه.
أمسك بكفِّي برفق تام متلمساً جبهتي وقال:
" ما كان يجب أن آتي بك إلى هنا... لمَ لم تقولي لي أنك تخافين من المحيط. بالطّبع الدّواء لن ينفعك، لأّنّ مشكلتك هي الخوف أكثر من كونها دوار البحر. إنّها غلطتي، كان يجب أن أستمع اليك" لم أقوى على رؤية الحزن الخيبة بعينيه،إذ يشعر بأنه أفسد يوم عطلتي.
"أنا بخير إيّان ، طالما أنا بعيدة عن المياه، والدّواء يساعدني حقاً، فمن دونه كانت حالتي ستكون أسوء بكثير."
توقّف اليخت في هذه الأثناء،ليظهر سارة وطلال في ثياب السّباحة مستعدّين للنزول إلى المياه.
إقترب طلال يسألنا مستغرباً " ما هذا؟ ألم تجهزا بعد؟ إنّها الثانية سنسبح قليلاً ثمّ نبدأ بإعداد الطّعام هيا."
أجابه إيّان بخيبة واضحة بصوته: "نور لا تسبح، لن تنزل إلى المياه. انزل أنت وسارة وأنا سأبقى معها"
"لا تعرفين السّباحة! هذه سابقة لا سابقة لها. ضيفة الشرف لا تسبح. لقد أقمنا هذه الرّحلة على شرفك، ولن تسبحي"
"أي طلال... أنا لا أحبّ السّباحة، وسأستمتع كثيراً بمشاهدتكم تسبحون. خاصّة وأن المركب توقّف" لألاحظت إيّان يراقبني بأسى وكأنّه يشعر بالذّنب حيالي فقلت له أحاول التخفيف عنه " وأنت إيّان، أرجوك انزل إلى المياه، منذ قليل كان الحماس يعتريك لمجرّد فكرة السّباحة، أرجوك سأكون سعيدة برؤيتكم تسبحون وأنا بخير، ها أنظر إلي" وقفت مترنحة لأثبت صحّة كلامي، فأنا لا أريد أن أفسد متعتهم بدواري السّخيف وخوفي من المياه.
ربّت طلال على كتف إيّان بخفّة وقال:
"هيّا اذهب وبدّل ملابسك، لا تجعلها تشعر بالذنب أكثر مما يبدو عليها"
"انزل أنت وسارة، سألحق بكما بعد قليل" أجابه بفتور
تركتهما يتناقشان وتوجّهت إلى الأسفل قاصدة الحمام.
ليستوقفني إيّان عند أول السلالم يسألني:
"إلى أين أنت ذاهبة؟؟"
أجبته بخجل: "أحتاج إلى دخول الحمام"
"انتظريني، سآتي معك لأبدل ملابسي"
***
يا الله!! الآن فهمت سبب قلق إيّان عليّ. حدّقت بانعكاس وجهي الشّاحب بالمرآة، عيناي الخضراوتان باهتتان، التعب والإرهاق بادٍ بشكل واضح على ملامحه.غسلت وجهي بالماء البارد علّي أخفف من شحوبه وأنتعش قليلاً .
أغمضت عيوني مستعيدةً ذكرى مماثلة ، ذكريات أحداث رحلتي مع أبي على متن قاربنا. كانت المرّة الأولى والأخيرة حيث اكتشفت وقتها عدم مقدرتي على تحمّل دوار البحر. كم أفتقد أبي واشتاق إليه.
طرق إيّان الباب بخفّة وناداني بصوت قلق:
"نور... نور هل أنت بخير؟"
فتحت الباب لأفاجأ به مرتدياً ثياب السّباحة مستعدّاً للنزول إلى المياه.
أسر إنتباهي منظره الجذّاب والرّائع، لا أجد فيه تفصيلة شاذة، شعره الأسود والكثيف المتناثر على جبهته، عيناه الزّرقاوتان الواسعتان وأهدابه الطّويلة والكثيفة، أنفه متوسّط الحجم والطّول، شفتاه الممتلئتان، أسنانه المصفوفة والنّاصعة البياض، لون بشرته الحنطيّة وطوله وامتلاء جسده المتناسق من ممارسة الرّياضة.
وجدتني أراقبه دون أن أشعر ناسيةً ما أعانيه من دوار فأعادني صوته إلى اللحظة:
"هل أنت بخير؟"
"نعم... أنا بخير" أجبته أحاول رفع شعري وأعقده بمحاولة فاشلة في إلهاء نفسي عنه "هل أنتَ جاهز؟"�فسح لي المجال لأتقدمه معلّقاً " لن أنزل إلى المياه قبل أن أتأكّد من أنّك بخير، هيّا معي إلى الأعلى سأحضّر لك عصيراً يساعد معدتك على أن تهدأ قليلاً"
أجبته متذمرة "إيّان... لا أستطيع شرب شيء. أرجوك، لا تشعرني بأن حالتي أثّرت على سير رحلتنا. إذا كنت تريد إسعادي انزل إلى المياه واستمتع بوقتك مع طلال وسارة، وأنا سأكون سعيدة جداً بمشاهدتكم عن التّراس"
"هاي... هل أنت متأكّدة أنّك لا تريدين النّزول. المياه رائعة ودافئة" نادى طلال من المياه عندما رآني أراقبهم عند حافّة اليخت.
"لا... لن أنزل. سأترك لكم متعة المياه الدّافئة، وأنا سأمتّع نفسي بمشاهدتكم"
يبدو أنّ إيّان تحمّس لمشهد طلال وسارة في المياه إذ سرعان ما نزع عنه كنزته ورماها بجانبي على الكرسيّ وغطس بالمياه.
وقفت أراقبهم عن التّرّاس والتقط لهم الصّور.
طلال يغوص تحت المياه ثمّ يرفع سارة على كتفيه بسرعة إلى الأعلى ثمّ يعود ويرميها إلى المياه فتغوص ثم ترتفع بين ذراعيه من جديد. وإيّان يوتّرني إذ يغوص ويبقى تحت المياه فترة أعجز خلالها عن حبس أنفاسي، ثم أشعر بالارتياح عندما أرى رأسه يطل من تحت المياه".
لا أدري ما الذي يحصل لي. إذ إن ذكرى والدي تطاردني منذ الصباح ربما بسبب رحلتي معه على متن القارب، وجدتني شردت نحو البعيد، أفكّر وأتذكّر أحداث تلك الرّحلة فأعادني صوت إيّان يناديني:
"هاي نور... بماذا تفكّرين؟ تبدين شاردة الذّهن؟ ما الذي يشغل بالك"
خرج من المياه، تناول منشفة، جفف بها وجهه وشعره ثمّ وقف بجانبي مواجهاً المحيط.
"أتشتاقين إليه؟ ... والدك" سألني وهو ما يزال ينظر نحو البعيد، فاجأني سؤاله ، كيف عرف بأني كنت أفكر بوالدي . تنهدّت بحزن مجيبةً
"نعم... دائماً... لقد كان كلّ ما أملك، وبعد أن فقدته شعرت بأنّي وحيدة وعاجزة لا سنَد لي في هذه الدّنيا. أشتاق إلى صوته الحنون وصدره الواسع. لقد كنت دائمة التّذمّر ومتطلّبة جداً. وكان دائماً ما يتفهّمني ويرضيني بطريقته الخاصّة التي كنت أعشقها كثيراً. وفاته كسرت شيئاً في داخلي إيّان. فأنا لم أكن متحضّرة لخسارته، لم أكن جاهزة لها."
أحاط كتفي بذراعه وقال بصوت هادئ فيه شيء من الحسرة والحزن:
"لا أحد يكون متحضّراً لخسارة من يحبّهم ويهتمّ لأمرهم نور، فالموت لا يستأذن ولا يمهل ولا يتردّد، ودائماً ما يترك خلفه قلوباً محطّمة ومنكسرة ومعذّبة"
كلماته حزينة ومؤثّرة وعميقة ذكرتني بأنّه هو كذلك الأمر خسر والديه صغيراً فسألته:
"كم كان عمرك عندما توفّي والداك؟"
" لا أذكر والدي أبداً، توفّي وأنا في الثالثة من عمري"
صمت لبرهة وكأنّه يستعيد ذكريات أحداث غير محبّبة إلى قلبه ثمّ تابع "أمّا أمّي..." سكت للحظات طويلة مردفاً بحزن وآسى عميق " توفّيت أمّي وأنا في السّابعة من عمري"
وجدته يتصارع مع نفسه ليجد الكلمات المناسبة،ربما ما كان يجب أن أطرح عليه هذا السّؤال، إذ يبدو أنّه أعاد إليه ذكريات لا يرغب في تذكّرها. شعرت برغبة جامحةً لاحتضانه والتّخفيف عنه ولكنّي منعت نفسي عن هذه المبادرة لأتنبّه للموسيقى الهادئة التي تعمّ أرجاء اليخت، فسألته دون تردّد أن يراقصني.ناظرني بتساؤل:
"حقّاً! ... تريدين أن ترقصي وأنت بحالتك هذه؟"
أجبته بتعالي:" ألست أنا ضيفة الشرف لهذه الرحلة؟ إذاً يحقّ لي المطالبة برقصة، وأنت لا يحقّ لك الرّفض"
رسم ابتسامة بدأت من شفتيه وانتهت عند عينيه، هذا جيّد، لقد نجحت في القضاء على التّوتّر والجو المشحون الذي خلقناه منذ قليل. أعاد ارتداء كنزته ، أعطاني يده وقال:
"أمراً وطاعة يا آنستي الجميلة"
وبتردد وضعت يدي في يده مقتربةً منه ، مرتبكة،جاهلةً للخطوة الثانية المطلوبة ، فانتظرت منه المبادرة.
ضحك بسلاسة، قرّبني إليه واضعاً ذراعه اليمنى حول كتفي واليسرى عند أوسط ظهري، وأنا احتنضته بخجل، ألقيت برأسي على كتفه وأغمضت عيني ورحنا نتمايل على نغمات الموسيقى الهادئة.
هذا رائع، وأخيراً أنا بين ذراعين إيّان كرم ، أشعر بدفئه وحنانه. كم من المرّات تمنّيت وتخيّلت نفسي قريبة هكذا منه، ولكن ما أشعر به الآن يفوق كلّ توقّعاتي وأحلامي التي كنت أتخيّل الشّعور بها لو كنت بين يديه، إحتضنته بتملك لأشعر بعضلات ظهره تتقلص تحت أصابعي،تنحنح يحاول خلق مسافةً بيننا لكنّي تمسكت به بعناد لأسمعه يتمتم :
"أطلبي مني التوقّف في حال شعرت بالتّعب، لا أريد أن تزيد حالتك سوءاً"
أجبته بتكاسل " أنا بخير، لم أتخطّى بعد الخطّ الأحمر لحالتي، ما زلت في المنطقة الصّفراء، حالة التأهب"
" كلامك هذا لا يطمئن"
"حالتي الآن تُعد أكثر من رائعة مقارنة مع المرّة الماضية حيث قضيت معظم وقتي في الحمّام"
"لِمَ أشعر بأنّك ستعجزين عن رفع رأسك عن كتفي إذا سألتك ذلك".سألني متحديّاً
"أرجوك توقّف عن الكلام ودعني أستمتع باللحظة"
توقف عن الحركة وسألني بريبة« الاستمتاع بماذا بالتحديد؟؟»
« آه إيّان ، الكلام يزيد حالتي سوءً »تذمرت ببراءة تامّة
تنهّد عائداً إلى مراقصتي ، أشعر به يحاول خلق مسافة بيننا، ولكنّه بذات الوقت لا يريد كشف نيّته لي ، وأنا إدعيت البلاهة التامّة مندسةً بحضنه .
إنه لا يشعر بي، ولا يريد أن يشعر بي ، يصّر على معاملتي كطفلة مسؤولاً عن رعايتها ، لا يبخل على بالعطاء والاهتمام ولكنّ لكل شيئ حدود عنده ، وحدود إيّان هي إقترابي منه بأي طريقة ، لطالما عاملني بجفاء تام مغلقاً أمامي كل الأبواب إلى قلبه ومشاعره ، غامض بارد وقاسي ، وبذات الوقت حنون ودافئ .
شعوري إتجاهه فريد وقوي ، لا أملك مثيله لأحد ، ولا أعتقد بأني سأملك لغيره .
خرج طلال وسارة من المياه يناديان قاطعين عليّ متعتي المؤقته ، موقنةً بأنها لن تتكرر قريباً :
"هاي... أين أنتما.. لقد جُعنا، سنبدأ بتحضير الطّعام"
وكأنّ هذا ما كان ينتظره إيّان ليبعدني عنه حاولت رفع رأسي عن كتفه موقنةً بأني في اللحظة التي سأرفعه فيها وأفتح عيناي ستسوء حالتي، فتركت مكاني راكضةً نحو الأسفل ناشدة الحمّام.
بدأت معدتي تعتصر نفسها بمحاولة فاشلة لإخراج محتواياتها ، فأنا لم أشرب أو آكل شيئاً منذ ركبنا اليخت وهذا أمر جيّد نظراً لحالتي هذه.
"هل أنت بخير؟" أتى صوت إيّان القلق من خلفي، يبدو أنّني نسيت أن أغلق باب الحمام خلفي.
"آ،إيّان... أرجوك اخرج... أخرج. لا أريدك أن ترى هذا"
أشرت له بيدي من وراء ظهري بأن يرحل، ولكنه بدل الرحيل اقترب مني جاثياً بجانبي على الارض ،رفع شعري عن وجهي وخاطبني بحنان :
"اهدئي... سيكون كل شيء على ما يرام. سنعود حالاً إلى الشاطئ، تعالي معي. فأنت لم تأكلي شيئاً منذ الصباح، لن يخرج شيء من معدتك"
ساعدني على النّهوض متوجّهاً بي إلى غرفة النّوم، إستلقيت على السرير لأتنشق رائحته على الوسادة ،لتعتصر معدتي نفسها من جديد، نزع حذائي برفق واختفى.
سمعته يتحدّث إلى سارة وطلال في الخارج، ثم عاد بعد قليل يحمل وعاءً فيه ماء. أعطاني حبّة دواء مع كوب ماء ثم انتشل قطعة قماش من الوعاء، عصرها قليلاً ووضعها على جبهتي رائحتها منعشة، يبدو أنّه وضع في الماء قطعاً من الليمون الحامض.
وبحركة متقنة حنونة شرع يمسح وجهي وجبهتي بقطعة القماش " ستكونين بخير.. أعدك. حاولي أن تنامي سيساعدك النّوم على تخطّي الدّوار إلى أن نصل".
جلس بقربي على السرير يداعب خصلات شعري برفق إلى أن غلبني النّعاس فغرقت في النّوم حيث تلاشت على أثره بوادر التّعب والإرهاق وما عدت أشعر بشيء سوى تمايل اليخت وهو يشقّ طريقه بين الأمواج نحو الشّاطئ.
***
لا أدري لكم من الوقت غفوت إذ عندما استيقظت كان الظلام يحيط بالمكان وسمعت إيّان يقول:
"تبدو مرهقة جداً. أأوقظها كي تأكل شيئاً ما، أم أتركها نائمة حتى الغد"
وإذ به يحاول أن يحملني،فتحت عيناي بتكاسل وإرهاق لأجد نفسي نائمة في السيارة بدل اليخت، لم أشعر بالوقت ولا حتى بالمكان. يبدو أنهم نقلوني دون أن أشعر.
"هاي... هل استيقظت؟ كيف حالك؟ أتشعرين أنك قادرة على المشي، أم أساعدك في الدخول؟" سألني إيّان بصوت هادئ وحنون.
حاولت رفع رأسي والاستقامة من وضعيتي فعجزت.
"يبدو أنها ما تزال تعاني من الدوار" قال طلال "أأساعدك في إدخالها إلى المنزل"
وضعت يدي على رأسي ضاغطةً بشدة، يا الله، الألم رهيب.
"أنمت كل هذا الوقت؟ كيف لم أشعر بذلك؟" سألت وأنا أخرج من السيارة مترنحة فإستندت إلى السيارة أحاول إستعادة توازني.
"تعالي" حملني بين ذراعيه قائلاً " ما زلت غير متوازنة، سأوصلك إلى غرفتك"
أحطتُّ عنقه بذراعي ملقيةً برأسي إلى كتفه بدون تذمر ، سعيدة بقربه وإهتمامه .
صعد بي مباشرة إلى غرفتي، وضعني على حافة السرير ثم توجه إلى غرفة الملابس خاصتي. ماذا يفعل في خزانتي؟؟ غاب لدقائق ثم عاد يحمل بيجامتي.
خطفتها من يده محرجةً من فعلته إذ قلّب للتوّ أدراج ملابسي الداخلية، أما كان بإمكانه سؤالي أن أحضرها بنفسي؟؟!!
دخلت ليلى في هذه الأثناء والقلق بادٍ على وجهها فقلت لها مُطَمْئنةً:
"أنا بخير ليلى ... لا تخافي، فإيّان يغالي في قلقه"
"لست أغالي، ولكني حذر، لا أريدك أن تقعي وتؤذي نفسك بسبب الدوار"
"أرجوك ليلى، ساعديها على دخول الحمام وتبديل ملابسها. لا تتركيها إلا وهي نائمة في سريرها. وأنا سأنزل لأحضّر لها شيئاً تأكله."
"لا أريد... لا أريد أن آكل، ما زلت أشعر بالغثيان، أريد فقط تبديل ملابسي والعودة إلى النّوم."
ومأ برأسه يتلفت حوله وكأنه يتأكد من حسن حال كل شيئ حوله ثم قال:
"حسناً كما تشائين. أنا في غرفتي إذ احتجت لشيء ما. اتصلي بي أو بليلى اتفقنا". ثم خرج مغلقاً الباب وراءه.
أووف، إنه مجرد دوار وغثيان، ماذا يحصل معه؟ لم كل هذا القلق؟
حسنا إنه شعور جميل أن أكون محطّ اهتمام الجميع من جهة، ولكن من جهة ثانية أشعر أحياناً أنّه يخنقني من شدّة اهتمامه وخوفه عليّ.
************ْ*
يبدو أن هذه الليلة لا تريد أن تنقضي، فالساعة تتقدم ببطء شديد وكأنّها الرابعة صباحاً منذ دهرٍ مضى. لم أعد أشعر بالدوار والغثيان ولا حتى النّعاس ولكن الجوع الشديد بدأ يتملّكني. تسللت إلى المطبخ وصنعت لنفسي شطيرة من حواضر الثلاجة وعندما انتهيت رحت أتجوّل في أرجاء القصر، الكلّ نيام، ماذا سأفعل بوقتي حتّى يحلّ الصّباح... نعم... وماذا أفعل في مثل هذه الظروف، غير التسلل إلى غرفة إيّان ومراقبته نائماً. هذه المرّة لن أغفو بجانبه أنا متأكّدة.

أنت تقرأ
فى ظلال الماضى لكاتبة أمل القادرى
Roman d'amourمقدمة الكتاب أكّد فرويد أنّ شخصيّة الإنسان يحدّدها ويصنعها ماضيه وحاضره ومستقبله. لذا لا حاضر بلا ماضي ولا مستقبل بلا ماضي ، حيث أنّ للماضي أهمّيّة كبيرة وجذرية في نحت شخصيّة الإنسان وصنعها وصقلها ودفعها إلى الحاضر. ومن هنا تأتي أهمّيّة الطّفولة حيث...