الفصل الثاني 💗

1.6K 61 34
                                    

وقف موسى أمام مرآة غرفته الصغيرة و أطال النظر إلى انعكاس وجهه قاتم الملامح.. مع كل فجر يوم جديد يقف تلك الوقفة ليتعرف على هذا الوجه الجديد الذي لم يكن يعرفه من قبل ولا ينتمي إليه.. ويتساءل في حيرة نفس السؤال الذي لم يجد له اجابة طوال السنين الماضية..من أنا؟ ومن أين جئت؟
رفع ساعده القوي مفتول العضلات حتى يجمع شعره المبتل الذي يصل حتى كتفيه.. حدق في ذلك الجرح القديم الذي تملأ قطوبه صدره و بطنه وتساءل حائرًا :
_ أنت مين يا صاحبي؟
_ موسى، موسى.
شيء واحد فقط هو ما يطمئن قلبه و يزيده ايماناً بأن الله دائمًا معه ولن يتخلى عنه..لقد أخرجه سبحانه وتعالى من الظلمات إلى النور و أرسل له هذا الصوت العذب الذي كان يناديه وهو غارق في جروحه يصارع
الموت..
_ لا حول ولا قوة الا بالله يا ستار يارب، انت سامعني يابني، شيلوا يا رجالة معايا، امسك ايدي يابني لو سامعني ..يا خفي الألطاف يارب.
و بتلك اللحظة وجد أصابعه تتشبث بيد هذا الرجل و كأنه طوق النجاة الذي فصل بينه وبين الموت...
_ موسى هم يابني قبل الإقامة.
عاد الصوت العذب العامر بالإيمان يناديه ليخرج ككل يوم من ظلمات الحيرة إلى طريق النور إلى المسجد لأداء صلاة الفجر حاضرًا..
أسرع موسى يرتدي كنزته السوداء الفضفاضة التي تناسب حجم جسده الضخم و خرج مسرعاً من غرفته ليقابل وجه الرجل الطيب الحاج مصطفى:
_ صباح الفل يا حاج.
ابتسم الوجه الأسمر البشوش و رفع يده التي تقدم الخيرات ليربت فوق كتف موسى برفق و حنو اعتاد عليه منذ سنتين و شهور قليلة مروا:
_ ياصباح الورد والياسمين يابني.. أنا قولت راحت عليك نومه.
صار موسى بجانب الحاج مصطفى الى المسجد
رد وهو يبتسم بمرارة:
_ أبدًا ياحاج مارحش عليا نومة بس النهارده أخدت وقت شوية و أنا بحاول أفتكر أنا مين.
مرر الحاج مصطفى حبات سبحته الكريستالة وهو يردد:
_استغفر الله العظيم واتوب اليه.
ثم قال برفق:
_ انت عبد من عباد الله الصالحين ياموسي يابني.. قولي بقى هتفرق معاك في إيه انك تعرف انت مين ولا جيت منين؟
همهم موسى بقلق:
_ الصالحين!! مش يمكن أكون...
صمت خوفاً من هول واقع الكلمة على أذنيه:
ابتسم الحاج مصطفى بطيبة قائلا:
_ تفائلوا بالخير تجدوه ..ان شاء الله ياحبيبي.. و بعدين اللي ربه ينعم عليه بفرصة جديده تخليه يمشي كل يوم على رجله و يروح الجامع يصلي فروضه و يعبده يبقى لسه بيحبه و راضي عنه.
دمدم موسى براحة تسللت إلى قلبه الحائر:
_ الحمد لله على نعمته، بس أنا خايف أوي يا حاج، خايف لأكون عملت حاجه غلط وصلت بيا للي أنا فيه ده، سنتين أهو و أنا فاقد الذاكرة مش عارف أنا مين ولا جيت منين!! لولا انت و البشمهندس شاهين و اللي عملتوا معايا و فضلكم عليا كان زماني ميت وسط الصحراء الكلاب نهشت لحمي.
توقف الحاج مصطفى أمام باب المسجد، و رفع عينيه ينظر إلى الشاب الذي وجده وسط الصحراء يصارع الموت، وقال وهو يرفع يديه ليربت فوق كتفه:
_ ده فضل ربنا يابني، لسه ليك رزق على الأرض.. ياعالم يابني خلينا نسيبها على الله.. وان شاء الله الخير كله من نصيبك، هاه أهو البشمهندس وصل بالسلامة يلا خلينا ندخل نلحق صلاه الفجر حاضر.
همَّ شاهين ناحية والده و موسى وعلى وجهه نفس الابتسامة التي ورث طيبتها من والده.. انحنى ليقبل يد والده:
_ صباح الخير ياحاج، صباح الفل ياموسي ماعلش بقى اتأخرت عليكم.
و دلف الشابين برفقة الحاج مصطفى إلى المسجد لأداء صلاة الفجر جماعة...
لم تذق عينيها طعم النوم.. فقد جفا عيناها الناعستان وتركها بين متاهات قلبها وعقلها تفكر فيه.. صورته لم تفارق مخيلتها محفورة في ذهنها كالنقش على الحجر.. فكرت بسخرية ضاحكة....
ترى ما هي ردة فعل والدتها الدكتورة ماجي شبراوي جراحة التجميل المشهورة لو علمت أنها تفكر في شاب مجهول الهوية! فقير و مشرد يعمل كسائق شاحنة نقل عمال المحجر.. ستفقد وعيها بالتأكيد وسط زوار عيادتها ذوي الطبقة المخملية.. ضحكت برقة قائله:
_ مش ممكن، مامي.
والدتها التي تتباهي بجمالهن ولكن بعد أن خرجت مَي شقيقتها عن إرادتها أصبحت هي المميزة لدى أمها التي تتغنى بجمالها.. شعرها النحاسي.. و عيناها الزرقاوتان المشروطتان، الضاحكتان، كلوزتين مقشرتين شهيتين، وشفتان منتفختان كورقتي الورد الأحمر.. وعنق مفرود كأنه يتباهى برأسها.. وجسد مرسوم التفاصيل كالمرمر و... و...
ان والدتها تجد لكل قطعة فيها ألف وصف لاقناع تلك الغافلات المهووسات بجراحات التجميل.. فهي تجدها تحفة نادرة غالية السعر.. ورغم ذلك سواء كانت جميلة أو لم تكن فإن احساسها بجمالها لم يكن له أثر في حياتها....
دائمآ تترك ناديا كل هذه الأحاسيس لأمها التي تتابهي بإبنتها المدللة وهي تستحوذ على قلوب الرجال...
نعم ترى جيدآ مدى تأثير سحرها و جمالها الرباني في عيون الرجال المتلهفين من حولها.. فهي ابنة أمها في كل الأحوال..إلا رجلاً واحدً لم تؤثر فيه ولم يصيبه سحرها ولم تلمح بعينيه الضيقتين الشاردتين نظرات المتلهفين من حولها.. ويا للعجب لقد حدث العكس و أصبحت هي التي تتلهف لرؤيته و رؤية تلك النظرات بعينيه هو..
عينان غريبتان ضائعتان تبحثان عن الأمان..
_ أووف.. كفاية تفكير فيه بقى، حصلك إيه اتجننتي بيه؟ انتي ناديا رشوان.
نهرت نفسها وقفزت من فوق الفراش حتى تخرج من شرنقة أفكارها المريضة:
_ كوباية لبن.. محتاجة أشرب كوباية لبن سخنه هو ده الحل.
قالت بصوت مسموع وهي تخرج من الغرفة لتجد مَي شقيقتها تجلس فوق بساط الصلاة تسبح..همست ناديا مبتسمة:
_ حرماً يا ميوش، ماشاء الله بقيتي ملتزمة في الصلاة.
جلست ناديا فوق الأرض بجانب شقيقتها التي مالت عليها لتقبلها من خدها برقة داعيه لها بالهدي:
_ عقبالك ان شاء الله حبيبتي، دعيتلك كتير ربنا ييسر أمورك عشان حاسه إنك مشتتة، معقول يا ناديا كل ده بسبب حسام.
هتفت ناديا بسرعة دون تفكير:
_ لأ مش بسبب حسام.
قطبت مَي حاجبيها وهي تخلع جلباب الصلاة لتسألها:
_ أمال بسبب مين لو ماكنش حسام؟! ناديا في حد تاني تعرفيه هو اللي شاغل بالك و تفكيرك بالشكل ده؟
نفت ناديا بهزة متشنجة من رأسها:
_ مافيش حد طبعآ، بس حسام مامي هي اللي عايزاه مش أنا، زي بالضبط ما حصل معاكي كانت عايزه تجوزك دكتور أكرم بس انتي صممتي على رأيك و اتجوزتي شاهين.
عقدت مَي حاجبيها و قالت بتصميم:
_ وانتي كمان لازم تختاري يا ناديا، ع الأقل تختاري الراجل اللي هتعيشي معاه باقي حياتك و تجيبي منه أولادك، لحد امتى هتفضل ماما هي اللي تختار لنا كل حاجه؟ دي حتى الجامعات هي اللي اختارتها.
أحنت مَي رأسها وهمست بحزن:
_ للأسف حتى بابا الله يرحمه كان هو كمان بينفذ كل اللي بتطلبه و تقول عليه.
ابتسمت ناديا برقة وهي تضع رأسها فوق كتف شقيقتها و دموعها تتجمع في مقلتيها كـحاجز شفاف:
_ بابي كان أطيب و أحن زوج و أب كان بيحبنا جدًا و بيحب مامي أكتر.
تشقق فم مَي عن ابتسامة مقهورة وقالت في همس:
_ ياترى هي كمان كانت بتحبه زي ما كان هو بيحبها؟
قطبت ناديا حاجبيها متسائله:
_ تقصدي إيه؟
حركت مَي حنجرتها مزدرده لعابها ثم قالت بخفوت متلعثم:
_ ماقصدتشي.. حاجه.
ولكن ناديا شعرت بعكس ذلك.. فقد توترت مَي و تصلب كتفاها حتى انها شعرت بذلك التشنج.. شددت مَي على كف أختها الصغرى قائله بدعم قوي تستحقه:
_ اعملي اللي نفسك فيه و شايفه انه مناسب ليكي.. لو مش بتحبي حسام خلاص ماترجعيش له مرة رابعة بسبب ضغط ماما، امشي ورا قلبك انتي و حدسك انتي ..اختاري الشخص اللي قلبك دق له و ارتاح ليه.
قالت وهي ترفع عينيها إلى أختها في حيرة:
_ حتى لو كان واحد عادي مش زينا.
هتفت مَي بسخرية وهي تضحك:
_ مش زينا ازاي يعني؟ جاي من كوكب تاني ولا اتصنع في الصين؟ ناديا حبيبتي انسي كلام ماما عن فروق الطبقات دي، كلنا عند الله سواسية كأسنان المشط ..مافيش فرق بينا إلا بالتقوى و العمل الطيب الصالح.
نظرت لأختها بدهشة ممزوجة بالانبهار هامسة:
_ اتعلمتي كل الحاجات دي ازاي و من مين؟
لمعت عينا مَي بالحب وهي تهمس بصوت عاشقة:
_ شاهين علمني كل حاجه بالحب.. عمره ما فرض عليا حاجه سابني أنا اقتنع و أختار و أقرر.. بس كان من وقت للتاني بيعلمني و يوجهني و كمان مامته و باباه وإخواته البنات الناس دي برغم بساطتهم الا ان حياتهم أحسن من حياتنا بكتير، حياة السهر و المناسبات و السفر و كل حاجه كنا بنعملها واحنا بعيد عن ربنا.
أغمضت ناديا بصوت متحشرج خافت:
_ موسى كمان كده.
إلتفتت اليها أختها تنظر اليها بذهول قائله:
_ موسى، هو كمان كده ازاي؟ تقصدي زيهم.
هزت ناديا رأسها بخجل ثم أخفضت عيناها سريعاً قبل أن تكشفها شقيقتها من نظراتها التي أصبحت تفضحها..
ضحكت مَي التي بدأ عقلها يستوعب بعض الأمور لتقول بمكر:
_ قوليلي هنا ايه حكايتك انتي مع موسى؟ و ايه سبب كل الاهتمام ده بيه؟ ناديا في حاجه أنا معر.....
صمتت مَي فجأة عن الكلام عندما سمعت صوت الباب يغلق و شاهين يلقي التحية من الخارج.. همست وهي تطلق تنهيده حائرة:
_ هنكمل الصبح ان شاء الله اعملي حسابك، تصبحي على خير.
ظلت ناديا على حالها منحنية الرأس مغلقة العينين حتى اطمئنت لخروج شقيقتها من الغرفة فقالت وهي ترفع رأسها بغيظ:
_ ايه اللي قولته ده؟ ازاي أسأل مَي عنه بشكل مباشر كده، هو أنا ليه بقيت غبية كده، لااا كده مش هينفع يا ناديا لازم تعملي كنترول و تفكري بعقلك شوية، موسى ايه ده اللى بفكر فيه و بسأل عنه كمان، دي تخاريف.
و نهضت من مكانها بلمح البصر قبل أن تفقد سيطرتها و تنزل إلى شاطئ البحر حتى تراقبه وهو يسبح.

بقلبي رحيق لقائنا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن