إفكٌ سابع
في لحظة الإنكسار، تلهث الأنفاس، وتغدو النفوس حسّاسة، مجروحة .. حتّى الحديث يغدو متعبا .. فيكون الصمت ملاذا .. والسكون ملجآ .. ثمّ تأتي لحظة الإعتراف من رحمِ الإنكسار ..
"هل تغريكِ الضحكات ..؟ "
بغير إستعاب تدير رفاه رأسها إلى صاحبة العبارة، تُخرج أه تصف غياب عقلها، الذي إستمرّ طويلا، عنها .. ترفع حاجبها الأيمن وقد إستوعبت متأخرة حروفها .. لتجيبها بهمس وقد عادت عيناها تُراقب الطفلين الذين يصرخان منذ جلسا على طاولة قريبة منهم .. "أحيانا .." تُواصل غُزى طرح أسئلتها، عيونها تتجوّل بين الوجه الحزين المقابل لها وبين الوجهين المرحين القريبين منهم .. "هل تفتقدين ضحكة أحدهم ..؟" على غفلة تلتفت إليها، عيونها تلمع بدموع تحاول جاهدة ألا تسقط فتفضح الألم الذي في داخلها، والذي تسبّبت عبارتها الأخيرة بإيقاظه ..
تواصل غزى النظر إلى عيونها الشاردة في ملامحها، تعلم أنّها بعيدة جدا عنها .. ليس من عادتها التدخّل في خصوصيات غيرها .. إحتراما لهم .. لكن حالة رفاه إستثنائيّة .. في حين كان عاكف مكتّف اليدين، كأنّه لا يشاركهم الجلسة .. منذ وقت غير قصير، آثر الركون إلى صمته المعتاد، مكتفٍ بالمراقبة .. وما إن فتحت غزى حديثها حتّى شعر بالملل فهو أيضا لا يرغب بالتدخّل في خصوصيات الأخرين ولا الإستماع إلى خباياهم .. ليس إحتراما لهم كما هو الحال مع أخته وإنّما عدم رغبة في ذلك فهو جدا مكتفٍ بكميّة الأسرار التي في قلبه والتي لم يُصارح بها أحدا .. لذلك لن يتحمّل بوحا آخر وأسرارا أخرى ليخبّأها في قلبه العميق .. ومن أجل هذا يتحاشى التقرّب من الآخرين والتحدّث في خصوصياتهم .. لا ينفي هذا أن لا تكون له صداقات وطيدة ومع هذا صداقات تستند على الصدق والمساعدة في لحظات الإحتياج شرط أن لا تحمل بوحا أو حتّى شكوى .. وحتّى جهاد، كانت جاهدة أقرب له منه للحديث عن وجع قلبه ..
الحزن المرتسم في عينيها كان أكبر من أن تصمت غزى أمامه أو تتجاهله .. حينما طلبت من أخيها مرافقته وعلّلت موافقتها على هذه الإتّفاقيّة التي يراها سخيفة، لم تحظى بإنتباهه حتّى تحدّثت عنها .. كلمات كانت كفيلة بجعله يشعر بالأسى من أجلها .. "الحزن يقتلها نبضا وراءه آخر .. وهي تحتضر ليس مرضا وإنّما حزنا .." هذه العبارات خرجت من شفتيها.. لا تدري لما حينها فقط شعرت بأنّه سيوافقها .. ودون أن تدري، كانت كلماتها فعلا قد حرّكت بعض مشاعر عاكف.. مشاعر ظنّها قد تخلّص منها .. ليشعر بنغصات في قلبه ويتكهّن سبب ذاك الحزن .. فخرج سؤاله دون أن يقدر على منعه .. "ما سبب حزنها ..؟" هزّة كتف غزى كانت كافية لأن يخمّن السبب.. ليؤكّد لنفسه أنّ ذاك السبب هو الأكثر فتكا في حياة البشريّة .. يقتل نبضا وراءه آخر ، تماما كما وصفته أخته ..
تنهداتها العميقة، أيقظته من شروده .. ليجد نفسه شاردا بها بعد أن كانت هي الشاردة بهما.. عيونها عادت للتمعّن في الطفلين .. صوتها وصلهما بعد دقائق من الصمت، لم يكن ضعيفا بقدر ما كان حزينا .. "فقدت ضحكة لم أسمعها، فقدت حضنا لم أجرّبه وفقدت روحا كانت تحيا في داخلي .." غصبا أمسكت غزى لسانها، لا تريد أن تحثّها على المتابعة، خاصّة وأنّ دقائق الصمت عادت لتلفّ المكان من جديد.. أنفاسها المرتفعة قليلا، تنبئ بأنّها تبحث عن العبارات الأقلّ إيلاما لها .. الأقلّ تحريكا لذكريات طمسها الزمن .. ما قالته زاد من جرعة الفضول لديها، كلامها المبهم جعلها تحاول فهم ملابسات حياتها الماضية، لكن عبثا لا تُفلح .. لتكتّف يديها، كما يفعل أخاها، مغتاظتا من نفسها .. تنظر إلى عاكف، لتحسده على ذاك البرود الذي هو فيه .. في حين كان عاكف، يغلي داخله .. نفس فضول غزى يزهر في نفسه .. يمسك لسانه غصبا عن السؤال .. هو البارد دوما والمتجاهل فنّا، يرى نفسا جديدة تجول داخله، تتصرّف دون إذن منه لتخرج ما لا يرغبه .. وكأنّ به يكتشف نفسه، أو يريدها أن تكسر حاجز الصمت الذي إلتفّ به منذ زمن بعيد ..
أنت تقرأ
افك نبض الجزء الثانى من سلسلة عجاف الهوى لكاتبة أمة الله
Romanceتمهيد ~ يقولون أنّ العطاء يختلف .. فهناك عطاء بلا حدود .. وهناك عطاء بلا مقابل .. وهناك عطاء يملؤُه الأخذ .. ذاك النوع من العطاء مؤذٍ .. ولا أحد ينتبه لأذيته .. نطالب به كحقّ مشروع .. فحينما تطالب الأمّ بـ سنينها التي مضت لتأخذ أضعافها .. يكون عطاءا...