الفصل3 هدنة العاشقين

131 1 0
                                    


يوم من أيام أكتوبر كأحلى ما يكون، بدأ النهار مشرقا وجميلا.. رغم عناد تلك السحب المتزلفة المتفرقة في الأفق، التي أصرت أن تفرض حضورها غير المرغوب فيه، في عرس الشمس الخريفي.. حاجبة بين الفينة والأخرى، نور العروس ودفئها الإلاهي.

أسرعت الخطى. لم يكن حذاؤها الأسود ذو الكعب متوسط الارتفاع، ليعينها على المشي

الحثيث. "ما كان علي أن ألبس هذا الحذاء"، خمنت وهي تشق الإسفلت على مستوى نزل

"الأفريكا" لتصل إلى مقر مجلة "تونس الثقافية" في نهج ابن خلدون بتونس العاصمة.

تركت سيارتها، كالعادة، في المرآب قبالة الساعة العملاقة، لتتم المسافة التي تفصلها عن مقر العمل مشيا على الأقدام. تحب المشي. ترى فيه محرك الخيال ومكبح الاضطراب النفسي.

كانت راضية عن زيارتها الميدانية لمقر جمعية الأمل الخيرية. أمضت هناك كامل الفترة الصباحية من العمل. أجاب الجميع عن أسئلتها، حتى الجريئة منها، بصراحة ورحابة صدر.

ابتسمت متذكرة نائلة، رئيسة الجمعية، وهي تصف لها بتأثر واعتزاز، سعادة الأطفال المعوزين لحظة تقبلهم لهداياهم المشتملة على أدوات مدرسية وميدعات وبدلات رياضية.

التزمت بوصفها رئيسة تحرير قسم المسائل الاجتماعية، بتخصيص مقال كل شهر لتسليط الأضواء على الأنشطة الجمعياتية ذات الطابع الخيري. اتفقت مع نائلة على مرافقتها في إحدى الزيارات الميدانية حتى تتعرف عن كثب على نشاط الجمعية.

مهما اختلفت الأديان والأجناس والأعراق واللغات والألوان فألم الإنسانية واحد. لن يجرأ بشر على التبجح بلقب "إنسان"، إن لم يشعر يوما بأنين المعذبين في الأرض.. معاناة المنسيين والبؤساء. إن لم ير أياديهم الممدودة نحوه تطلب فيء التآزر والرحمة في بيداء الهمجية والأنانية القاحلة. فما بالك لو كانت اليد الممتدة نحوك يد أخ.. شقيق تسري في شرايينك دماؤه.. تربط بينكما جسور الانتماء إلى نفس المصير..

كم جميل أن نهدي السعادة إلى الأطفال.. إلى الآخرين.. ضحايا النسيان واللامبالاة.. ضحايا الحظ العاثر.. ما أجمل أن نقلب حزنهم وشقاءهم، ولو للحظات، إلى فرح يشع بأعينهم فيملأ عالمهم الصغير ضياء..كم عميق أن نبتعد ولو لدقائق عن تفاهة حياتنا اليومية ونرسل إلى هؤلاء، دقيقة من تفكيرنا على الأقل، يشعرون بها فيحسون أنهم ليسوا وحيدين على هذه الأرض..

أفلتت من قبضة صدرها تنهيدة عميقة.. السعادة.. أي لفظ.. وأي معنى.. هل أنها حقيقة أم هي سراب يندثر في تلك اللحظة التي يخيل إلينا فيها أننا اقتربنا منه.. أننا أمسكناه؟

واصلت سيرها على رصيف شارع "بورقيبة". بدأت حبات مطر خجولة تتساقط رذاذا، تنشد أحضان الأرض وتذوب معانقة ثراها العناق الأبدي. شرع سيل من الصور يتدفق من المجهول ويهدد بالانفجار.

عبث الذاكرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن