شمس متوهّجة تتوسط كبد السماء. عجزت أصابعها الذهبية المشتعلة عن طرد لسعات الصقيع الخريفي. أوائل شهر نوفمبر تفتح الباب على مصراعيه لبرد جليدي لا يرحم.
أحكمت إغلاق أزرار معطفها الصوفي الأسود. نزلت من السيارة. دفنت يديها المجمدتين في
جيبي معطفها. الثانية بعد الزوال. الساعة العملاقة لا تخطئ.
بدأت رحلتها اليومية في شارع العاصمة الكبير في اتجاه المجلة. لم تشعر برغبة في الذهاب رأسا إلى هناك. ينبغي أن ترتب دفاتر أفكارها.
ساقتها قدماها إلى مقهى "لونيفار". دعتها كراسي الرصيف إلى الجلوس ولكن البرد كان أقسى من أن تقبل الدعوة.
جلست داخل المقهى خلف الواجهة البلورية، في نفس الطاولة التي اعتادت احتلالها مع صديقاتها.
كأنها كانت تنتظرها. بدأت تتفرس في وجوه المارة. فيما خلف الأقنعة، وراء الظلال. نساء ورجال. شيب وشباب. لكل حكايته. لكل آلامه وأفراحه. لكل ماضيه ومشاريعه. طلبت من النادل "كافي كرام". عليها أن تفكر قليلا في ذلك العرض الذي تلقته منذ ساعات.
حين استيقظت ذلك الصباح شعرت برغبة في مواصلة الاختباء في دفء فراشها. هاتفت سي شريف لتعتذر له عن ضرورة تغيبها في الفترة الصباحية. أعلمها سي شريف بأنه كان سيتصل بها ليخبرها بأمر مهم. استفسرت عن الأمر. أعلمها بأنه تم قبول مطلبها في قضاء فترة تربص بستة أشهر في باريس لدى إحدى المجلات الفرنسية المتوأمة. كادت تنسى ذلك المطلب. سجلته منذ مايفوق السنة. حسبت أنه رفض، أمام تأخر الرد. مصادفة غريبة أن يقبل مطلبها الآن بالذات.
جاءت القهوة أخيرا مع ابتسامة النادل كمال. حرارتها لاذعة كما تحبذها. أمسكت بيديها الفنجان الكبير. بدأت الحياة تنبض من جديد في شرايينها، والصور تتدفق إلى رأسها.
حين خرجت من شقة ذاكر ذلك المساء لم تكن تعلم وجهتها بالتحديد. ألح عليها بأن تمضي الليلة في غرفة الأصدقاء المجاورة لغرفته. تعلل بتأخر الوقت. أما هي فتمسكت بالعودة إلى شقتها.
كانت الساعة تقارب الحادية عشرة ليلا حين أطفأت المحرك. ألقت نظرة من سيارتها على شقة وليد. نور خافت ينبعث من الشباك. حدسها في محله، لم ينم بعد. اهتز صدرها ارتياحا. اعتادت اللجوء إليه وقت الأزمات. إنه الوحيد القادر على تهدئة روعها في أعسر الظروف. تلك الليلة، وجدت نفسها في مأوى السيارات المظلم مثقلة بأطنان من الأسئلة. هذه المرة وليد داخل دائرة الأزمة. لماذا أخفى عنها وليد بقاءه على اتصال بذاكر؟ ظل ذلك السؤال يتكرر في ذهنها منذ غادرت شقة هذا الأخير.
رأسه على صدرها. عطره يجتاز حدود حواسها. شعره بين يديها مثل ألمه. سكينة موسيقى العود تغمر المكان. اختفى اختلاف الجنس بينهما في تلك اللحظة. لا وجود لامرأة في تلك القاعة ولا لرجل. فقط هما. كائنان من بني البشر، تجمعهما لحمة اقتسام الألم.
أنت تقرأ
عبث الذاكرة
Romansaملخص: نجلاء صحفية لامعة وامرأة مستقلة وقوية الشخصية وغامضة. تتفاجأ، ذات صباح، بأن ذاكر الذي عشقته بجنون منذ خمس سنوات أصبح المدير الجديد للمجلة التي تعمل بها. كانت علاقتهما نارية الى حد الجنون ثم انفصلا بسبب الكبرياء. يتملك نجلاء الارتباك وتغرق في...