الفصل الثالث
استقبلنا المضيف في قاعة الاستقبال وقادنا نحو طاولتنا حيث إيّان جالس عند التراس مواجهاً للبحر. وقف فور وصولنا إلى الطاولة وأزاح لي الكرسي لأجلس، ثمّ سأل طلال:
"هل أنت متأكّد من أنّك لن تأكل معنا؟"
"بالتأكيد.. أتريد من سارة خنقي... إنّها تنتظرني على الغداء. حسناً، أرجو لكم يوماً سعيداً وغداءً هنيئاً... المعذرة"
كان عند الباب قبل أن ينهي جملته.
ضحك إيّان وقال وهو يجلس قبالتي "يبدو أنه تأخر على سارة، ويبدو أنها ستخنقه في كلا الحالتين" ثم سألني "والآن، ماذا سنأكل، أنا جائع، هل أنت جائعة؟؟"
"بالطبع أنا جائعة، وأحب كثيراً الأطباق الذي يحضّرها هذا المطعم"أجبته بخنقة ، أحاول عدم تذكر كلام طلال ونصيحته لي .
رفع يده مطالباً بحضور أحد المضيفين.
أتت بعد لحظات امرأة ترتدي تنورة سوداء قصيرة وقميصاً أبيض وعندها بطاقة معلقة على صدرها الأيمن يحمل اسمها "هناء".
"أهلاً وسهلاً بكما، بم أخدمكما اليوم" قالت وهي تقدّم لنا قائمة الطّعام تراقب إيّان بعينين جائعتين،فأنا لا ألومها إذ أرى تلك النظرة بكل أنثى تقابله وأنا واحدة منهم .
ردّ إيان القائمة لها وقال "لا أحتاج إليها، أريد طبق رقم 7 دون أي تغيير عليه، وأريد معه النبيذ الأحمر"
سجَّلت طلبه ثم حولت انتباهها إلي منتظرة طلبي، راحت عيناي تجول في القائمة سعياً لإيجاد طبق رقم 7 فوجدت بأنّه نفس الطّبق الذي طلبته المرّة السابقة وأحببته كثيراً "أريد رقم 7 كذلك الأمر"
"وماذا تريدين أن تشربي"
ردّ إيّان عليها قبل أن أفتح فمي "عصير برتقال لها لو سمحت"
ابتسمت المضيفة له وأخذت القائمة منّي وانصرفت.
فور ابتعادها علّقت متذمرّة "ولمَ عصير البرتقال...فأنا أريد أن أجرب النبيذ الأحمر مثلك"
"لا أظن ذلك" أجابني بحزم "ما زلتِ قاصر لهذه المشروبات ولا أنصحك بها ابداً... والآن أخبريني، أما زلت تشعرين بالدوار أو الغثيان"
"لا أنا بخير الآن. لا أشعر بشيء وكأن البارحة لم يكن"
"هذا جيد"
عادت المضيفة بالعصير والنبيذ.
اقتربت من إيّان وعيناها تراقبانه بشغف تحاول لفت إنتباهه اليها، انحنت أمامه ملصقةً كتفها بكتفه بحجّة أنها تضع كوب النبيذ أمامه... ابتعد إيّان عن دربها فاسحاً لها المجال أمامه يراقبها بمكر ملاحظاً حركتها الرخيصة، لا بدّ أنه فهم مقصدها، ولكنّ ردّة فعله أثارت حيرتي ، لم يبدو سعيداً بإهتمامها بل بدا مشمئزاً منها .
راقبها تبتعد عنه بنظرة غامضة ليعود بإنتباهه الي فسألته بفضول :
«ما هو الموضوع الذي أردت محادثتي به»
رفع حاجبه وكأنه لم يفهم سؤالي ثم قال "......دعينا نأكل أولاً"
بعد دقائق عادت المضيفة بأطباقنا. رائحة السمك المشوي مع الثّوم والحامض والكزبرة الخضراء لا تقاوم. رحت ألتهم طعامي بشهية واضحة فأنا جائعة جداً. رفعت نظري عن طبقي لأجد إيّان يراقبني مستمتعاً برؤيتي وأنا آكل بشهية ضحك معلّقاً«أعشق رؤيتك وأنت تأكلين ، تفتحين شهيّتي على الاكل »
إبتسمت بخجل جلي على ملامحي إذ أشعر بالسخونة تجتاح وجهي بعنف ، منّبّهةً نفسي أن أتباطئ بالأكل فأنا لست في المنزل .
"ماذا فعلت اليوم؟" سألني مباشراً بطعامه
تنحنحت مجيبةً "لم أفعل شيئاً مهماً...فكما تعرف، ليلى تقيم حفلة نظافة للقصر، فحاولت قدر الإمكان الابتعاد عن طريقهم"
"نعم أعرف، لهذا دعيتك للغداء هنا" أخذ رشفة من نبيذه وتابع "أترغبين يوماً ما في أن تديري أعمال والدك، وتكوني المسؤولة العامة عن حصتك التي تركها لك"
توقفت الملعقة وسط الطريق إلى فمي محدّقة به بذعر. فأنا أبداً لم أفكر بهذا الأمر. لطالما كان أبي هو المسؤول عن كل شيء، ثمّ استلم إيّان أعماله من بعده. لم يخطر ببالي قط أن يأتي يوماً وأكون مديرة أعمال وأجلس وراء مكتب. لطالما كنت متحيزة لدراسة علوم الأحياء، فهذه المواد كانت تثير اهتمامي كثيراً في المدرسة.
"ماذا تقصد... أتريد مني أن أدير أعمال والدي؟ فأنا لا أعرف شيئاً عن إدارة الأعمال"أجبته بذعر واضح بنبرة صوتي
"لا... بالطبع لا...على الأقل ليس الآن. ولكني أريد منك البدء بالتفكير في مستقبلك وكيفية الحفاظ على شركة والدك لذا، سأساعدك في اختيار الجامعة والفرع الذي يناسبك. ألا تظنين بأن الوقت قد حان لذلك."
وضع يده في جيبه مخرجاً منه ظرفا وقدمه لي.
فتحت الظرف لأرى فيه بعض عناوين وأسماء جامعات وعناوين البريد الإلكتروني التابع لكل جامعة، قال وهو يراقبني أتصفح الورقة:
"بإمكانك تصفح هذه الجامعات ودراسة ما تقدمه لك من خدمات واختيار ما يناسبك، وأريد أن ألفت انتباهك باعتبار إدارة الأعمال مهنة محتملة."
مبادرته هذه أشعرتني برغبة ملحّة للبكاء...إنه حقا لا يفوته شيء وخاصة في تأمين ما هو الأفضل والأنسب لي، تذكرت كلام طلال في السيارة عندما قال لي بأن إيّان يهتم كثيراً لأمري ولكن ليس كما أنا أهتم لأمره. فهو يشعر بأني مسؤولة منه وحمايتي فرضٌ عليه. وضعت الظرف في حقيبتي وقلت وأنا أحاول جاهدة في أن أخفي رغبتي بالبكاء:
"شكراً لك... فأنا حقاً بحاجة إلى هذه الخطوة في حياتي، أعدك بأني سأعلمك بقراري قريباً."
"هذا يسعدني، فأنت تستحقين الأفضل، إنها فرصة لك لتبدأي فصلاً جديداً من حياتك، تتعرفي فيه على أصدقاء جدد وحياة جديدة."
أنت تقرأ
فى ظلال الماضى لكاتبة أمل القادرى
Romanceمقدمة الكتاب أكّد فرويد أنّ شخصيّة الإنسان يحدّدها ويصنعها ماضيه وحاضره ومستقبله. لذا لا حاضر بلا ماضي ولا مستقبل بلا ماضي ، حيث أنّ للماضي أهمّيّة كبيرة وجذرية في نحت شخصيّة الإنسان وصنعها وصقلها ودفعها إلى الحاضر. ومن هنا تأتي أهمّيّة الطّفولة حيث...