الفصل الرابع 💓

1.3K 67 29
                                    

تأففت ناديا بملل وهي تتحرك بالشرفة و تستمع إلى توبيخ أمها المستمر دون فواصل:
_ ردي عليا ناديا.. قوليلي هترجعي امتى عشان أخلي خطيبك يروح ياخدك من المطار، ولا انتي ناوية تقعدي عندك على طول؟ عجبك المكان البيئة اللي أختك جرتك فيه.
أجابتها ناديا ببرود وهي تنظر من الشرفة نحو رصيف البحر:
_ راجعة كمان يومين يا مامي و ياريت حضرتك تبعتي السواق عشان حسام مابقاش خطيبي هو ابن عمتي وبس.
قالت ماجي في حدة هامسة وهي توقع على بعض الأوراق:
_ هنتكلم لما ترجعي علشان أشوف أخرة دلعك ده كله إيه، بس تيجي بسرعة ولا انتي عجبك الحياة هناك زي أختك.
همست ناديا بخفوت حتى لا يصل صوتها إلى مَي و تسمع تجريحات أمها المستمر:
_ على فكرة بقى يا مامي مَي مبسوطة جدًا في حياتها مع بنتها و جوزها مش زي ما حضرتك فاكره.
قالت ماجي بسخط:
_ مايهمنيش هي عايشة ازاي ولا بتعمل إيه أنا خلاص مابقاش عندي بنات غيرك ومش هسمحلك تعملي زيها.
اهتزت ناديا في وقفتها بتشنج و التفتت تنظر نحو رصيف البحر من جديد لتلمحه وهو يقفز بخفة من فوق السور إلى الشاطي الرملي.. ظلت تحدق به في عنفوان مثير للاعجاب وهي تراقبه بعينين مشتاقتين له.. فهي لم تراه منذ يومان.. خلع حذائه الرياضي ثم قميصه وألقاهما بإهمال فوق الرمال.. ثم انخفض بجذعه الطويل و أخذ يشمر أرجل سرواله الجينز الممزق.. و تسلل ببطئ نحو الماء البارد.. كانت الأمواج هائجة و عالية تضرب صدره بلا رحمة كأنها تحاسبه على قسوته معها...
ارتجف قلبها خوفاً عليه.. هذا المجنون الهمجي يدخل إلى البحر بلا تفكير أو خوف ماذا يفعل هل سينتحر و يتركها ؟!
قفزت في مكانها على صرخة أمها في الهاتف وهي تسألها:
_ ناديا مش بتردي عليا ليه يابنت؟ مش عاجبك كلامي طبعا.
همهمت بشرود وهي تراقبه يرفع ذراعيه القويتين وكانا قد ضماها من قبل و ألقى بشبكة صيد الأسماك وسط الماء...
_ اوك يا مامي هكلمك تاني.
صاحت ماجي:
_ ناديا، ناد...
دمدمت ماجي وهي تخلع منظارها الطبي الأنيق عن عينيها و ترميه فوق الأوراق التي كانت توقعها بغضب:
_ حسام لازم يتصرف معاها، لازم و بسرعة.
................
بعد أن أغلقت الخط انقلبت شفتها السفلى رغما عنها.. و ظلت واقفة تنظر اليه طويلاً ولا تدري هل كان ينظر اليها بعينيه المظلمتين.. أم أن عينيه كانتا متجهتين نحوها بلا قصد؟! و بحركة غيرا ارادية وجدت نفسها تضم ذراعيها حول نفسها و تغمض عينيها تتخيله معها يحتنضها ويقبلها واضعًا شفتيه فوق شفتيها تنهدت وهي تفتح عينيها قائله بحنق:
_ و ليك نفس كمان تصطاد يا بارد؟.
و عقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تحرك رأسها، و تزم شفتيها بغيظ ثم نفضت ذراعيها و خرجت من الشرفة تهرول...
................
الصيد يشعره براحة.. يجعله أكثر تصالحًا مع نفسه، يعطيه
هدنة ليرتاح من تلك الصراعات القائمة بين قلبه وعقله..
يعشق كل ماهو متعلق بالبحر رائحته، و أمواجه، ملوحته
التي تذبل جراح قلبه.. ألقى بشبكته التي صنعها بنفسه في وسط المياه بعد أن غاص عميقاً داخل البحر حتي وصل إلى بطنه ووقف ينتظر بصبر... فالصبر بالصيد يعلم الصبر على الحياة..
تنهد وهو يحك مؤخرة رأسه بضيق، ثم حل ربطة شعره الذي انسدل متعرجًا حتى أكتافه، محاولاً أن يمنع عينيه من النظر لأعلى نحو الشرفة، ولكنه بالأخير لم يستطيع مقاومة النظر لأعلى بنظرات مختلسة لا يلمحها أحد..
و كان قلبه دليله.. لمحها وهي تتحرك داخل الشرفة وتتحدث في الهاتف لم يتبين ملامح وجهها ان كانت سعيدة أم حزينة، ولكنه من داخله شعر بالغيرة تأكله وتنهش رأسه..و تساءل في حزم بصوت مسموع:
_ بتكلم مين؟
وعندما اقتربت من سور الشرفة و رفعت رأسها نحوه لم يتردد لحظة في أن يلتفت برأسه للجهة الأخرى، ولكنه تعمد أن تكون نظراته إليها صريحة دون أن يخشى أن يلمحه أحد.. ليس بينه و بينها شيء يذكر ولكنه يشعر أنه يغار بقوة.. اغتاظ منها و من نفسه ومن غيرته، اشتد غيظه برؤيتها وهي تتحدث بالهاتف و تتمايل أمام عينيه تثير جنونه.. تجعله يفكر بجنون أن يذهب إليها ويسحبها من ذراعها نحوه..
انتهت أخيراً من الهاتف اللعين و أغلقته وها هي الآن تقف وتنظر إليه و كأنها تتحداه.. عقدت ذراعيها أمام صدرها.. فتخاصر هو أيضًا واضعاً ذراعيه في جانبيه محركاً رأسه يميناً و يسارًا، حتى تفاجئ بها تدخل من الشرفة مسرعة فإبتسم وهو يقوس حاجبيه وكأنه قد انتصر.. عاود و التفتت نحو شبكته التي كانت تحوي بين ثقوبها الكثير من الأسماك الفضية التي تقفز في الهواء...
عندما أنهى الصيد خرج من البحر، يحمل شبكة الصيد الممتلئة بالأسماك فوق كتفه.. كان الليل قد أسدل ستائره الرمادية فوق السماء، و الرياح قوية باردة ليستقبله العم خليل حارس الشاطئ قائلا بلهفة:
_ اتأخرت كده ليه يا موسى يابني؟ قلقتني عليك أوي.. أصلهم قالوا في الراديو الليلة ان في نوه شديدة قوي..ربنا يستر.
ضحك ضحكة واسعة وهو يطلب من العم خليل قالب كبير ليضع بداخله الأسماك قائلا:
_ البحر النهارده كان عالي و رمى كتير الحمد لله.
تمتم العم خليل وهو يضع القالب فوق الرمال و ينظر للأسماك الطازجة:
_ اللهم صل على النبي، انت اللي ابن حلال و القليل في ايدك كتير يابني.
انحنى و أخذ يعبئ داخل كيس بلاستيك كمية كبيرة من الأسماك ثم ناولها إلى العم خليل وهو يقول:
_ خد شوية السمك دول للخالة بديعة وخليها تعشيك منهم و توكل على الله.
ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغر الرجل العجوز منحني الظهر الذي يساعده موسى دائمًا و تقاسم معه الرزق الذي يأتي به الله من فضله:
_ ده كتير أوي يابني.
_ بألف هنا و شفا ياعمي.. روح يلا الجو هيبرد ماتقلقش أنا هسهر الليلة مكانك لحد ما تيجي الصبح.
ربت الرجل فوق كتفه العاري قائلا بخوف:
_ تسلم و تعيش.. ربنا يسترها معاك يابني و يفك ضيقك
قادر يا كريم، إلبس يابني هدومك بلاش تستهر بشبابك وصحتك.
أومأ برأسه:
_ حاضر ياعم خليل.. بس أولع شوية حطب عشان أشوي عليهم السمك الأول.
و ودع العم خليل الذي تحرك نحو سور الشاطئ ببطئ وهو يحمل شنطة الأسماك.. بينما جمع موسى بعض أعواد الحطب من كوخ الصيادين و أشعل النيران بكومة من الخشب فوق الرمال بجانب كوخ العم خليل الحارس.. و جلس أمام النيران يشوي الأسماك وهو شارد:
_ موسى...
انتفض علي صوتها و لمسة يدها الناعمة الباردة وهي تلمس كتفه برفق:
رفع رأسه و بحلق في وجهها الجميل الذي تنعكس فوق ملامحه ألسنة النار الملتهبة كقلبه ليقول وهو ينهض من مكانه واقفاً أمامها:
_ انتى بتعملي ايه هنا في الوقت ده؟
ضرب كفيه ببعضهما بغضب وهو يتلتفت حول نفسه ينظر هنا و هناك و هتف بحدة:
_ انتي عايزه توقعي نفسك في مصيبة يابنت الناس؟ ازاي تنزلي من البيت و تيجي لحد هنا بالمنظر ده.
و أشار بتشنج إلى فستانها الأسود القصير الذي لا يصل إلى ركبتيها و يكشف ذراعيها و كامل نحرها و صدرها.. صرخ من جديد وقد أخرجته عن طوره:
_ المفروض تاخدي بالك من لبسك ومن تصرفاتك كلها.. ازاي تلبسي كده، ازاي تعرضي نفسك و أختك لكلام الناس؟ أختك اللي تبقى مرات البشمهندس شاهين ابن الحاج مصطفى، لا حول ولا قوة الا بالله.
كانت تسمعه وهي ملتزمة الصمت.. تضع يدها على جبتها بينما دموعها تهدد بالسقوط.. رفعت عينيها لتقابل عينيه الباردة العميقة.. شعرت بقبضة مؤلمة تعصر قلبها بقوة و الدموع تخذلها لتنحدر على خديها.. فهي تعترف لنفسها أنها أخطأت عندما تهورت و نزلت من المنزل دون علم مَي شقيقتها النائمة بعمق الى جانب صغيرتها رؤى...
دون أن تشعر وجدت قلبها يأمرها بالنزول و ساقيها تتحرك نحو الباب.. ماذا كانت تفعل لقد آثار استفزازها عندما تخاصر و ظل يبحلق فيها....و أيضًا هناك سبباً آخر لاتستطيع انكاره، فقد أرادت ان تراه و تودعه قبل أن تسافر.. ربما تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تجمعهما معاً:
_ أنا همشي.
قضم موسى شفتيه بغيظ و توتر جسده قائلا:
_ جايه لحد هنا عشان تقوليلي أنا ماشية ده اسمه ايه؟
صرخت في وجهه باكية:
_ إسمه اني متغاظة وهفرقع منك ومن برودك وأسلوبك المستفز معايا، اسمه اني هبلة أصلا عشان حبيت واحد زيك همجي و غبي و مغرور.
ابتسم ساخراً وهو يحرك رأسه للجانب الآخر يبرطم بكلمات غاضبة غير مفهومة.. شعر بها تقترب منه بشدة حتى كاد جسديهما أن يتلامسا.. وقفت فوق أطراف أصابعها وبرقة حركت أناملها فوق ذقنه ذات الشعيرات الشائكه.. وهمست من بين شفتين متوردتين بصوت ساحر يغوي القديسين ..وهو ليس بقديس وهي تدير رأسه نحو:
_ بتقول ايه؟ سمعني كلامك و صوتك.. يمكن دي تكون آخر مرة أسمعه.
ابتلع ريقه وقال نبرة ساخره تخفي توتره:
_ ليه هموت؟
هزت رأسها بخوف وهي تشعر أن قلبها سينفجر:
_ بعد الشر عنك..
مرر أصابعه بين خصلات شعره وهو يعيد رأسه للخلف قائلا:
_ يابنت الناس سيبيني في حالي أبوس ايدك.. عايزه مني ايه بس؟.
بلعت ناديا ريقها ومسحت الدموع من فوق خدها بظهر يدها وهي تقول:
_ هسيبك.. اطمن أنا مسافرة خلاص ومش هاجي هنا تاني.
زفر أنفاسه الحانقة بقوة وهو يقول بتوتر:
_ مسا..فرة امتى؟
أجابت وهي تقاوم بشدة تلك الدموع التي أحرقت عيناها بقوة.. صوت أنفاسه العالية تصم أذناها حتى عن خفقات قلبها المتلاحقة:
_ بكره أو بعد بكره.. لسه ماقررتش.
اهتز قلبه لهذه الحقيقة.. حقيقة بعدها.. انها تؤلمه حد الجنون:
_ ترجعي بألف سلامه ان شاء الله.
ضمت شفتاها المرتجفتان و تركت نفسها لترتمي بين ذراعيه و فوق صدره.. وهي تلف ذراعيها حول خصره وتُمرغ وجهها في صدره العاري.. تشم رائحته و تتذوق لذعة ملح البحر من فوق جلده:
_ هتوحشني، هتوحشني أوي يا موسى، عايزاك تعرف اني حبيتك، حبيتك جدا.
ظل متسمرًا في مكانه يغمض عينيه و أذنها فوق ضربات قلبه المتسارعة.. و في كل لمسة تلمسها لجسده يشعر أن جزء منه يحترق بأتون ملتهب:
_ موسى أحضني لآخر مرة، اعتبره وداع.
خفق قلبها بشدة عندما أحنى جسده و قرب فمه من أذنها قائلا بصوته الحنون:
_ السمك هيتحرق.
شهقت وهي تبتعد عنه وترفع عينيها لعينيه:
_ سمك ايه؟
زفر أنفاسه المكبوته بقوة وأشار إلى الحطب وهو يلوي شفتيه مبتسمًا:
_ ده.. بتحبي السمك المشوي؟
و انخفض جالساً فوق ركبتيه أمام الحطب وسألها متصنعًا البرود:
_تأكلي معايا؟
أومأت برأسها بنعم وهي تفعل مثله وتجلس أمام نار الحطب تراقبه وهو يخرج السمك من فوق النار ويضعه بطبق بلاستيكي قديم ثم أخذ يصب فوقه ماء ساخن كان يغلي:
_ايه المية دي؟!.
ابتسم وهو ينظر اليها برقة:
_ دي مية فيها ملح و شطة و كمون وكام فص ثوم مهروسين.. بتتحط فوق السمك المشوي عشان يبقى طري و مشطشط.
_امممم ريحتها لذيذه أنا جوعت.
قالت ناديا بحماس وهي تصفق بيدها كالأطفال ثم قلبت شفتيها هامسة:
_ بس أنا مش بعرف أكل السمك ده.
و قامت تهرول خلفه الى داخل الكوخ فسألها وهو يحمل طبق به خضروات طماطم و خيار و قرون من الفلفل الحار:
_ أمال بتاكلي السمك ازاي؟ هاتي كيس العيش ده معاكي.
هزت كتفها بدلال وهي تحمل كيس الخبز وتخرج خلفه من الكوخ:
_ بأكله مخلي الطباخ بيعمله مخلي ومش كده خالص..هو الكوخ ده بتاع مين؟ بتاعك؟
قال وهو يجلس فوق الرمال:
_ ده كوخ عم خليل، أه قولتيلي بقى بتاكلي السمك مخلي! يعني حضرتك مش هتعرفي تقطعي السلطة طالما طباخ و كلام كبير أنا مش قده.
نظرت إليه بعشق و قلبها يخفق بشدة و قالت بصوت رقيق محب:
_ هتعلم أعمل كل حاجه عشان خاطرك بس تبقى معايا.
*******
رفعت ماجي كأس المشروب لترتشف منه برقة و قالت لحسام الذي يجلس أمامها يتناول العشاء:
_ حسام أنا قلقانه على ناديا جدًا.. قعدتها عند مَي مش مريحاني بالمرة لازم تسافرلها و تجيبها.
ترك حسام الطعام و رفع رأسه ينظر إلى ماجي بطرف عينه ثم قال وهو يفرك كفيه ببعضهما البعض:
_ انتي فاكره يعني لما أسافر لناديا و أقولها تعالي معايا هتيجي معايا كده بكل سهولة، انتي مش عارفه بنتك ياحُبي ولا إيه؟
هزت ماجي رأسها وقد استغربت برودة أعصابه فقالت وهي تحرك خاتمها الألماس حول اصبعها:
_ لا عرفاها كويس بس مابقيتش عارفاك انت.. حاسه انك متغير بعد موت آتينا ولا أنا غلطانه؟
حك حسام جبهته بتوتر وتنهد بضيق.. قام من مكانه ليجلس بجانب ماجي التي بدا على ملامحها الغضب و القلق الشديدان.. أمسك كفيها و أخذ يقبلهما بحب:
_ أنا مايهمنيش حد في الدنيا غيرك انتي وبس لا ناديا ولا آتينا ولا أي واحده.. أنا بحبك يا ماجي و عايز أبقى معاكي، بعمل كل حاجه عشانك.. بنفذ كل اللي بتطلبيه مني من غير ما فكر ليه.. مش عايزه تنفذي ليا طلب صغير بأطلبه منك؟
تبسمت ماجي و سحبت كفها من بين يديه لتملس خده برفق و كأنها تتعامل مع طفل صغير تراضيه ..وقالت بعيون تلمع بالمكر:
_ أنا كمان بحبك، بس حب من نوع تاني، حب مصالح متبادلة ماينفعش فيه لا جواز ولا ارتباط علني قدام الناس، لأنه غلط عليك و عليا.
هدر حسام من بين أسنانه:
_ آآآه قولي كده حب مصالح يعني عشان مصلحتك و...
قاطعته ماجي بحدة رغم هدوء صوتها:
_ و مصلحتك أنت كمان، حسامي انت نِسيت انت كنت فين و بقيت فين؟ كنت بتستني أنت و أمك الكام قرش اللي بيرميهم رشوان كل شهر ليكم، كنت عايز تركب عربية أحدث موديل و تلف العالم و يبقى عندك فيلا و رصيد في البنك.. كل ده اتحقق معايا أنا.
دمدم حسام بتوتر وهو يقترب منها ويهمس:
_ انا قتلت خالي عشانك.
حركت ماجي كتفيها بلا مبالاة و تراجعت للخلف بإسترخاء وهي تستمتع بنظراته الجائعة لبشرة كتفها الذي انزلق الفستان عنه لتمرر اصبعها فوق خده:
_ و إيه يعني.. هو أصلا كده كده كان هيموت.. و جوده كان أكبر عائق ليا و ليك.
رفع حاجب شيطاني واحد وهمس ببطء:
_ انا خنقته بإيدي دي عشانك، عشان أبقى معاكي انتي و نتجوز مش عشان أتجوز بنتك.
هزت رأسها وهي تلوح بيديها مبرره:
_ ومين قالك إننا مش هنبقى مع بعض؟ جوازك من ناديا هيكون جواز سوري على الورق بس.
صمت متلجلجًا لا يعلم كيف يتعامل معها؟ و كيف يشرح لها بأنه يحبها هي.. يريدها هي:
_ ليه؟ ليه؟ مش فاهم، بتعملي كده ليه؟
جذبته ماجي من قميصه و انقضت على شفتيه تقبله بجنون ثم تركته وقالت بأنفاس ملتهبة وهي تنزع عنه قميصه:
_ علشان جوازنا هيخلي العيون تبقى عليك و عليا.. كل العايلة و الناس هتتكلم و أولهم بناتي و خصوصًا مَي، وقتها هتعرف مين الراجل اللي كان معايا و شافته من ظهره.
أغمض حسام عينيه مستسلماً لنعومة شفتيها فوق عنقه و صدره وهي تمطره بقبلات محمومة بالرغبة لتستغل ماجى استسلامه لها و لسحرها:
_ جوازك من ناديا ضامن ليا أنا حسامي، علشان تفضل دايما جنبي و معايا هنا في البيت و شغلنا، جوازك منها على الورق و بس..مش هتقرب منها ولا تلمسها.. أنا مش هقبل ان حد يشاركني فيك حتى لو كانت بنتي.
زفر حسام بسخونة وهو يجيب باستسلام:
_ طالما هفضل جنبك وهتبقى ليا أنا ممكن أعمل أي حاجه عشانك، المهم تحبيني زي ما بحبك.
قالت بنبرة مغرية:
_ بحبك، بحبك.
_ مش أكتر مني.
هتف حسام بعشق وهو يزيح بذراعه أطباق العشاء من فوق الطاولة لتقع و تتناثر فوق الأرض الرخامية، ثم رفع ماجي من خصرها ليضعها فوق الطاولة و ينهال عليها بعشقه المحرم الذي تلعنه الأرض و السماء..
************
جلست رحمة فوق الأريكة أمام التلفاز، تتابع في تأثر الفيلم الرومانسي المفضل لديها.. تعودت ان تشاهده دائمًا مع ياسر كلما عرض على شاشة التلفاز، ولكنها كانت شاردة تشعر بملل.. لقد عادت من الإسكندرية منذ يومان بعد أن قضت أسبوعباً كاملا وسط عائلة والدتها، وقد استمتعت كثيرًا بالأيام التي قضتها معهم بمنزل العائلة الكبير ،و من ثم قررت العودة إلى القاهرة قبل عودة زوجها من رحلة عمله....
انها تشتاق إليه و الحنين يغمرها، ولكن هناك شيءٍ ما يخنقها ويطبق فوق صدرها لا تعلم سببه.. برغم أنها تحدثت معه و اطمئنت عليه وسمعت صوته سعيدًا و بخير، لكنها أصبحت دومًا شديدة الخوف و القلق.. فقد أصبح هذا الشيء يرافقها منذ أن رحل كل أحبائها عنها، و أصبحت وحيدة تعاني من مرارة الفقد القاسية في غياب زوجها الذي أصبح يعوضها عن والديها و شقيقها أحمد:
_ أحمد.. الله يرحمك ياحبيبي.
و كالعادة وجدت رحمة عينيها تبكيه بشدة، و قلبها يتألم على رحيل شقيقها الذي فقد سمعته شبابه و سمعته ظلماً، بعد أن وقع ضحية الخيانه و الشر.. مازالت حتى الآن تفكر بحزن و غضب و تسأل نفسها في حيرة من هم هؤلاء المجرمين الأشرار الذي أوقعوا بشقيقها في تلك التهمة الكاذبة الملفقة؟؟ حتى ياسر مع مرور الوقت أصبح هو الآخر مثل الآخرين مقتنع أن أحمد شقيقها متهم، وليس بريء مما جعل الأمور بينهما تتعقد و كثرت الخناقات و المشاكل اليومية بينهما، و استمر الحال هكذا حتى بعد تسمم جنينها في بطنها وفقدته هو الآخر.. كادت أن تفقد حياتها لولا عناية الله عز وجل.
مسحت دموعها التي تنهار فوق وجنتيها بقهر من الظلم الذي حل على شقيقها.. فقد ظلمه الجميع ظلماً كبيراً و أصبح متهمًا في نظر الجميع.. عائلة زوجها و أهل الحي الذي كانوا يسكنون فيه، حتى زملائها بالمدرسة التي تعمل بها لدرجة أن مديرة المدرسة طلبت منها بطريقة قاسية أن تستقيل من عملها، و تقدم في أوراقها في مدرسة أخرى حفاظاً على سمعة المدرسة و الطلاب والمعلمين أيضًا.
فعلت دون نقاش فهي لم يكن لديها القدره لتحمل القيل والقال، و الغمز والهمس من خلف ظهرها، وساعدها ياسر في تقديم أوراقها بمدرسة خاصة بعيدة....
و ابتعدت عن الحي القديم الذي نشأت و تربت فيه هي و شقيقها، و أغلقت منزل والديها بعد أن رفضت بيعه برغم إلحاح ياسر عليها لبيعه و الخلاص من أثر الماضي.. إلا أنها رفضت الأمر رفضًا قاطعًا.. وصممت على رأيها أنها لن تبيع منزلهم الذي كبرت فيه هي و أحمد وسط والديهما، و عاشوا بين جدرانه أجمل أيامهم، لأنه المنزل الذي يحمل رائحة أحبائها...
ارتجف جسدها على اهتزاز الهاتف الذي كان فوق ساقها، ونظرت رحمة الي شاشة الهاتف.. الإتصال من رقم غير معروف!! استغربت ولكنها فتحت الهاتف و أجابت برقة:
_ الو..
_ الو.. مدام رحمة عبد الغني.
_ أيوه أنا.. مين حضرتك؟
تنحنح عابد قائلا بصوت أجش واثق:
_ مدام رحمة معاكي المقدم عابد عبد الله.. أتمنى حضرتك تكوني فاكراني.
قطبت رحمة جبينها.. تتذكر الإسم و أيضًا الصوت المميز، فهي عادةً لاتنسى الأصوات بسهولة.. لتتسع عيناها فجأة وهي تنزل ساقيها من فوق الأريكة تهتف بقلق:
_ عرفتم المجرمين الحقيقين اللي ظلموا أخويا.
أجابها عابد بثقة:
_ ان شاء الله حلاقيهم قريب جدًا يامدام رحمة.. بس لازم انتي تساعديني علشان أقدر أمسكهم واحد واحد.. انا بكلمك عشان كده.
قالت رحمة وهي تكاد تبكي:
_ بس أنا ماعرفش أي حاجه.. وكل حاجه أعرفها قولتها في التحقيق.
ظل عابد يستمع اليها ثم قال بعملية:
_ أنا عارف انك ماتعرفيش.. بس في معلومات جديده أناعرفتها و لازم انتي كمان تعرفيها.
هتفت رحمة متلهفة و بصيص من الأمل يتجدد إليها:
_ انا مستعدة أعمل أي حاجه بس براءة أخويا من التهمة دي تظهر حتى لو بعد موته.
ابتسم عابد هو يقول:
_ أنا عايز أشوفك و أتكلم معاكي ضروري ينفع بكره.
فكرت رحمة قليلاً ثم قالت بحزن:
_ للأسف بكره مش هينفع.. لأن ياسر راجع من السفر ويمكن مقدرش ا.....
قاطعها عابد سريعاً دون تفكير:
_ أستاذ ياسر مش لازم يعرف أي حاجه عن الكلام اللي هيدور بيني و بينك.
همست رحمة بخفوت قلق:
_ ليه يافندم؟! ياسر كمان ممكن يساعدك.. حضرتك مش عايز ياسر يعرف ليه؟
رد عابد بخفوت به نبرة حادة:
_ مدام رحمة لو عايزه براءة أخوكي تظهر مش لازم أي حد يعرف حتى لو كان جوزك.
ابتلعت رحمة ريقها و جزء من الشك يتسلل داخل قلبها فقالت وهي تنظر للوقت الذي لم يتعدى الثامنة مساءً:
_ ممكن أشوفك دلوقتي لو وقتك يسمح.. بصراحة مش هقدر أتحمل لحد بعد بكره.
قال عابد بحماس:
_ تمام جدًا.. ياريت ، تحبي أجيلك فين أقرب مكان يناسبك؟
فكرت رحمة ثم قالت وهي تنهض واقفة:
_ ستاربكس المهندسين مناسب لحضرتك؟
فأجاب عابد وهو يتحرك بسيارته على الفور:
_ نص ساعة و هكون هناك ان شاء الله.
فقالت رحمة وهي تتحرك نحو غرفتها لترتدي ملابسها:
_ وأنا هكون في انتظارك هناك.
*و بعد نص ساعة..
كان عابد يدخل من باب الكافيه ينظر حوله في المكان.. لمح رحمة تجلس في طاولة قريبة من النافذة، تنظر من خلالها وهي شارده الذهن و أمامها كوب زجاجي أبيض تتصاعد منه الأبخرة.. ليتقدم عابد نحوها حتى توقف أمامها قائلا:
_ مساء الخير يا مدام رحمة.
رفعت رحمة عينيها الملبدة بالدموع نحو عابد وابتسمت له هامسة:
_ مساء النور ياسيادة المقدم.

بقلبي رحيق لقائنا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن