الفصل الثامن

785 22 0
                                    

الفصل الثامن

لا أعرف ما الذي يحصل معي هذا الصباح أفكاري مشوّشة وكأنّي عشت البارحة كابوساً طويلاً. رأسي يؤلمني وأشعر بجوع وعطش شديد.
وضعت ليلى الفطور أمامي وعادت تعمل:
" أين الجميع، أما زالوا نياماً؟" سألت ليلى وأنا أقضم طعامي.
" أنت آخر المستيقظين، إيّان وطلال استيقظا باكراً، إنّهما في صالة الرّياضة "
" وكاتي، أين هي؟ "
" كاتي رحلت البارحة، أخذت حقيبتها ورحلت مع إيّان، ولكنها لم تعد معه، بل انت من عاد معه "
" أنا عدت معه !؟ " سألتها بتعجّب، لم لا أستطيع تذكر كل ما حصل البارحة؟ أذكر... نعم أذكر شجار آدم وإيّان والإحراج الذي سببته لنفسي، ولكن ما لا أذكره هو الذي حصل بعد ذلك. كيف انتهى بي المطاف مع إيّان؟ هذا يعني أن ما سمعته البارحة وأنا نائمة في سريري ليس حلماً، أيعقل هذا؟ لا، لا أظنّ ذلك.
" أين نام إيّان البارحة؟ ليلى "
رفعت حاجبها مستغربة سؤالي وقالت وهي تعيد بعض الأغراض الى الثلاجة:
" وأين سينام، في غرفته طبعاً "
" هل أنت متأكّدة ؟ "
" ولم تسألين؟ بالطبع انا متأكدة، لقد رتّبت سريره صباح اليوم "
كيف سأتأكّد أن ما حصل البارحة حلم أو حقيقة؟ عليّ أن أتأكّد من ذلك. تركت المطبخ متوّجّهةً نحو صالة الرياضة، إنّها في الطابق السفلي للقصر وتحتل مساحة واسعة من أرضيّة القصر وتضمّ مسبح شتوي داخلي وغرف حمّامات البخار.  
سمعت صوت طلال لحظة أصبحت على مقربةٍ من الصالة وهو يقول بعصبيّة " لم كلّ هذا العناد؟ إنَّها زوجتك يا رجل،كمّ مرّة سأقولها لك؟ ما حصل بينك وبين نايا، لا يشبه أبداً ما يحصل الآن بينك وبين نور، اقتنع أرجوك. عنادك هذا سيضيع الفتاة من بين أيدينا على غفلة منّا "
ما الذي يحصل؟ ومن هي نايا؟ إنه يتحدّث عنّي. اختبأت وراء الباب علّي أسمع شيئاً ما يجعلني أفهم الذي يحصل.
ردّ إيّان بنفس عصبية طلال " لا أستطيع، لا أستطيع تصوّر نفسي معها، إنها طفلة ، طفلة لا تفهم شيئ من هذه الامور ، ستكرهني عندما تكبر وتعي ماذا فعلنا من وراء ظهرها ، إنّها تعذّبني ولا أعرف كيف أتخلّص من شعوري إتجاهها، لو كنت استطيع أن أعيش من دون هذا القلب لنزعته ورميته علّي أتخلص من حبّي لها وأرتاح من عذاب الضمير "
أنا الآن ضعت، عن من يتحدّث؟ عنّي أو عن نايا؟ من هي التي ترهقه وتعذبه؟ يا الله !! تحدّث بوضوح علّي أفهم ما تقوله.
ردّ طلال عليه لكن هذه المرّة بهدوء " لن أتخلّى عنها إيّان. نور بحاجة إليّ وإذا اضطررت للاختيار فسأختار مساعدتها عليك أتفهمني، وعندها ستخسر فرصتك الوحيدة للعيش حياة طبيعيّة كسائر البشر. سآخذها بعيداً عنك. لذا عليك الاختيار وسريعاً. ما عدت أتحمّل لعب دور المتفرّج وأنا أراها تتعذّب وتؤذي نفسها من أجلك ... أتعرف ما الذي دفعها لتقبيل آدم؟ لترى نفسها ما إن كانت قادرة على منح قلبها وحبها وجسدها لرجل آخر غيرك ولكنها عجزت عن ذلك إيّان، عجزت "
" أوتظن نفسك قادراً على حمايتها؟ أين كنت البارحة وهي ترمي بنفسها بين أحضان رجل غريب؟ وكيف سمحت لها أساساً بالخروج من المنزل بما ترتديه؟ هيا أجبني "
" هل سمعت ما قلته لك إيّان؟ هل سمعت ما قلته عن سبب تقبيلها لآدم؟ أم أنّك ستتغاضى عن هذه المصيبة أيضاً؟ "
إنتفضت فزعةً شاهقةً ،على صدى صوتاً قويّاً وكأنّ أحدهم لكم طاولة أو شيئاً خشبيّاً بقوّة.
يا الله!!! لا أريدهما أن يتشاجرا بسببي. إنّها المرّة الأولى التي أسمعهما يتجادلان فيها  بهذه الطريقة.
لأسمع إيّان يصرخ بأعلى صوته:
" وماذا تريدني أن أفعل؟ أخبرني؟ أعطني حلاًّ؟ "
" أنت تعرف الحلّ إيّان إنّه بيدك "
" لا أستطيع، حاولت وعجزت، إنّها طفلة يا رجل، لا تفقه شيئاً من هذه الحياة سوى محيطها. والذي حصل البارحة أكبر دليل على ذلك "
" إنّها ليست بطفلة ،وتفقه أكثر منك، على الأقلّ هي تحارب من أجل ما تريده. إلى متى سيبقى شبح نايا يلاحقك؟ "
" لا أريد التحدث بهذا الموضوع بعد الآن، ارحل طلال، ارحل من هنا لا أريد رؤيتك "
" سأرحل إيّان، ولن أعود، لنرى ماذا ستفعل وحدك. وكيف ستتدبّر أمورك معها أثناء غيابي؟ "
تلفتُّ حولي برهقة لحظة سمعت صوت خطى قادمة نحوي، تفقّدت المكان حولي، أين سأختبئ؟ لكن قبل أن أقرّر وجدت طلال أمامي، تفاجأ عندما رآني ولكنه لم يعلّق على فعلتي، بل تخطّاني وظلّ صاعداً إلى الأعلى.
لحقت به أناديه: " طلال، طلال أرجوك لا ترحل، لا تتركني هنا وحدي "
أجابني متابعاً سيره " إنّه للأفضل نور، سأرحل لفترة وأرى كيف سيتعامل معك إيّان "
سألته راجية " أرجوك، لا أريدك أن تتشاجر معه بسببي. أنتما أصدقاء طفولة ويجمعكما تاريخ بأكمله، لا أريد أن أكون سبباً في افتراقكما "
وقف مستديراً نحوي، عاد إليّ بخطى واسعة ، ملامح وجهه حنونة ومطمئنة ثم قال: " لا تخافي، أنا وإيّان لن يفرّقنا شيء في هذا العالم. أنا فقط أحاول مساعدتكما ولكنّي ما عدت أعرف كيف، نفذت منّي كل الوسائل. سأعود عندما يهدأ الوضع قليلاً،لا تخافي فأنت هنا بأمان وإيّان ... ..."
سكت ... نظر إليّ بأسف وكأنه يريد قول شيئاً ما وتراجع عنه :
" لن أغيب طويلاً، اتفقنا، انتبهي الى نفسك والى ذلك العنيد؟ عناده يزحزح الجبال. على الأقلّ هذه نقطة تشابه بينك وبينه، يجمعكما عناد رهيب يرهقني ويتركني عاجز عن التعامل معكما. "
رميت نفسي بين أحضانه وقلت له وأنا أحاول كبت دموعي: " أنت صديق وأخ رائع طلال، أحبّك كثيراً كثيراً "
أحاطني بذراعيه بتردّد ، ضغط على جسدي بخفّة مطلقاً تنهيدة طويلة ، ابعدني عنه ، درس ملامحي لفترة وقال "أنتما أهم شخصين في حياتي نور، ومستعد لفعل أي شيء لأجلكما " ابتسم ابتسامة باردة ثم حررني  وقال" دعيني أرحل الآن "
لحقت به وأنا أقول " ومن سيقلّني الى الجامعة غداً؟ "
ضحك قائلاً وهو يشق طريقه الى جناحه  "سنتدبّر أمر هذه المسألة غداً لا تقلقي "
عدت أدراجي إلى صالة الرياضة مصرّة على مناقشة بعض الأمور مع إيّان، لقد سئمت السكوت وأحتاج إلى بعض التفسيرات والأجوبة. دخلت إليه لأجده مرتدياً ثياب الرياضة وقفّازا الملاكمة في يديه يلكم عامود الملاكمة بقوّة شديدة.
وقفت قبالته شابكةً ذراعيّ حول صدري منتظرة إيّاه أن يتوقف عن لكم العامود ويعطيني انتباهه، لكنه إستمر بتجاهلي رمقني بنظرة عابرة باردة وعاد يركز فيما يفعله.
بعد مرور عدّة دقائق نفذ صبري منه فصرخت به:
" هلا توقفت، أحتاج إلى التحدث اليك "
أجابني يلهث أنفسه بعمق" ماذا تريدين؟ ألا ترين أني مشغول؟ "
وضعت يدي على خصري وأجبته بعناد " أريد التحدث معك الآن "
لم يتوقف عن لكم العامود وكأنه يصب جمام غضبه عليه وقال:
" اذهبي نور "
لن أستسلم، لن أتركه قبل أن أتحدّث معه، تفقدت المكان حولي علّي أجد شيئاً أجذب به انتباهه إليّ ،فوجدت قفازين آخرين معلقين على الحائط بجانب معدّات الملاكمة، لبستهما وعدّت اليه أشعر وكأنّي أحمل كتلتين ضخمتين.
" أما زلت هنا؟ " سألني عندما رآني أقف أمامه من جديد، ثم انتبه الى ما ألبسه في يدي، فرفع حاجبه وقال متعجباً " ماذا تفعلين؟ "
لكمت يداي ببعضهما البعض وقلت بمرح " أريد ملاكمتك "
توقف عن لكم العامود يراقبني بطريقة غريبة لم أستطع تفسيرها، لألاحظ إبتسامة خجولة على شفتيه وكأنه يحاول جاهداً إخفائها عنّي بقي لفترة يراقبني إلى أن هدأت وتيرة أنفاسه فابتعد عن العامود واقفاً أمامي واضعاً يديه في وضعيّة الدفاع أمام وجهه وقال:
" حسنا أرِنِي ما لديك "
أجبته بحماس: " حقاً ! أين؟ فأنا لا أريد أذيتك "
ضحك مسترسلاً: " لا تخافي، لن تؤذيني لكمتك ... أينما تريدين، هيا "
ضحكته هذه سلبت أنفاسي فأنا نادراً ما أراه يضحك إنّه شعور رائع أن أعرف بأنني قادرة على إضحاكه، وضعت كل قوتي بذراعي اليمنى ولكمت باتجاه كتفه الأيمن، لم يتحرّك لأثرها. شعره رطب والعرق يتصبب من جبهته وعيناه تشعان بريقاً آخاذاً جعلا قلبي يقفز من مكانه.
" أهذا كل ما لديك؟ هيا اضربي بكل قوتك؟ "
أعدت الكَرّة مرّة، مرتان وعشر، انقطعت على إثرها أنفاسي وتجمدت الدماء في يدي وهو ما يزال صامداً أمامي والبسمة تعلو وجهه مستمتعاً بما يحصل.
" حسنا هذا يكفي " قال ينزع قفازيه،
فك وثاق قفّازي. وبحركة مفاجئة ثبّت ذراعي خلف ظهري ملصقاً جسدي بصدره، همس قرب أذني ضاغطاً على معدتي بقوّة ، شهقت متفاجئة من حركته تلك مستكينة بين ذراعيه مغمضةً عيناي أستمع إلى همسه الذي قلّص معدتي وقبض على قلبي بطريقة شهية مؤلمة.
"عضلاتك ضعيفة جدّاً، لذا إذا اضطررت يوماً ما لاستعمال العنف، عليك التصرّف بحنكة للتغلب على خصمك، وليس قوّة عضلاتك. هذه المنطقة " بسط كفّه ضاغطاً على معدتي مسبباً عجزي عن أخذ أنفاسي المتسارعة مسببةً تزايداً ملحوظاً بدقات قلبي  " إنها حساسة جدّاً، وإذا سددت ضربتك بمرفقك، إنه أقوى من قبضتك ستوقعينه أرضاً من شدّة الألم "
أدارني نحوه، لأقابله ،جسدي ملتصق بجسده الرطب، رائحته مزيج من عطر صابون الاستحمام ورائحة عرقه. رفعت بصري إليه لتّتّحِدُ نظراتنا الغائمة ، أمسك بيدي واضعاً إيّاها على معدته وجعلني أتلمس حدودها وقال " هنا بالذات "
وجودي قربه هكذا أصابني بدوار شديد، وكأنّ كل أعضاء جسدي بدأت تعمل على هواها دون رقيب أو حسيب لترتفع حرارة الغرفة مسببةً تعرّقي الشديد.
سنتيمترات هي المسافة التي تفصل بين وجهينا، والسؤال الوحيد الذي خرج من فمي في هذا الموقف هو:
" لمَ أنت خائف منّي؟ "
عقد حاجبيه بتساؤل " ماذا تعنين؟ ولم أخاف منك؟" حرّرني من قبضته مبتعداً عني بضع خطوات.
" أرجوك، لا تجب على سؤالي بسؤال آخر، لقد سمعتك تتحدّث الى طلال، أنت خائف من أن أكون مثل نايا. من هي نايا؟ هل هي المرأة التي جرحتك وآذتك وجعلتك لا تؤمن بالحب؟ أنا لست مثلها إيّان، ما كنت لأجرؤ أبداً على أذيتك "
استدار مبتعداً عني أكثر موارياً ملامحه عنّي، أخذ المنشفة يجفف فيها عرقه ثم ألقاها على كتفه وسألني بتوتر واضح في صوته:
" أين كنت؟ وماذا سمعت؟ "
" أنا آسفة، لم أتقصد، كنت قادمة للتحدث إليك فسمعتك تتحدّث إلى طلال، لم أخطط للأمر. سمعتك تتحدّث عن نايا وعن خوفك من أن أكون مثلها. أنا أحبك إيّان ولن أؤذيك أبداً مهما كان السبب أرجوك صدّقني"
" لقد أسأت فهم الموضوع نور، أنا لست خائفاً منك، وأنت أبداً لا تشبهين نايا، حاشاك أن تكوني مثلها " 
"إذاً، لماذا تتهرب منّي ؟ أنا لا أفهم شيئاً، ساعدني أرجوك ودعني أفهم ما الذي يحصل. إذا كنت لا أذكرك بنايا، لماذا ترفضني بسببها؟ "
" كفى نور، لست مضطراً لتبرير نفسي أمامك، لقد سئمت من التحدث حول هذا الموضوع مراراً وتكراراً . وانسي ما سمعته لأنه ليس كما فهمته أبداً "
" وأنا سئمت منك ومن مكابرتك ونكرانك، لقد أتعبتني. هل تذكر ما قلته لي البارحة في غرفتي وعلى سريري؟ "
تفاجأ من كلامي وكأنه لم يكن يتوقع منّي تذكر ما حصل البارحة عندما وضعني في سريري واستلقى بجانبي الى أن غفوت.
"وماذا حصل البارحة؟ لقد كنت ثملة ولا أعتقد بأنك كنت قادرة على تمييز الحقيقة من الخيال"
سكتّ لبرهة محاولة استجماع أفكاري، أنا لا أذكر كل شيء بالتفصيل ولكني متأكدة مما سمعته، قلت وأنا أحاول أن أثبّت صوتي كي لا يشعر بعدم ثقتي مما أقوله:
" لقد قلت أموراُ كثيرة لم أفهم معناها أو قصدك منها، ولكن ما فهمته من فحوى كلامك، أنك خائف منّي، وحبك لي يعذبك ويرهقك. لم ؟ أجبني؟ " اقتربت منه أكثر محتضنةً وجنتيه بين كفي " أنا لست سيئة إيّان، صدقني أرجوك، وكل ما فعلته سابقاً هو بسبب يأسي، وحبي لك. لم أتقصد تقبيل آدم أو شرب الكحول أو أي من الأمور السيئة التي قمت بها "
مرّر يده بشعره بعصبيّة وقال:
" أرجوك افهميني، أنا لست خائفاً منك، أنا خائف من نفسي عليك. لا أريد أذيتك. لن أتحمل نفسي ان تسببت لك بالأذى نور "
فاجأني جوابه، لم أتوقعه، سألته مستغربة:
" لم أنت خائف من نفسك عليّ؟ أنا لا أفهمك "
"هناك أسباب عديدة نور. أولا: أنت مازلت صغيرة وبلا تجارب لتميّزي حقيقة مشاعرك. وثانياً، أنا لا أستطيع استغلال جهلك لهذه الأمور لصالحي. أنا لست كذلك "
أخذت بكفّه وقربتها من صدري بقصد جعله يشعر بنبضات قلبي التي تتخبط في صدري.
" أنا واثقة من مشاعري إيّان، لقد أحببتك منذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها ومشاعري تجاهك لا تشبه أية مشاعر عشتها أو جربتها في حياتي ... و ...."
قاطعني قائلاً: " هذا لأنه لا خبرة لك في هذا المجال. ما تشعرين به الآن يمكن أن تكتشفي لاحقاً أنه ليس حبّاً، بل حاجة الى الاهتمام. خاصة بعد أن عانيت من فقدان والدك وخسارة عطفه وحنانه "
يا الله!!! عنده جواب لكل حجة أقولها, ضغطت على يده بخفة على صدري وقلت:
" أرجوك إيّان، لا تأخذ هذا المنعطف. لم تستخف بنفسك ولا تثق من أنك تستحق بأن تحب وتُحَب؟؟ "
جذب كفّه من قبضتي ، مررّها بين خصلات شعره بعصبيّة، أخذ نفساً عميقاً وقال:
" آه يا نور، لا أعرف ماذا سأفعل بك، عنادك يرهقني "
" إذاً توقف عن مقاومة حبك لي، أرجوك اقبل بالأمر الواقع ترح نفسك وتريحني "
هز برأسه يتحاشى مواجهتي .
" يا ليت المسألة بهذه السهولة، لكنها ليست كذلك. أنت عزيزة الى قلبي كثيراً، لا أريد أذيتك نور. أنا لا أضمن لك الحالة التي سأكون عليها غداً إذ لا أنكر أنك تجذبينني إليك كثيراً وأكنّ لك مشاعراً ورغبة تخيفني. أخاف من أن تتلاشى هذه المشاعر بعد فترة من علاقتي بك فأخسر نفسي وأخسرك
وبعد كل هذا سأكون قد آذيتك ودمرت أحلامك ومستقبلك بسبب رغبة اعترتني تجاهك. "
أخذ بيدي وقرّبها الى قلبه وقال: " أتشعرين به؟ أتشعرين بهذا القلب السقيم؟ إنّه غير قادر على الحبّ، غير قادر نور. أنا لا أستطيع إسعادك أو أن أكون حبيباً وزوجاً وأباً. لا أريد أذيتك، لا أريد إشباع رغباتي منك ورميك لاحقاً. أنت تستحقين أفضل مني، رجلاً نقيّاً، صالحاً ويستحقك. وأنا لست أي من هؤلاء نور. لذا أرجوك، دعك مني "
أبقيت يدي على قلبه حيثما وضعها، أشعر بنبضاته تتخبط في صدره. إنّه مجروح ومعذب ولكنه أبداً ليس كما وصف نفسه. إنّه نقي وصالح وبكل تأكيد يستحقني. ضحكت ولا أعرف لماذا،قلبي ضحك وروحي ضحكت وعيوني ضحكت وهو يراقبني بعينيه الزرقاوتين الفاتنتين الكاسرتين وقلت:
" أنا الآن تأكدت من أنّك تحبني، تحبني أكثر من نفسك، لدرجة أنك مستعد لتضحي بسعادتك ورغبتك تجاهي خوفاً من نفسك عليّ. إيّان كرم، مهما فعلت ومهما قلت، ومهما كان السبب، ورغماً عنك، أنت تحبني وأنا أحبك ولا شيء تفعله يستطيع إقناعي بعكس ذلك "
هزّ برأسه يحاول إنكار كلامي " نور، رغم كل هذا ، أنا لست لك ، وأنت أبداً لن تكونين لي "
أغمضت عيوني عاجزة عن تحمّل رفضه لي، إنّها النهاية، نعم، لقد تعبت وما عدت قادرة على محاربة رفضه وجعله يستسلم. حتّى أنّي ما عدّت أريد المحاربة بعد الآن. أستسلم. وهو بدوره جلس على حافّة آلة رفع الأثقال حاجباً وجهه بكفيه محاولاً احتواء ما يختلج بداخله.
هناك حلّ وحيد لهذه المشكلة وهو رحيلي عن هذا المنزل، محاولة نسيانه والبدء حياة جديدة بعيداً عنه وعن كل ما يذكرني به. عندما تأكدت بأني قادرة على الكلام سألته وأنا أحاول تثبيت صوتي ليبدو واثقاً:
" أريدك أن تسلّمني حصّة والدي وأمواله بأسرع وقت ممكن "
رفع بصره الي ، متفاجئاً من طلبي:
" لم؟ أتحتاجين الى المال؟ فأنا أحول لك مبلغاً شهرياً وأراقب مصاريفك، مازال هناك مبلغاً وفيراً في حسابك"
" أريدك أن تعطيني حصّة والدي وأمواله، لأني أريد الرحيل من هنا. أحتاج الى الرحيل إيّان. لن نستطيع الاستمرار هكذا، فوجودنا في نفس المكان ورؤيتنا لبعض كل يوم لن يسهل علينا تخطي مشاعرنا. وأنا أحتاج الى البدء من جديد،  بعيداً عنك وعن كل ما يذكرني بك "
وقف من مكانه يتلفت حوله حائراً بما يجيب :
" إذاً أنا سأرحل. ابقي أنت هنا وأنا سأجد مكانا أبقى فيه بعيداً عن هنا وعنك "
فاجأني حلّه، يريد ترك منزله بأكمله لي، كي لا أرحل. ما قصته هذا الرجل؟ أولا طلال ترك المنزل وتركني والآن هو مستعدّ لترك هذا القصر بأكمله لي أنا وحدي ولكنه ليس الحلّ المناسب، فأنا مازلت محاطة بكلّ ما يذكرني به وبحبّي له.
رمقته بإستغراب وتساؤل لأجده يراقبني بفضول منتظراً ردّي على اقتراحه :
" هذا الحلّ لا يناسبني إيّان. أريد الرحيل بعيداً عنك وعن كل ما يربطني ويذكرني بك. هذا منزلك ويحمل كل ذكرياتك، لن أقبل أن أبعدك عنه. أرجوك، جهز الأوراق اللازمة لاستلام حصّة والدي بينما أنا أرتب أموري للرحيل من هنا. "
بدت علامات العجز على وجهه، نفس الملامح التي رأيتها عندما قبّلني في غرفته، الألم والعجز والندم نفسه وكأنه لا يعرف ماذا يفعل أو كيف يتصرّف ولكنه بكلّ تأكيد لا يريدني أن أرحل. أمسك بذراعي وقال بصوت عاجز:
" أرجوك نور، أعرف بأنّي لا أستطيع إجبارك على البقاء هنا ولكنّي أرجوك أن تبقي، سأفعل أي شيء من أجلك ولكن لا ترحلي لا تتركي المنزل وترحلي "
ما الذي يحصل معه، أنا لا أفهم ما يدور في باله
" ما قصّتك إيّان؟ لم لا تريدني أن أرحل؟ بالعكس، رحيلي سيخدمنا نحن الاثنين معاً. طالما أنك لا تريدني، لم أنت مصرّ على بقائي هنا؟ أنا لا أفهمك "
مرّر يده على ذقنه بعصبية يتلفّت حوله بحيرة وكأنه يحاول عبثاً تذكر شيء ما أو إيجاد الكلمات المناسبة لقولها ثم عاد بنظره اليّ وقال بصوت رزين وبجدّية تامّة:
" لن ترحلي إلى أي مكان نور، أنت لست جاهزة بعد للعيش وحدك وتحمل مسؤولية نفسك وإدارة أعمال والدك، أنا المسؤول عنك وأنا أقرر متى تصبحين جاهزة لذالك "
أهذا ما توصل إليه بعد كل هذا، أن يمنعني عن الرحيل. شعرت بالدماء تفور في عروقي وبغضب شديد من كلامه فأجبته حانقة:
" سأرحل إيّان، لا تستطيع إجباري على البقاء. أنا الآن فوق السن القانونية وأنت مجبر على إعطائي ما لي عندك وتركي أرحل.
أوتعرف أمراً، سأترك المنزل اليوم، لن أبقى هنا ولا حتى لدقيقة إضافيّة. تحدّث الى محاميك، أريد استلام أموالي بأسرع وقت.أنت لست مسؤولا عني ولا شأن لك بي ولا بما أفعله "
" أنت مخطئة جداً ، أموالك تلك أنا المسؤول عنها ومن دونها لن تستطيعين الرحيل إلى أي مكان "
صدمني كلامه ، هل هو جاد ، اسيسرق ورثتي من والدي ويمنعني عنها ، أيعقل أن يفعل ذلك ، أيعقل أن يوقعني والدي بهكذا مأزق .
" أنت لست جادّاً اليس كذلك،أنت قلت لي بأنك ستسلّمني ورثتي حالما أكمل الثامنة عشرة"
كتّف ذراعيه عند صدره يجيب ببرودة تامّة مستلماً زمام الامور من جديد "لقد غيّرت رأي ، لن أعطيك شيئ "
وقفت أمامه عاجزة ، صامته ، أحدّق به ببلاهة تامّة ، لأشعر بضغط شديد برأسي ، إقتربت منه بخطى سريعة واقفةً بوجهه مرددةً " مع كل هذا سأرحل، حتى لو تحتم علي أن أجوع وأتشرد ولا أَجِد مكان أنام فيه سأرحل ،ولن أعود إلى هذا المنزل أبداً ،ولا أريد لأي شيئ أن يربطني بك"
أنهيت جملتي وإستدرت موليةً إيّاه ظهري متوجهةً نحو الخارج بخطى بطيئة مترددة، فقدماي ترتعشان من شدّة التوتر والغضب والألم، إنها النهاية ، وأنا لن أسامحه أبداً على فعلته تلك ، لن أسامحه ، شهقت شهقةً مكتومة ، لا أريده أن يراني أبكي ،لا أريده أن يرى الالم بعيني، وما لبثت أن وطأت قدمي عتبة المدخل حتى شعرت بذراعه تجذبني نحوه بإندفاع .
شهقت مصدومة مصطدمةً بصدره الصلب رفعت بصري اليه بنيّة تأنيبه لألاحظ نظراته الثائرة وأنفاسه الغير متناسقة وقبل أن أفتح فمي لأعترض على فعلته وجدتني بين ذراعيه تحتضناني بقوه، وفمه يجتاح فمي بشراهة.
أغمضت عيوني مستلذّةً من قربه وملاماساته ليحررني بعد لحظات قليلة مطلقةً تنهيدةً طويلة مردداً بألم واضح بنبرة صوته لاثماً أعلى رأسي:
"أنا أسف ، أسف ، أعتذر لك عن كل ما مضى وأنت إيّاك وتكرار فكرة الرحيل من هنا فهمت ، هذا منزلك ، وأنا وأموالي كلنا تحت أمرك ،ومن المستحيل أن أمنعها عنك ، أبداً"
احتضنته بشدّة ، لا أصدق ما يقوله ، هل أنا أحلم أم إيّان أخيراً إستسلم لمشاعري نحوه وقبلها " أبداً لن أتركك، طالما أنت تريدني بقربك لن أتركك إيّان ،أحبك كثيراً ولا أقوى على فراقك".
***
تركني إيّان وذهب الى غرفته ليستحمّ وأنا دخلت غرفتي لأراجع بعض المحاضرات ليوم الغدّ... أشعر بالسخافة، إذ عيناي تحدّقان بشاشة الحاسوب وعقلي يفكّر به . لا أستطيع التركيز على الدرس، أشعر بالسعادة العارمة والراحة. وأخيراً قبل بي واستسلم لمشاعره نحوي، أعرف بأنّه أمامنا طريق طويل ولكن على الاقل تخطينا المرحلة الاولى بسلام ، تنهدّت براحة وفرحة راميّةً بنفسي على السرير، احتضنت الوسادة مغمضةً عيناي مسترجعةً اللحظات الجميلة ليلوح ببالي طلال ... طلال ... لقد نسيت طلال ... يبدو أن خطة طلال نجحت في النهاية. عليّ أن أتصل به وأخبره بما حصل، سيفرح كثيراً. اتصلت به عدّة مرّات وفي كلّ مرّة يجيب المجيب الآلي.
هذا غريب، أين هو يا ترى؟ عليّ أن أطلب من إيّان أن يتصل به ليطلب منه العودة الى المنزل.
***
دخلت غرفة المكتب لأجده جالساً وراء مكتبه، يعمل على حاسوبه.
رفع بصره الي عندما شعر بي أدخل الغرفة ابتسم لي إبتسامةً دافئة ثم عاد الى حاسوبه ينقرعلى مفاتيحه بسرعة وخفّة متناهية.
جلست أنتظر انتهاءه. شعره مبعثر ورائحته منعشة من صابون الاستحمام. يرتدي قميصاً أسود بثلاث أزرار مفتوحة عند الصدر. يبدو جذاباً وأنيقاً كالعادة
أنهى ما في يده ثم أغلق الحاسوب يناظرني بعينيه الزرقاوتين الساحرتين منتظراً ما سأقوله. أربكتني مبادرته وتركتني عاجزة عن إيجاد الكلمات المناسبة لأبدأ بها حديثي. فوجدتني من شدّة توتّري العب بأصابعي ، فسألني بصوت هادئ:
" ماذا هناك نور؟ لم انت متوتّرة هكذا؟ "
رفعت بصري إليه لأجده يناظرني بعينيه الواسعتين بحنان وكأنه يطمئنني لقول ما أريده فسألته متمتمةً:
"هل تحدّثت الى طلال؟"
"نعم تحدّثت اليه ، لم تسألين؟ اتحتاجينه في شيء ما، بإمكانك سؤالي، فأنا مستعد لتلبية حاجتك"
" لا ... لا أحتاج الى شيء ... ولكنه ترك المنزل غاضباً مقرراً عدم العودة، ولا يجيب على اتصالاتي. أنا قلقة عليه "
عقد حاجبيه وقال بنبرةِ لم أستطع تحديدها، أهي غاضبة أم فضوليّة:
" ما هذا الاهتمام الغريب والقوي الّذي يجمعكما؟ "
وجدتني أقضم أظافري توتراً وخجلاً. ما الذي يقصده بكلامه؟ رمقته بطرف عيني فرأيته ما يزال يراقبني عاقداً حاجبيه وقال:
" هلاّ توقفت عن قضم أضافرك ونظرتِ إلي "
فعلت متمتمةً" لا أريدكما أن تتشاجرا بسببي، لقد سمعتكما تتشاجران، وأنت طلبت منه أن يرحل. أنا خائفة عليه. فكلّ همّه كان إيجاد طريقة لمساعدتنا في ان نكون معاً. وها نحن معاً الآن، أرجوك اتصل به واطلب منه العودة الى المنزل "
" ومن أخبرك انه رحل؟ والى أين سيرحل؟ فهذا منزله كما هو منزلنا أنا وأنت ونحن وعائلته، لن يرحل إلى أي مكان "
" ولكن "
وقف من وراء مكتبه وجلس قبالتي مسنداً ذراعه إلى الطاولة.
" لا تقلقي، إنه بخير، لقد أرسلته لتفقد شحنات قادمة من ألمانيا سيعود الى المنزل فور انتهاءه "
لم أستطع إخفاء فرحتي مما قاله فأجبته بحماس:
" حقاً، هذا يعني أنه ليس غاضباً منك وسيعود الى المنزل؟ "
ضحك لضحكتي وقال: " لا ... ليس غاضباً مني، وسيعود للمنزل، هل أنت راضية الآن؟ "
وقف من مكانه واضعاً يده في جيب بنطاله وأنا وقفت أتراقص فرحاً: "نعم وسعيدة، سعيدة لأنك وطلال لستما غاضبين من بعضكما البعض "
لتختفي ضحكته فجأة عن وجهه ويشرد بعيناه بعيداً وكأنه يفكر بشيء ما، لمست وجنته بلطف:
" ماذا هناك؟ لا أراك سعيداً إيّان، أرجوك أخبرني بما يشغل بالك؟ "
ضمني إلى صدره برفق " لا تقلقي، أنا بخير، طالما أنت سعيدة وبخير،أنا بخير .لا تعرفين مدى أهميتك عندي، أنت روحي نور، روحي التي كانت ضائعة مني منذ زمن بعيد مضى، وعندما وجدتها، خفت عليها حتّى من نفسي فوجدتني أرفضها رغماً عني "
" أرجوك إيّان، لا أريدك أن تقلق طالما أنا بقربك، أحبك كثيراً ولن أجرؤ على أذيتك يوماً، أبدا ما حييت "
قبّل جبهتي مردداً: " يا ملاكي الصغير، أرجوك ، انزعي هذه الأفكار من رأسك، أنا لست قلقاً من ناحيتك، ورفضي لك يعود لأسباب خاصة بي أنا ولا دخل لك فيها من أي ناحية من النواحي. أنت رائعة وكاملة، رقيقة وجميلة ، فاتنة وطيبة وكل رجل على وجه هذه الأرض يتمناك لأنك تملكين كل الصفات الجميلة التي يتمناها كل رجل بامرأة حياته "
لا أدري ما الذي يحصل هنا بيننا. من المفروض أن تشعرني كلماته بالسعادة ولكن نبرة صوته الحزينة تقلقني وتخيفني، ما الذي يشغل باله، وكأنه يصارع نفسه. يا الله !!أرجوك ساعدني لأفهم هذا الرجل وأجد السعادة معه وأقدر على أن أغير حياته وأجعله يرى نفسه على حقيقتها، طيبة ورائعة وتستحق السعادة والأهم من كل هذا تستحقني.
أبعدني عنه برويّة قائلاً برفق " أرجوك نور، لا أريدك أن تعطي المسألة أكثر من قدرها، وأعدك مع الوقت ستتحسن الأمور وتصبح أكثر وضوحاً. هيا دعيني الآن لأكمل عملي، فطلال ينتظر مني إرسال بعض الأوراق المهمة لإنهاء عمله، وأنت حاولي أن تشغلي نفسك بشيء، هيا".
***
سمعت صوت هاتفي يرن من البهو فأسرعت الى غرفتي علّي ألحق به، لا بدّ أنه طلال، توقف عن الرنين قبل أن اصل اليه،... إنه آدم ، كيف نسيت آدم ورينا، لا بدّ أن ما حصل البارحة يثير تساؤلاتهما، كان يجب أن أتصل بهما منذ الصباح الباكر على الأقل لأطمئنّ على آدم بعدما أشبعه إيّان ضرباً بسببي.
أعدت الاتصال لآدم الذي ردّ من الرنة الثانية:
" ألو نور ، كيف حالك؟ "
" بخير، آدم أنا آسفة جدّاً، كان يجب أن أتصل بك لأطمئن عليك بعد الذي حصل البارحة ارجوك اعذرني "
" لا داعي للاعتذار نور، أنا بخير، وأنا كذلك الأمر كنت متردّداً بالاتصال بك، فأنا خجل جدّاً من نفسي، ما كان يجب أن أقبّلك أمام الجميع خاصة أني كنت أعرف بأنك ثملة. لا تظني بأني سيئ واستغليت وضعك ذاك. أنا أهتم كثيراً لأمرك ولا أدري كيف تطورت الأمور لتصل الى ذاك الحدّ."
سكتّ، لا أعرف كيف أجيبه ، فكل ما حصل، حصل بسببي، أنا التي استغليته وسألته ما إذ كان يرغب بتقبيلي. يالي من غبيّة ولا افكر بعواقب تصرفاتي.
" نور ... نور أرجوك قولي لي بأنك لست غاضبة مني. لم لا تتكلمين؟ "
" أنا آسفة آدم، لست غاضبة منك، ولكني لا أريدك أن تسيء فهم ما حدث البارحة، فأنا اعتبرك صديق وشقيق صديقتي العزيزة ليس أكثر من ذلك . وما حصل بيننا البارحة كان فعل طيش فتاة ثملة غير واعية لما تفعله".
" ولكني أريدك أكثر من صديقة،... فالبارحة أيقنت بأن ما يجمعنا أكثر من صداقة وتأكدت من أنك مهمّة كثيراً بالنسبة لي ...أنا مستعدّ لفعل أي شيء من أجلك "
يا الله ،يا الله، لا أريد الذهاب معه بهذه الطريق. كيف سأتخلص من هذه المشكلة دون خسارة صداقتي لرينا، بالتأكيد لن تتقبل فكرة ما فعلته بأخيها وما سببته له.
" نور ... لم لا تتكلمين؟ أهناك شيء ما يخيفك؟ أهذا الرجل إيّان كرم يهددك أو يضغط عليك؟ فأنا لم أفهم ما الذي دفعه لفعل ما فعله البارحة؟ ما شأنه بك؟ وكيف يسمح لنفسه بالتحدث اليك بتلك الطريقة؟ أنا مستعد لمساعدتك بأي شيء تحتاجينه. فقط ثقي بي "
" آدم أرجوك، لا اعتقد بأن موضوع كهذا يحل عبر الهاتف، ما رأيك أن أراك غداً بعد الدوام لنتحدّث ونحلّ سوء التفاهم الذي حصل بيننا "
" نعم،... نعم إنها فكرة جيدة، أراك غداً إذاً عند الثانية في المقهى، أيناسبك ذلك؟ "
" نعم، أراك غداً "
رأسي يؤلمني من كل هذه الضغوطات. ألا يكفيني إيّان ومشاكله ، وحتى طلال ومشاكله والآن آدم وما سيتبعه من مشاكل.
عليّ أن أُبقي إيّان خارج إطار الصورة ولا أُشعره بما يحصل وإلا، لا أعرف ما هو بقادر على فعله من أجلي هذا الرجل. فالبارحة لولا تدخل عمر وسليم وانتشاله عن آدم لكان قتله.
********
نمت البارحة قبل قدوم طلال، فلم أره عندما عاد، جهزت نفسي للجامعة ونزلت مسرعة لأفاجأ بإيّان بانتظاري في السيارة بدل طلال.
دخلت السيارة مذهولة من رؤيته، هذه أوّل مرّة أرى فيها إيّان صباح يوم العمل. فهو دائماً ما يستيقظ باكراً، إماً يكون في صالة الرياضة مع مدربه قبل أن يذهب الى الشركة، أو يكون عنده اجتماعات باكرة فيرحل قبل أن أستيقظ.
فرحت لوجوده كثيراً ولكن وجوده بدل طلال أقلقني. أيعقل أنه مازال غاضباً ولم يعد الى المنزل البارحة.
استقبلني إيّان بابتسامة رائعة، ناولني كوب القهوة وقال:
" صباح الخير، يبدو أنك تأخرت في الاستيقاظ، سنشرب قهوتنا في طريقنا الى الجامعة "
أخذت الكوب من يده أتساءل:
" ولم انت تقلني الى الجامعة؟ أين طلال؟ "
تغيرت ملامح وجهه عاقداً حاجبيه مجيباً  " ألا أقوم أنا بالواجب، آنسة نور " 
توردت وجنتاي خجلاً من ردّه ، يبدو أن سؤالي أثار غضبه " كيف هذا؟ بالطبع تفعل، ولكن غياب طلال يثير تساؤلاتي، إنها المرة الأولى التي يتغيب فيها عن إيصالي الى الجامعة "
"هذا لأني طلبت منه ذلك، أرسلته الى الشركة بدلاً مني لأفاجئك بي، ولكن يبدو أنها ليست بمفاجأة سارّة كما كنت أتوقعها "
إجابته أشعرتني بالضيق من فعلتي، ما الذي أفعله الآن؟ إنه محق فبدل أن أفرح لوجوده ورغبته بإيصالي بنفسه الى الجامعة أنهال عليه بالأسئلة عن طلال، هذا سيئ.
حدّقت به أتأمّله وهو منشغل بقيادة السيارة محاولةً درس ملامحه ولكني عجزت عن تحديد ما إذ كان متضايق مما حصل للتو أم لا، فناديته بتردد:
" إيّان "
نظر إليّ بابتسامة شفافة ورقيقة ثم عاد يركز بقيادته
" لا بدّ أنك تتساءل عن سبب اهتمامي الزائد بطلال وسؤالي المتكرر عنه" سكتّ لبرهة منتظرة ردة فعله فأعاد اهتمامه لي رافعاً حاجبه منتظراً ما سأقوله فتابعت " إنّه الآن يمرّ بحالة نفسيّة صعبة خاصة بعد افتراقه عن سارة، وأنا أشعر بأنّي مدينة له بالكثير، فهو ساعدني كثيراً على تخطّي مشاكلي معك وكان دائماً بقربي كلّما احتجته، وأشعر الآن بأنه يجب عليّ ان أردّ له الجميل وأحاول مساعدته على تخطّي مشكلة فراقه عن سارة. فأنا مدينة له بذلك "
بدت الحيرة على ملامحه وكأنه لم يفهم ما قلته
" أتقولين إنه انفصل عن سارة؟ متى حصل هذا؟ فهو لم يخبرني بأي شيء"
يا الله!!! يبدو أني أدخلت نفسي في متاهة سأعجز عن إخراج نفسي منها. يبدو أن طلال لم يخبره عن مشكلته مع سارة. إمّا لأنه لا يريده أن يعرف، وإمّا لم يتسنّ له الوقت بعد لإخباره. ماذا سأفعل الآن؟ نظرت اليه لأراه مايزال يرمقني بنظرة استفهام منتظراً منّي الإجابة:
تمتمت بتردد" لا بدّ أنه نسي إخبارك بالأمر بسبب كل الأحداث التي حصلت منذ وصولك الى المنزل فلم يرد إزعاجك بمشاكله هو الآخر. أرجوك لا تشعره بأنّك تعرف بالأمر، لا أريده أن يظنّ بأنّي أتحدث إليك عن حياته الخاصّة "
" ولم يخبرك أنت عن انفصاله عن سارة؟ "
ماذا سأفعل الآن، كيف سأبرّر معرفتي للأمر دون إدخال نفسي بالمشكلة؟ أيتها الغبية، ما الذي تفعلينه؟ أتفتّشين عن كذبة تلقينها في وجه الرجل الذي كنت تحاربين وستقتلين نفسك من أجله؟
شعرت بخجل وتوتر شديدين. عجزت عن النظر الى عينيه، قلت وأنا ألعب بكوب القهوة في يدي:
" كنت موجودة أثناء الشجار، حصل ذلك يوم عيد ميلادي في القصر، وأنت تعرفني فضولية وعنيدة، فبقيت وراء طلال حتى أخبرني بما حصل. ويبدو أنّ المشكلة كبيرة لأنّي دائماً أسأله عنها فيجيبني بأن الأمور مازالت على حالها بينهما "
" أهذا كلّ شيء؟ " سألني باهتمام وكأنه يتوقع المزيد
" نعم ... هذا كل شيء...ليس سهلاً عليه أن ينفصل عنها بعد كلّ هذه السنوات "
" لا تشغلي بالك بهما. طلال شاب قوي ولن تكسره مشكلة كهذه. هكذا هي العلاقات، تتضمن الكثير من المطبّات وعلى الإنسان أن يكون قويّاً وحاضراً لأي شيء في العلاقات العاطفيّة "
" لمَ أشعر أنّك تعطيني محاضرة ؟"
ضحك آخذاً بكفي، لثمه بلطف وقال " ربّما لأنّي أفعل "
أشعر بأنّ يدي تحترق في يده، وبأنّي خائنة ولا أستحقّ ضحكته ولا قبلته ولا حتّى إمساك يده الدافئة. أنا كاذبة، ولكن لم كذبت؟ لمَ شعرت بأنه عليّ إخفاء سبب المشكلة عنه؟
يا الله !! ما الذي يحصل معي؟
أوقف السيارة أمام حرم الجامعة ولكني لم أترجّل منها. أشعر بأني مكبّلة وعاجزة وصغيرة وكاذبة أمسك خصلة من شعري يداعبها وسألني بقلق:
" ما الذي يشغل بالك؟ "
ابتسمت له ببرودة محاولة قدر الإمكان إخفاء توتّري وما يجول في بالي وقلت:
" لا شيء مهمّ، ولكنّي متوتّرة بعض الشّيء من مواجهة أصدقائي بعد الذي حصل البارحة "
ولكي أزيد الأمور سوءً ، أشعرته بالسوء إذ ترك خصلة شعري آخذاً نفساً عميقاً وقال " أعتذر عن كل الإحراج الذي سببته لك . أنا آسف نور، ولكنّي لا أعرف ما الذي حصل لي عندما رأيت ذلك الحـ.... الشاب يقبلك، أفقدني صوابي "
اذا بقيت دقيقة إضافيّة داخل هذه السيارة سأفقد أعصابي مجهشةً بالبكاء كالأطفال ، ففتحت الباب وقلت : " حسناً، دعني أنزل لأواجه هذا الأمر، وأجد طريقة لشرح ما حصل دون التسبب بأضرار أكثر من التي حصلت."
نزلت من السيارة مسرعةً الى الداخل. لم أجرؤ على النّظر ورائي وإلقاء تحيّة الوداع إليه. اغرورقت عينايّ بالدموع وشعرت بضيق في صدري. ركضت مسرعة الى الحمّامات، دخلت واحداً منها ، أغلقت الباب ورائي ورحت أبكي وأبكي دون توقّف.
اتصلت بطلال الذي ردّ عليّ من الرّنة الأولى يسألني بقلق لحظة سمع صوتي الباكي على الهاتف:
" نور، ما بك ؟ ما الذي يحصل معك؟ لم تبكين؟ هل حصل شيء معك أو مع إيّان ؟ "
أجبته بصوت مخنوق وسط الدموع:
" طلال، لقد كذبت عليه،... نظرت مباشرة إلى عينيه وكذبت عليه ...أشعر بأنّي سأموت، كيف فعلت ذلك؟"
" أنا لا افهمك، على من كذبت؟ ولم؟ "
"أخبرته عن طريق الخطأ أنّك تشاجرت مع سارة. وعندما سألني عن السّبب، كذبت عليه...لم طلال؟ لم كذبت عليه؟ لمَ لم تخبره انت عمّا حصل؟ أخبرني أرجوك؟ لن احتمل مواجهته قبل أن أخبره بالحقيقة، ولكنّي لم أجرؤ على إخباره، أنا ضائعة وضميري يؤنبني، لقد وعدته بأني لن أؤذيه أبداً ولن أخذله أو أتخلّى عنه ، ومن ثمّ كذبت عليه عند أوّل فرصة سنحت لي، كيف هذا؟ لقد خنت ثقته بي طلال. فأنا الآن أكره نفسي كثيراً ولن أجرؤ على النّظر الى عينيه مجدّداً ...."
" لقد أخفتني نور، توقفي عن البكاء أرجوك كفّي عن البكاء وكفّي عن الكلام. سنخبره معاً بكلّ شيء. لا تقلقي، فإيّان لن يأخذ المسألة كما تظنين ، سيتفهم سبب إخفاءك عنه الحقيقة، هيّا اهدئي واذهبي الى محاضراتك "
توقفت عن البكاء ، مسحت دموعي وسألته:
" أوتظن ذلك؟ لن احتمل خسارته، ستكون كارثة بالنسبة لي "
" لن يحصل ذلك، أعدك نور، هيا دعيني أذهب، سيصل إيّان قريباً وأنت تأخرت على محاضراتك، أراك لاحقاً؟ "

فى ظلال الماضى لكاتبة أمل القادرىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن