المقدّمة ~
أكواخ متراصة، جدرانها ملتصقة ببعضها، نَصَبَ عمودها بعض طين وكثير من عصايا خيزران مهترئ .. شارع ضيّق، زادته الأبنية المتناثرة في فوضى عارمة، ضيقا .. سكانه يتغامزون فيما بينهم، على من تمرّ شامخة، بهيئة توحي بأنّها غريبة عنهم .. بخطى ثابتة تتقدّم، تعلم كلّ إنش في هذا الشارع وتعلم إلى أين تسير بها قدماها .. لم تعد تعبأ لنظراتهم ولا غمزاتهم ..
و هُم..
رغم أنّها غدت كأيّ حجر أساسيّ في هذا الحيّ، لكن حناجرهم لم تصمت يوما عن الهمس واللمز .. حتّى الأطفال كان لهم دور في تلك النظرات المتفحّصة، فما إن تمرّ من جانبهم حتّى يتوقّف سيل الشتمات التي يلوكونها لبعضهم، وتصمت الأنفاس اللاهثة وراء الكرة وتتوقّف الأيدي المتشاجرة .. فهيبتها تفرض أن يتمعّنوا في الكائن الغريب عنهم .. هم من لم يخرجوا بعد إلى شوارع غير هذه الممتلئة أتربة ولا لمحوا شعرا مسترسلا بل تعوّدوا بخصلات أمّهاتهم الجعداء، التي ملأها الوسخ ولا عرف مشط طريقا إليها .. فكانت تلك السائرة ويحيطها غموض مثير، حادثة تلوكها ألسنتهم حينما يتحدّثون ..تقف أمام الباب المهترئ، دون أن تدقّه تدفعه بهدوء لتتقدّم نحو الحوش الكبير حيث تتوسّطه بئر عميقة، رائحة مياهها العفنة تجعلها في كلّ مرّة تضع يدها على أنفها لتستنشق عبير عطرها النفّاث ..
تقف امرأة ذات العقد الخامس كانت تجلس أمام كانون مشتعل ويحيط بها بعض الأعشاب وأشياء كثيرة ونصف حرباء ميّتة .. تتقدّم نحوها مهلّلة ومرحّبة بعباراتها المبتذلة .. مشاحة بسواد مخيف، تضع عُصابة على رأسها سوداء، تتخلّلها بعض قرون غزال .. وعلى ذقنها رُسمت نقوش بربريّة باللون الأخضر .. عيونها مغمّسة بكحل ساح على أطرافها .. وفمها يلوك بعض لبان ..
من غير أن تمدّ يدها إليها، ولا أن تردّ على تحيّتها تتجاوزها نحو كرسيّ، سيقانه المعطوبة جعلتها تتراجع عن نيّتها بالجلوس عليه، وتفضّل الوقوف ..
تسألها متحمّسة وهي تلمحها تفتح حقيبتها لتخرج كومة ملتفّة بمنديل أصفر ..
" هذه المرّة سِحْرٌ أم فكّ للسِحْرِ ..؟ "
تمدّ يدها لتستلم اللفافة .. تفتحها لتخرج خصلات شعر وبقايا أظافر .. ورزمة بعشرات من فئة المئة دينار ..
بنبرتها الهادئة تجيبها .." سِحْرٌ .."
تصمت قليلا لتردف بعده بخفوت ..
" تيماء .. إسمها تيماء .. "
/
إنتهت المقدمة ..
أنت تقرأ
افك نبض الجزء الثانى من سلسلة عجاف الهوى لكاتبة أمة الله
Romanceتمهيد ~ يقولون أنّ العطاء يختلف .. فهناك عطاء بلا حدود .. وهناك عطاء بلا مقابل .. وهناك عطاء يملؤُه الأخذ .. ذاك النوع من العطاء مؤذٍ .. ولا أحد ينتبه لأذيته .. نطالب به كحقّ مشروع .. فحينما تطالب الأمّ بـ سنينها التي مضت لتأخذ أضعافها .. يكون عطاءا...