ثلج قطني يتهاوى، يكسو رصيف "مون مارتر" بياضا. ربما دموع دببة القطب الشمالي البيضاء. هذا ما قال لها بابا كامل وهي لا تتجاوز سن الخامسة.
هل كانت تلك كذبة بيضاء؟
الحرارة مرتفعة بمطعم "لابوهام" الباريسي المتصدر "ساحة التارتر". جميل أن نشعر بالدفء ولا يفصلنا عن أكوام الثلج سوى جدار بلوري رفيع. جلست خلف الواجهة البلورية.كانت ساهمة تراقب حركة البشر على إيقاع الزمن. لم تهدأ تلك الحركة رغم الثلج ورغم البرد الأسطوري.
فقط رسامو هضبة "مون مارتر" الجالسون، اختفوا مؤقتا مع لوحاتهم التي تمثل في معظمها المعالم الباريسية.
بقي بعض "البورتريتيست" المتجولين، يستوقفون المارة وخصوصا منهم السياح عارضين عليهم استنساخ ملامحهم على الورق الأبيض مقابل بضعة أوراق ملونة. غريب أمر ذلك القلم أو تلك الريشة. تسجن بلامبالاة تقاسيم المارة وملامح المدينة خلف قضبان من الحبر والورق، وكأنها تحنط الزمن وتكفن مومياءه في أهرام المادة.
كانت تنتظر جان بيار و ايلودي، زميليها في المجلة الفرنسية "لو موند كولتورال"، العالم الثقافي. أنيط بعهدتهما العناية بها و تأطيرها أثناء مدة التربص التي ستمضيها في تلك المجلة الفرنسية. توطدت الصداقة معهما منذ الأيام الأولى للتعارف. عمق ثقافتهما جعلت صحبتهما غاية في التسلية والإثراء.
مر شهران على حلولها بالعاصمة الفرنسية. لم تكد تشعر خلالها بالضجر أو الوحدة إلا نادرا. كثيرا ما تلتقي بهما بعد العمل في ذلك المطعم أو في مقهى " أوكليرون" المحاذي له.
أخبرها جان بيار أن العديد من كبار الرسامين مروا بساحة التارتر بمن فيهم "فان قوق"و "بيكاسو". أصبحت أيضا تلتقي بآمال مرتين في الأسبوع على الأقل.
حين علمت آمال بقدومها إلى باريس كادت تقفز من هاتفها الجوال لتحضنها بين ذراعيها. أصرت على استقبالها بمطار "أورلي" مع صديقها انريكي. استضافتها مدة يومين في شقتها في الدائرة التاسعة من العاصمة الفرنسية. أمضيا ليلة مجنونة في علبة الليل الشهيرة "ذو كوين"، دون حضور انريكي الذي رضخ إلى رغبة صديقته الدكتاتورة. أقنعته بأنها تريد سهرة نسائية صرفة. رغم محاولة آمال استبقاءها بشقتها، أصرت على استلام عشها الجديد بعد أن اتفقت معها على تجديد اللقاء.
اكترت لها ايلودي شقة صغيرة، في الدائرة الباريسية الثامنة، قريبا من المجلة ومن "الشانزيليزي". غرفة واحدة في الطابق الرابع تحتوي على كل المرافق الضرورية. بدت لها على صغرها مفتاح العالم.
انفجر وليد ضاحكا، تقدم نحوها والتقط الدمية والدب وقال مازحا:
-ماذا؟ هل أفزعتك؟ ألا زلت تخافين العفاريت؟
كان في السادسة من عمره لما تعمد إطلاق صيحة قبيحة ليفزعها. كانت يومها في المطبخ تملأ مزهريتها الصغيرة ماء. من شدة هلعها، سقطت المزهرية من يديها فتهشمت. بكت طويلا تحسرا على هدية ماما زبيدة. حضنها وليد يومها، عبر لها عن ندمه ووعدها بألا يعيد إفزاعها. لم ينكث عهده سوى ذلك الصباح.
أنت تقرأ
عبث الذاكرة
Romanceملخص: نجلاء صحفية لامعة وامرأة مستقلة وقوية الشخصية وغامضة. تتفاجأ، ذات صباح، بأن ذاكر الذي عشقته بجنون منذ خمس سنوات أصبح المدير الجديد للمجلة التي تعمل بها. كانت علاقتهما نارية الى حد الجنون ثم انفصلا بسبب الكبرياء. يتملك نجلاء الارتباك وتغرق في...