بأحد الأحياء الشعبية الممتلئة بالضجيج وأصوات البائعين المتداخلة ببعضها وبأحد البنايات القديمة المُتهالكة هبطت "صَدفة" الدرج مُسرعة وهي تضع هاتفها بالحقيبة وتُحاول السير بخطوات أشبه بالركض حتى خرجت من الحي تمامًا ووقعت عينها على شاب يبدو مُريبًا فتغيرت ملامح وجهها وركضت بعيدًا عن مرمى عيناه واستقلت سيارة أجرة للوصول إلى جامعتها ودخلت مسرعة إلى المرحاض مُغلقة على نفسها الباب ثم لفت ذراعيها حول جسدها وجلست أرضًا وهي تبكي بشدة وترتجف بطريقة مُقلقة ولم يشعر بها أحد حتى هدأت تمامًا وخرجت لتتجه إلى المُدرج الذي ستبدأ به محاضرتها وهي تحاول التماسك والتحلي بالهدوء.
"صَدفة العلواني: فتاة في التاسعة عشر من العمر طيبة للغاية وتبدو كالأطفال بتعاملاتها ولا تفهم نوايا البشر السيئة مما يُسقطها بالكثير من المُشكلات، هادئة وذكية ولكنها عاطفية أكثر من اللازم"
*************************************
في أحد الأحياء الراقية..
خرج شاب تبدو على ملامحه الجدية والصرامة مُرتديًا ملابسه الرسمية ثم التقط ميدالية المفاتيح خاصته مُغلقًا الباب خلفه بهدوء، سمع صوت رنين هاتفه المميز فأخرجه مُبتسمًا وهو يقول: ألو.. أهلًا بحضرتك يا خالتو.
استمع إلى الطرف الآخر ثم قال: بصي يا خالتو والله عندي إجتماع بس وعد لو خلصت هاجيلك.. ماشي يا حبيبتي مع السلامة.
هبط الدرج بخفة ثم استقل سيارته مُتجهًا إلى مقر عمله وهو يُفكر في ذاك الاجتماع الهام الذي قد يصنع خطوة فارقة في شركتهم ويُحدد الكثير من الأشياء، كان شيطانه يوسوس له ألا يذهب أو أن يعتذر عن الحضور -مع علمه بأنه المسؤول عما سيحدث بالاجتماع- بسبب الخلاف الكبير الذي حدث بينه وبين والده ولكنه عاد يؤنب ذاته ويُخبرها أنه والده وأن هذه الخلافات تحدث بين أفراد العائلة وتُزيد ترابطهم فالعائلة التي لا تصطدم ببعضها هي عائلة صورية لا تتحاور ولا يجلس أفرادها على طاولة واحدة، حمد ربه كثيرًا على نعمة وجود العائلة بالرغم من كل شيء ثم زفر برضا ناويًا تناول الطعام مع خالته ثم الذهاب ومراضاة والده.
"شرف الدين إكرامي: شاب في الثلاثون من العمر، تخرج من كلية إدارة الأعمال، يعمل مع والده وشقيقيه بشركة والده وعمه، طيب وحنون ويقدر أمر العائلة كثيرًا"
**********
ننتقل لمحافظة أخرى..
تجلس تلك الفتاة أمام عمتها التي تنظر لها بكراهية متوارية..
وجدان بتوسل: عشان خاطري يا عمتو هروح الرحلة دي وبعدين هنتظم في الجامعة طوالي.
العمة بازدراء: مش مهم تنتظمي متنتظميش لكن رحلات مفيش مش كفاية بخلي بالي منك وأبوكِ الله يرحمه عمره ما كان مهتم بيا ولا كأني أخته، ده لولايا عمرك ما كنتِ هتلاقي مكان يلمك.
وجدان بحزن: شكرًا إنك مخلياني معاكِ، أنا مش عايزة حاجة.. عن إذنك
العمة بسخرية: إذنك معاكِ يا عنيا.
وقفت وجدان ثم دخلت إلى غرفتها واغلقتها خلفها بالمفتاح جيدًا وبدأت تُعد حقيبتها بملامح جامدة موارية إنكسار كبير بداخلها ورغبة خانقة بالبكاء رددت بداخلها: أنا مش متشكرة لأي حاجة.. عمرك ما حبيتيني ولا عمرك عملتيلي حاجة إلا ورجعتي تعايريني بيها، أكملت بحزم: أنا هعمل اللي يعجبني من هنا وطالع ولا هيهمني حد.. أنا كدا كدا لوحدي.
ثم أخفت حقيبتها أسفل الفراش وصعدت لتحظى بالقليل من النوم قبيل هروبها من المنزل.
"وجدان هشام: فتاة في الواحد والعشرون من العمر بسنتها الأخيرة في كلية الآثار، توفي والداها منذ عامين وانتقلت للعيش مع عمتها التي لم تُحبها يومًا، خفيفة الروح طيبة القلب ولكنها عنيدة".
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل..
خرجت وجدان من الغرفة بهدوء وهي تسير بحذر وتتجه للباب وما أن فتحته حتى دلف ابن عمتها "عمر" وهو يتمايل أثر الخمر ويُدندن بصوت خافت نظر لها بسخرية وقال: رايحة فين يا بت؟
وجدان بتقزز: بت في عينيك.. اوعى من وشي.
دفعها للداخل وهو يشير لها بالصمت ثم قال بطريقة سيئة: اوعى من وشك واسيبك؟.. ده حتى بيقولك حد يبقى معاه الحلاوة ويقول لأ كفاية!!
واقترب منها محاولًا الاعتداء عليها فأمسكت بالمزهرية وقامت بضربه بها فوق رأسه مما جعله يسقط أرضًا بينما جُرحت رأسه جرحًا غائرًا، انتفض قلبها ذُعرًا وامسكت حقيبتها وخرجت ركضًا تاركة كل شيء خلفها وهي لا تعلم إلى أين تذهب ولكن كل ما دار بعقلها تلك اللحظة هو الاختفاء من منزل عمتها وباسرع وقتٍ ممكن.
*************
باليوم التالي..
بداية سطوع الشمس..
خرجت "صَدفة" من غُرفتها وكأنها غير واعية كانت تنظر بخواء شديد أمسكت بالدفتر الخاص بها ثم فتحت باب المنزل وخرجت مُبتعدة عن المنزل بخطوات غير مُتزنة تتجه لمكان غير معلوم، خرجت من حيها كالتائهة تُحاول جر ساقيها.. وصلت لحافة الهاوية بعد الكثير من السير بينما رآها شاب كان جالسًا بأحد الأماكن القريبة من الهاوية وسار خلفها حين وجدها تسير بطريقة مثيرة للشك..
وقفت "صَدفة" وهي تنظر للأسفل بخواء كعادتها ثم نظرت لنفسها كانت ترتدي ثوبًا بنفسجي اللون وحذاء أبيض تنهدت بصوت مسموع ثم فتحت ذراعيها وكأنها ستطير كادت تُلقي بنفسها للأسفل فأمسك بها الشاب مُسرعًا..
الشاب بصراخ: إنتي مجنونة!!!!
نظرت له "صَدفة" بلامبالاة ظاهرية وهي تحاول الفكاك من بين ذراعيه ولكن بعد لحظات بدأت عينيها تدمع فصرخت بفزع: ابعد عني ابعد متلمسنيش ابعد.
نظر لها بصدمة وتركها بسرعة فالتفتت مجددًا مُحاولة تكرار فعلتها وهي تقول: مفيش أمل خلاص.. كل حاجة انتهت أنا كمان تعبت وآسفة اوي إني مش هستنى تاني، بس معنديش حيل ولا طاقة.
أمسك الشاب بذراعها بحذر فنظرت بخوف وكادت تصرخ فابتعد كالملسوع قائلًا: اهدي.. أنا آسف إني مسكتك تاني بس متعمليش كدا.
صَدفة بصوت مُتعب: ملكش دعوة.. أنا اللي هروح النار.
الشاب بلطف: طب ممكن تقعدي هنتكلم ولو كلامي معجبكيش نطي ماشي؟
جلست "صَدفة" وكأنها تسقط حتى أن ركبتيها قد انجرحت لكنها لم تبالي ابدًا ونظرت له تنتظر أن يتحدث..
تحدث بصوت هادئ: أنا اسمي موسى، آسف إني مشيت وراكي بس كنت حاسس إن في حاجة هتحصل والحمد لله إني مشيت وراكي، أنا مش عارف إيه همك أو مشكلتك اللي خلاص مبقالهاش حل غير إنك تنتحري بس عايز أقولك إن كل حاجة ليها حل يمكن لأنك جوا المشكلة فـ مش عارفة تشوفي أو توصلي للحل الصح، لكن ممكن تحكيلي يمكن أقدر اساعدك.
صَدفة: إزاي اصدق إنك هتصدقني وهتساعدني ده أنا أقرب حد ليا لما حكيتله في البداية وقبل كل حاجة مصدقنيش.. أنت بقى هتصدقني؟
موسى بصدق: بصي أنا عارف إنك مش مصدقة لكن والله أنا بحلفلك إني هحاول اساعدك وكل حاجة هتقوليها هصدقك.
شعرت صَدفة بألم مُفاجئ بقلبها فوضعت يدها موضعه فنظر لها موسى بقلق متسائلًا: حاسة بحاجة؟.. إنتِ كويسة؟
رفعت عينيها الدامعة له فشعر بالألم بداخله فنظراتها بريئة بشدة ولكنه صمت..
صَدفة بصوت خافت: أنا تعبانة.. عايزة أروح.
وقف موسى بالحال ومد يده لها يُساعدها لتنهض فامسكت بيده بعد تردد وما أن وقفت حتى سحبت يدها من يده مسرعة وكأنه سيأكلها..
سارت أمامه فتبعها هو بهدوء فنظرت له قائلة: هو.. هو انت مش عندك بيت؟
موسى بهدوء: أكيد عندي بيت.
صَدفة بفضول: طب ليه مش بتروح فيه؟
ابتسم موسى: هروح أكيد.. بس هروحك الأول.
صَدفة بتلقائية: طب ده انت حتى مش عارف اسمي.. مش يمكن اخطفك؟
موسى بخوف مصطنع: هو انتي ممكن تخطفيني؟
صَدفة بطيبة:لا طبعًا، متخافش مني أنا مش بعمل حاجة وهقولك اسمي عشان لو عايز تشتكيني كمان.
موسى بابتسامة خفيفة: اسمك إيه؟
صَدفة بحرج: اسمي صَدفة.
موسى باعجاب: اسمك جميل خالص، مالك بقى مكسوفة كدا ليه؟
صَدفة بصراحة: عشان من زمان اسمي مش مشهور زي منى وعلا ونور والأسماء دي يعني فـ لما كنت بقول اسمي في اي مكان كله كان بيبصلي بصة كدا بحس إني غريبة.
موسى بجدية: إنتِ جميلة يا صَدفة، متشكيش في حاجة زي دي ابدًا حتى لو أنا نفسي قولتلك إنك وحشه قوليلي إني مابشوفش وإنك أحلى واحدة في الدنيا.. خليكي واثقة في نفسك.
صَدفة بهدوء: امم بس عيب اقولك إنك مش بتشوف غير كدا كمان، انت قولت من شوية انك هتصدقني في كل الكلام بتاعي إزاي ممكن تشوفني وحشه؟
موسى: اركبي طيب وهنشوف الموضوع ده بعدين.
صَدفة بجدية: لكن مش مسموح تدخل بالعربية عند بيتنا.
موسى بتعجب: مين اللي مش هيسمح؟
صَدفة وملامح الجدية لم تتبدل: أنا.. انت كدا عايز كله يقول عني قليلة أدب عشان بركب معاك.
موسى بتفهم: خلاص إيه رأيك اركن العربية بعيد عن المكان اللي عند بيتك وندخل مشي ومش همشي جنبك كمان.
صَدفة بارتياح: كده ممكن جدًا.. كأني ركبت تاكسي بس هحاسبك مش بالفلوس.
ثم صعدت بالمقعد جوار مقعد السائق فاغلق الباب خلفها..
كانت الرحلة قصيرة ولكن قبل أنا تهبط "صَدفة" من السيارة قامت بقطع ورقة من دفترها ومدت يدها بها إليه فأخذها منها وهبطت هي متجهة إلى داخل الحي، امسك موسى الورقة فوجدها قد رسمت وجهه بطريقة بسيطة ولكن جميلة وقامت بالتوقيع اسفلها كذلك فهبط خلفها حتى وجدها تتوقف بمكان يحتشد به الكثير من الناس فاقتربت هي بسرعة فلم تجد سوى بقايا من بنايتها وحولها الكثير من رجال الشرطة والإسعاف كذلك حاولت الاقتراب بصدمة..
صَدفة بصدمة: ماما؟!..
اقترب منها الضابط بأسف قائلًا: حضرتك آنسة صَدفة؟
صَدفة بلهفة متغاضية عن ملامح وجهه تُمني نفسها بسماع خبر غير ما تتوقعه: ماما خرجت صح؟
الضابط باعتذار: لا للأسف العمارة وقعت عليها وعلى بعض السكان كمان، البقاء لله أنا آسف.
سمع موسى حديث الضابط ووقف خلف صَدفة التي التفتت إليه واقتربت منه ثم مدت يدها ممسكة بذراعه قائلة: أنا عايزة ماما!!
ثم انهارت ارضًا شاعرة بالألم ينحرها من الداخل تنظر لـ موسى الذي هبط موزايًا لها وتنظر تجاه حطام البناية وكأنها تنتظر خروج والدتها..
صَدفة بأعين دامعة: فين ماما؟.. هو.. هو ربنا بيعاقبني عشان كنت هسيبها فـ اخدها مني؟
عشان مكنتش حاسة بقيمتها وبقيمة الوجع اللي كانت هتحس بيه من غيري.. فـ اخدها مني عشان أدوق نفس اللي كنت هخليها تدوقه.. أنا آسفة يارب سامحني يارب مش هعمل كدا تاني ابدًا بس خلي ماما معايا، يارب والله هبقى حد كويس وهستحمل كل حاجة بس خليها جنبي.
وقفت فجأة وركضت متخطية الفواصل التي توضع بموضع الحوادث وبدأت تحاول ابعاد الاحجار بنفسها وتردد بطريقة هستيرية: انا هلاقيها، هلاقي ماما.. ماما، ثم بدأت تصرخ بصوت مرتفع بينما حاول احد رجال الأمن ابعادها عن الموقع ولكن امسك بها موسى وابتعد بها وهو يحاول تهدأتها بينما ارتفع صراخها وهي تحاول الفكاك من بين يديه حتى خارت قواها وسقطت فاقدة الوعي علها تجد أمها التي لم تستطع إيجادها في هذا العالم السيء الذي لطالما أخذ منها كل ما لديها ولازال يفعل.
***********
"لن يُعطيك الواقع ما حلمت به، فحاول البقاء بأحلامك أطول وقتٍ ممكن."
أنت تقرأ
ظلال الزيتون
Acción"كلما حاولت الإنتقال والتأقلم لتجد من يتفهم آلامك لن تجد سوى نظراتٍ خالية مِمَن حولك وكأنك لا تُرى، ولكنك ماذا إذا سقطت فجأة بين ذراعي من يتفهمك ويستمع إليك ويحتوي آلامك دون شكوى!؟.. سيتحول كل شيء من الموت للحياة دون أن ترى لكنك ستشعر حتى وإن تجاهلت...