الفصل1 مفاجأة مذهلة

298 3 2
                                    


فتحت باب غرفتها. ألقت حقيبتها ومعطفها على الأريكة المخملية الصغيرة ذات اللون الأحمر العنبي. ارتمى جسدها المتعب في أحضان السرير الكبير كأنها لم تره منذ أيام..كأنهالم تره منذ سنين..

خمس سنوات مضت ولكنه لم يتغير. خمس عقود.. ببردها و مطرها.. بزهرها وحرها. لم يتغير، عدا اختفاء بعض الشعيرات من مقدم رأسه.. شعيرات آثرت الانصياع لطغيان الزمن.. أو ربما

آثرت السقوط تضامنا مع محنة أوراق الخريف الذابلة.

ثبتت عينيها في سقف الغرفة. جسدها النحيف مرهق، مع أنها لم تأت أي جهد استثنائي. يبدو أن حركة الأحاسيس تلتهم طاقة البشر أكثر من حركة الجسد.

عيناها تحاور سقف الغرفة كما يحاور المرء الحاسوب. تطلب منه كشفا مفصلا عما وثقته الذاكرة من أحداث ومشاعر قبل خمس سنوات خلت. كانت تظن أنها نسيت كل شيء.. أن الزمن يمتص المشاعر ويبتلع الذكرى.

ولكن.. كيف لنظرة عزلاء أن تخترق أسوار الزمن.. وتهزم جيوشه المدججة بأسلحة الدمار الشامل.

كيف للمسة.. لمصافحة.. أن تنفخ الروح في أحاسيس كفنتها ودفنتها بنفسها في مقبرة النسيان الأبدي. هل يعقل أنها لم تمت؟

كيف يعقل هذا، بعد أن حطمت بيديها كل الهدايا وأحرقت كل الصور، وقاطعت كل الأماكن التي جمعتهما يوما، ومزقت كل الثياب التي لبستها لمقابلته، وسكبت بحوض الحمام عطرها المحبب لديه، وهجرت كل الأصدقاء المشتركين؟

منذ خمس سنوات وهي تعيش حياة هادئة. ربطت وحلت علاقات مع غيره. سافرت واستقرت. تزوجت ثم انفصلت. حياة هادئة لا يشوبها تضارب في المشاعر ولا توتر في العلاقات. كل شيء كان واضحا. لا عشق بعده.

هزمها العشق يوما ولم تسمح له بعدها أن يقتحم ثانية مملكة مشاعرها المحصنة. أغلقت قلاعها دون خيول طروادة.. حاربت كل الحيل والألاعيب..

تسلحت بعقلها.. جعلته ربان سفينتها في بحر الحياة الهائج.. قائد ثورتها على كل أنواع

الاستعباد. نجحت في طمس ذكراه.. أو هكذا خيل إليها..

لم تدرك في تلك اللحظة، إن كانت يدها تصافح يده على الطريقة "الإدارية"، أم أنها كانت تعانقها لتستخلص من عرق الشغف القديم عصارة نبيذ اللقاء.

كل شيء توقف في تلك البرهة.. توقف الزمن وتجمد كل شيء حولها.

تجمدت ابتسامة المدير العام سي شريف العطار.. وتجمدت عبارات التعريف والثناء التي كان يقولها لتقديم المدير الفني الجديد ذاكر عبد الملك.

تجمد الهواء وكل الكائنات الميكروسكوبية والذرات متناهية الصغر التي ترقص بمكتبه.

تجمد رؤساء التحرير والصحافيون وكل الموظفين في مجلة " تونس الثقافية ".

عبث الذاكرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن