~ إِفكٌ ثانٍ ~
في شرقنا ..
لا أحبّ نظرات الإنكسار في العيون..
ولا ترديد القلوب لـ سمفونيات الفراق ..
هناك فراق يجعلنا أقوى وهناك فراق يضعف صمودنا ..
وفي كلا الفراقين علينا أن نكون نحن بنقاء سريرتنا ..
بأنفاسنا ..
لا للزيف والأقنعة ..
أشكّ أنّ المتألمين من الفراق يرتدون أقنعة الحزن فقط ليكونوا محطّ شفقة وإهتمام ..
لا من أجل نبضات تحنّ لهم ..
كثر الراحلون يا أنتم ..
فـ اُتركوا عنكم البكاء لأنّ الأعين الباكية لم تعد تُراكمرويدا .. رويدا يهدأ النبض ..
حتّى يموت ..في بيت عائلة عزمي، حيث الجدران عقدت مع الحزن عقدا طويل الأمد ..
تمسك صورة تضمّها إلى صدرها، تبكي دموعا صامتة .. منذ تلك الليلة التي إستلمت فيها صور لـ فلذة كبدٍ سرقتها قسوة بعض القلوب منها، وهي على حالتها هذه .. تظلّ تنظر للصورة، تمرّ بأصابعها المرتعشة على الوجه الصغير فتحدّث نفسها بصوت مرتفع ..
" يا حبيبتي كبرتي وأصبح لكِ شعر طويل مثلما حلمت .. حيا حبيبتي من يمشطه لكِ ..؟ من يهتمّ بكِ .. حيا "
ترتعش شفاهها وتبدأ أطراف جسمها بالإرتجاف ثمّ تغوص في نوبة بكاءها ..
هذه هي رفاه، تلك التي أصابتها لعنات الحياة فشدّت خناقها كأنّ بها تعاقبها على إسم لا يجوز في زمن غاب عنه الرفاه والإخاء .. هي من فقدت فلذة كبد حتّى صرخ جسمها معلنا الموت .. لكن لا نموت بقرار منّا .. هي هكذا الحياة .. وحينما يعاندنا الموت، نتلحّف الحزن والبكاء ..
يمرّ عاصم بجانب باب غرفتها، يصله نحيبها .. يتوقّف قليلا يهدّئ أنفاسه الغاضبة .. وعدها بأن يعيد حيا اِبنتها إلى حضنها ولم يفي بوعده .. كيف يتصرّف أمام ذاك الثعلب ثائر مجد العلي .. ثعلب أجاد الإختفاء كلّما ظنّ نفسه وجده يختفي كأن لم يكن له أثر .. جنّد رجال كثر، راقب كلّ من لهم صلة به ولم يصل له بعد ..
يقسم ويعيد أن لا غيره سيعيد البسمة لشفاه اِبنة أخيه .. يتراجع عن رغبته بالدخول .. ليتركها مثقل القدمين، متوجّها نحو غرفته ثمّ يرمي بجسمه المرهق على فراشه ..
البيت كئيب دون كمال ورقيّة .. يحتاجان لشهر عسل جديد .. من حقّهما الراحة والإستجمام، لكن كان عليهما أخذها صحبتهما .. لم يكن قرارا صائبا موافقتها على البقاء وهي أكثرهم إحتياجا لتغيير الجوّ والإبتعاد عن العراق ..
هي حتّى لا تغادر غرفتها، ما عادت تحترم مواعيدها الطبيّة وهذا يثير مخاوفه .. بوادر فقدان الأمل والإستسلام بدأت تزورها .. لن يجعلها تضعف .. كيف ..؟ لا يدري ..
يخيفه تراجعها هذا .. فـ سابقا إن إنهارت تظلّ تقاوم، فترفض أن يساعدها أحدهم على الأكل أو حتّى الوقوف .. الآن ما عادت تهتمّ إن أمسكت الخادمة يديها لتوقفها .. رقيّة في مكالمتها الأخيرة معه، أشارت لمخاوفها من تغيّرها المفاجئ وأعربت عن رغبتها في العودة إلى بغداد .. لولا جهوده لطمأنتها وإيهامها بأنّها فعلا بخير .. كلّه من ذاك الحقير، يريد تحطيمها نفسانيّا وإلاّ لما يرسل لها صورا لـ اِبنتها .. يبتسم وهو يتذكّر لحظة وقوع عينيه على صورتها، كانت عنوانا للبراءة، بخصلاتها القمحيّة وضحكتها التي تشبه كثيرا ضحكة رفاه في زمن مضى .. عليه أن يتصرّف لإعادتها للحياة لرسم الضحكة على شفاهها من جديد .. عليه فعل ذلك وفورا قبل أن يتأخّر كثيرا ..
أنت تقرأ
افك نبض الجزء الثانى من سلسلة عجاف الهوى لكاتبة أمة الله
Romansaتمهيد ~ يقولون أنّ العطاء يختلف .. فهناك عطاء بلا حدود .. وهناك عطاء بلا مقابل .. وهناك عطاء يملؤُه الأخذ .. ذاك النوع من العطاء مؤذٍ .. ولا أحد ينتبه لأذيته .. نطالب به كحقّ مشروع .. فحينما تطالب الأمّ بـ سنينها التي مضت لتأخذ أضعافها .. يكون عطاءا...