الجزء الثاني: لكلّ جوادٍ كبوةٌ

551 35 3
                                    

ألجزء الثاني: لكلِّ جوادٍ كبوةٌ
دثّر المساء أجواء أضنة الربيعيّة بوشاح من الرماد تزيّنه نجوم مشعّة تتراقص جذلى في رحب السماء فحلا السهر وطال السمر بين أحضان القصر العتيد. جلس المدعوّون إلى مائدة العشاء يتشاركون وأصحاب الدار ما لذّ وطاب من المأكولات ويشربون نخب اللمّة الحلوة. كان روزجار، ابن السبعة أعوامٍ، محطّ أنظار الجميع خصوصًا السيّدة نازلي، له في قلبها مكانة مميّزة، ربّما تجد في طفولته البريئة صدًى لعاطفة لم تعشها حتّى الحين، عاطفة الجدّة التي تحبّ أحفادها حبًّا جمًّا، ترعى احتياجاتهم، تروي لهم حكايا قديم الزمان وتتفنّن في تدليلهم ومداعبتهم. جلس بجوارها تلقّمه على هواه، وتشنّف أذنيها لكلماته العذبة تطلق لها العنان في الضحك. جمعة بعيدة عن التكلّف والرسميّات، روّادها تربطهم صداقة العمر، ولعلّ هذا ما دفع سحر بداية إلى الاعتذار عن مشاركتهم العشاء، لم تستسغ وجودها دخيلة بين الأصدقاء لكنّ السيّدة أصرّت على حضورها ولم تترك لها أيّ مجال للمناقشة. كانت تتناول طعامها بصمت، تجيب عن أسئلة إيلّا التي صبّت كلّها ضمن نطاق التعارف لكن يمان لم يكتفِ بالكلام مع نديم بل كان يسترق النظر إلى وهج صاحبة الزمرّد، كمراهق يخشى فضيحة المغامرة، حضورها الهادئ أحاط روحه بسحابة من الانجذاب تدفعه طوعًا نحو اكتشاف عالم أنوثتها الخياليّ. أمّا المفاجأة الكبرى التي أطلقتها السيّدة في نهاية العشاء فكانت رغبتها بالانضمام إلى رحلة المزرعة وقد لاقت فرحة عارمة من الجميع فهتف يمان وهو يضمّ يدها بين راحتيه:
-لا تتصوّري كم أسعدني قرارك هذا!
-حبيبي، كلّ ما أريده من هذه الدنيا أن أراك سعيدًا
وما إن أنهت كلامها حتّى أدارت وجهها صوب سحر الجالسة بالقرب من روزجار وقالت بمنتهى اللطف:
-سحر، هواء المزرعة ينعش الروح، سنقضي سويًّا يومًا ممتعًا إن شاء الله
-إن شاء الله سيّدة نازلي
صفّق روزجار بحماسة يعبّر عن مدى فرحه وقال وهو ينظر إلى سحر بكلّ براءة:
-أنا سأركب المهر، أصبحت كبيرًا ولا أخاف منه، وأنتِ؟
-أنا أحبّ الخيول كثيرًا ولا أخافها، لكن لم أمتطها سابقًا
-عمّي يمان يعلّمك كما علّمني، هو بارع جدًّا، أليس كذلك يا عمّي؟
- أنا جاهز، ألمهمّ أن تكون الآنسة سحر جاهزة
إزاء جوابه الصريح ردّت بكلّ هدوء:
-أشكرك سيادة الرئيس لكن لن أترك السيّدة كي أتدرّب على ركوب الخيل، واجبي أن أبقى دومًا إلى جانبها
-وأنا أريدك ألّا تفوّتي الفرصة صغيرتي، لن يصيبني شيء
تدخّل نديم مشاكسًا وهو يغمز صديقه بعينه:
-أجل، في الحقيقة، البلياردو وركوب الخيل من تخصّص سيادة الرئيس
صديق العمر لم تغفل عنه نظرات الرئيس إلى الضيفة الحسناء، فمنذ وصوله إلى القصر برفقة عائلته أحسّ أنّ يمان شاردٌ معظم الوقت، وأتى العشاء يؤكّد إحساسه فانجذاب صاحب الدعوة إلى الممرّضة بادٍ عليه رغم محاولات التخفّي الفاشلة.
أمّا الرئيس فقد بدأ التخطيط ليوم الغد، أتته فرصة لم يكن يتوقّعها، تعتريه رغبة جامحة بالتقرّب من الممرّضة، يبغي اكتشاف الإنسان الكامن في داخلها، كلّ ما فيها يشدّه إليها فلن يأبه لأيّ اعتبارات أخرى، هو في إجازة وبين عائلته. لكن ماذا عنها؟ كيف السبيل إلى معرفة رأيها؟ أيمكن أن تستغلّ منصبه كي... لاااا، وألف لاااااا، ليست من هذه الطينة، كلامها، عفويّتها تفانيها في واجبها كلّها نقاط قوّة تشفع لها، ألم يؤكّد له نديم أنّها أهل للثقة؟ سيرتها تلمع ذهبًا وسجلّها أبيض كبياض الثلج، فما الداعي للقلق؟ لا مجال للقلق، يراها من زينة البشر وهو لم يُخطئ يومًا بطينة البشر. لطالما آمن بحدسه، وحدسه يُنبئه برحلة معها حتّى آخر العمر فلن يتوانى عن الإبحار للوصول إلى مرسى الأحلام.
إنطلق الموكب الرئاسيّ في الصباح الباكر، سيّارات مصفّحة مزوّدة بأجهزة إلكترونيّة موصولة بمكتب أمن الدولة تنقل تحرّكاتها وتؤمّن حمايتها، ناهيك عن رجال أمن بأسلحتهم يواكبون الرحلة التي استغرقت ما يقارب الساعة. إستقلّت سحر سيّارة السيّدة كي تبقى إلى جوارها في حال أيّ طارئ، تملّكها شعور غريب في البداية، فهي تعيش أحداثًا استثنائيّة في حياتها المتواضعة: حراسة وأمن ومواكب، عالم مجبول بالخوف والانبهار في الوقت عينه لا تجد نفسها تنتمي إليه.
مزرعة الكريملي من أقدم المزارع في شرق أضنة، توارثها رجال العائلة منذ أكثر من قرن، وتاريخها العريق يشهد على طراز عمرانها: بيت حجريّ من طبقة واحدة يمتدّ على مساحة واسعة يتوزّع في داخله العديد من الغرف وتوابعها وبهو يحرسه عقد صخريّ يُضفي على المكان مهابة وأصالة. إلى جانب البيت إسطبل يعجّ بالخيول العربيّة الأصيلة تحيط به بساتين واسعة تزخر بالأشجار المثمرة بشتّى الأنواع. إنّها ملجأ يمان المفضّل ومتنفّسه الحقيقيّ، وكيف لا وهو فارس من الدرجة الأولى وخبير محترف بشؤون الخيل؟
إقتربت سحر من السيّدة تعاين ضغطها بعد الرحلة فإذا به على خير ما يرام، حتّى وجهها بدا مرتاحًا تعلوه ابتسامة عذبة تشرح مدى السرور والانشراح. وبينما كانت ترجع سحر آلة الضغط إلى الحقيبة أمسكت السيّدة بيدها وقالت:
-إسمعيني صغيرتي، أنا بخير، وأشعر براحة كبيرة، فلا تقلقي عليّ، أريدك أن تقضي وقتًا ممتعًا، أنت محبوسة معي منذ أسبوع ومن حقّك أن ترتاحي، ألا يكفي أنّك محرومة من رؤية والدتك؟ يمان يحتاج أيضًا إلى الترويح عن نفسه، هيّا هو ينتظرك في الإسطبل كما قال لك، النزهة على الحصان صباحًا ممتعة قبل حماوة الشمس، هيّا صغيرتي
-سيّدة نازلي، هل أنت متأكّدة؟ أيمكن أن تبقي لوحدك؟
-كيف لوحدي؟ المزرعة تعجّ بالخدم، هيّا بسرعة، يمان يكره الانتظار
ما لم تعرفه الوالدة أنّ ابنها مستعدّ أن ينتظر سحر لساعات طويلة شرط أن تأتي، أوكل السائس الاهتمام بأصدقائه وتفرّغ للضيفة الجديدة. كان يربّت على رقبة "الأدهم" حصانه الأسود، ويعبّر له عن اشتياقه، والحيوان بدوره يهزّ ذيله تحبّبًا حتّى أطلّت سحر من الباب الخشبيّ العريض يرافقها عامل يدلّها على مكان السيّد، تقدّمت بخفرٍ وهي تناظر رؤوس الأحصنة تظهر من طاقات الحُجَر كأنّها ترحّب بقدوم الضيفة يشاركها الترحيب صوت يمان الهادئ:
-أعرّفك على "الأدهم"، حصاني الخاصّ، يمكنك التربيت على ظهره، هكذا... لست خائفة أليس كذلك؟
-لاااااا، إنّه جميل جدًّا، سواده خلّاب
-أجل، اقتنيته منذ خمسة أعوام... هل ترَيْن لمعة عينيه وحركة رأسه؟ مزاجه تمام، يبدو أنّه يتودّد إليك
-لحسن الحظّ... سأمتطي حصان حضرتك؟ هذا لا يجوز
-ولمَ لا يجوز؟ برأيي، يجب أن تكون جولتك الأولى معي، يعني كي تتآلفي قليلًا مع الوضع ثمّ تحظين بجواد لوحدك
-حسنًا... وأنا اتّكلت على الله وعلى سيادتك
-هل أشتمّ بعض الخوف هنا؟
-لاااااا، إنّما بعض الارتباك ربّما، لا أدري، هي المرّة الأولى التي أركب فيها حصانًا، و... وليس أيّ حصانٍ... حصان سيادة الرئيس... يعني موقفي صعب قليلًا
-إسمعيني... بدايةً أنا هنا فارس يعشق الخيل، سيادة الرئيس بقي في السراي، لديه ارتباطات كثيرة، فلا داعي للارتباك، أريدك أن تكوني مرتاحة كي تتعلّمي أصول الفروسيّة بسرعة، إتّفقنا؟ آنسة سحر... هل اتّفقنا؟
-حسنًا، بما أنّ سيادة الرئيس... بقي في السراي، فلنبدأ بالدروس دون ارتباك
-عظيم، يبدو أنّك تلميذة مطيعة، هيّا بنا
ها هو "الأدهم" يعبر جسرًا داخل أملاك الكريملي يؤدّي إلى الطرف الشماليّ من المزرعة، سحر في المقدّمة ويمان وراءها يتلو عليها بعض النقاط الأساسيّة التي يتوجّب على الفارس المبتدئ أن يعرفها والتي تبدأ بطريقة جلسته على السراج وتَحرُّك رجليه تماشيًا مع مشية الجواد. يتكلّم تارة ثمّ يصمت طورًا ينتعش من مسك شعرها المتطاير تلفح خصله الكستنائيّة وجهه المتضرّع لنعومة الحرير، يشعر بتقارب جسدها من الخلف يهمس له بعطايا الأنوثة الفاتنة تنحني أمام أسرارها رجولته المخضرمة، وما كان يطير به إلى السحاب لفتة رأسها وهي تديره صوبه في بعض الأحيان ليهيم في رِفعة جيدها الطريّ تطوّقه سلسلة ذهبيّة تتدلّى منها نجمة تلامس منتصف جدار الصدر حسدها بحسرة على دفء المكان. وبصوت يفيض بسحر اللحظات سألها بكلّ الاهتمام:
-هل تعبتِ؟
-لاااا، لم أتعب، لكن أظنّ حضرتك قد تعبت من الجلسة هكذا، يمكننا التوقّف إذا شئت
أجابها بعمق إحساس يشتعل في وَقْدِ الروح:
-لاااااااا، لا أشاء، أنا... أنا في غاية الارتياح
-لم أتخيّل يومًا أن أمتطي حصانًا مع...
-أكملي
-مع... رئيس الحكومة
-صادف أنّ الرئيس فارس ويشجّع الفروسيّة وأنتِ تحبّين الخيل، فأين المانع؟
-بل موانع!
-لمااااااااذا؟
-يعني... أتيت من أجل مهمّة التمريض فإذا بي على ظهر الحصان
-أنت الآن ضيفة في مزرعة الكريملي وصاحبها يقوم بواجب الضيافة، فلا وجود لأيّ موانع، أم نسيت اتّفاقنا؟
-لا، لم أنسَ... لكن...
-من دون لكن، لا أحبّذ التعارض في الكلام، أتركيه ينساب مسترسلًا كالزمان
-أحيانًا لا بدّ من التعارض، لا تأخذ الأمور دومًا طابع الاستحسان
-صحيح... إنّما الآن... لا حاجة للتعارض، فنحن أصلًا متّفقان
أدارت سحر وجهها صوب الفارس مبتسمة وهتفت بكلّ اطمئنان:
-أجل... متّفقان
-إذن، إستمتعي بالنزهة ودعيني أنا أستمتع بسحر المكان
-في الحقيقة، المزرعة رائعة
-أجل، هي ملاذي للاسترخاء... أنظري، هناك قرب أشجار الرمّان نبع مياه، هل تشعرين بالظمإ؟
-قليلًا...
ما إن توقّف "الأدهم" قرب النبع حتّى ترجّل يمان عن الحصان وفتح ذراعيه يساعد سحر في النزول:
- سأمسك بك فورًا، لا تخافي، أنتِ في أمان
-لست خائفة لكن...
-ألم نقل لا داعي للتعارض؟
-حسنًا...
وبحركة سريعة قفزت سحر عن ظهر الحصان لتستقرّ واقفة بين أحضان الفارس يحاصر خصرها بعناق الذراعين ويشبك نظرها بسواد العينين الحالمتين تسرحان في تفاصيل بهاء الوجه لا يُبعدها عن الناظر الهائم إلّا مسافة الأنفاس. لحظات تقارب كانت كفيلة بإعلان الحرب على الكبت والتحفّظ فأطلقت أسهم الانجذاب تُصيب موقع الاستسلام خاضعًا لقوّة السلاح:
-أنت... في غاااااية الجماااااال
تنحنحت محتاسة بأمر الكلام، مرتابة من لحظة العناق، ماذا تقول؟ ماذا تفعل؟ أتقوى الرهينة على فكّ الرهان؟ أيمكن الهروب من شدّة الأسر؟ بيد أنّ الأسيرة استعذبت أسرها يُضفي على كيانها المسلوب موجاتٍ من الارتعاش، إنّما لا بدّ من المقاومة فألقت بيديها على ذراعيه تتحرّر من شغف المحاصرة متمتمةً بصوت تخنقه أوتار الحياء:
-سيادة الرئيس... أرجوك...
أبقى نظره مصوّبًا على وجهها وأمسك بيدها مانعًا عنها قسوة الابتعاد:
-أنا ما قصدت سوءًا في التعبيرِ، إنّما جمالك له قوّة في التأثيرِ
-بعض الكلام يحلّق بنا إلى السحاب، أو يرمي بنا إلى مهبّ السراب
- النوايا وحدها تملك حكم الثواب
-إكتشاف النوايا ليس بالأمر المستهان، يحتاج إلى العشرة كي يصل إلى الصواب
-لا يليق بالجمال إلّا حسن النوايا، فأرجوكِ... لا تظلمي القائل بارتكاب الخطايا
-سيادة الرئيس... أنا لا...
بقي الكلام عالقًا حين صهل "الأدهم" يرحّب بقدوم "شيماء" الفرس التي يمتطيها نديم وروزجار تمشي خَبَبًا صوب النبع ويلحق بها جواد أشهب بغرّة بيضاء كان من حصّة إيلّا، علق الكلام لكنّ النظرات المتبادلة خلسة أكملت ما نقص في تناغم الحوار، جادت في التعبير والبلاغة والبيان فألّفت قصّة حديثة غريبة مثيرة لكنّها ما زالت تبحث عن العنوان.
لم يكن رجوع سحر إلى بيت المزرعة كمغادرته صباحًا، تركته متحمّسة لتعلّم ركوب الخيل وعادت إليه مُتأرجحة الأفكار والمشاعر، تختلط بين الغبطة والتيقّظ، بين السكينة والخشية. ما الذي أصابها بعد سماعه يجهر علنًا بجمالها؟ أيمكن أن يكون الكلام مجرّد مجاملة من المجاملات المبتذلة؟ إنّما حسّ قائله يدلّ على شيء آخر، شيء بعيد عن الابتذال، الصوت واللهفة والنظرات لا تبرح مخيّلتها، كأنّها تصرخ تطالبها بالعدل والرأفة، لا بدّ أنّها صادقة، فهي نابعة من رجل مُكتمل الرجولة مُقتدر النفوذ تُسجّل له المواقفُ ويُحتَسبُ عليه نوافلُ الكلامِ.
بدأت الشمس تلملم خيوطها الخجولة تستعدّ للرحيل فهمّ الزوّار بالعودة إلى القصر بعد قضاء يوم ممتع بين ربوع المزرعة. رغم حالة سحر المرتبكة إلّا أنّها تمكّنت من ركوب الحصان وحيدة بفضل مجهود يمان الذي حاول جاهدًا أن يتصرّف بطبيعيّة كي يُبعد عنها أيّ توتّر كالذي انتابها قرب نبع المياه. تمالك نفسه وحظر على لسانه حرّيّة التعبير، ما شعر به بين ليلة وضحاها لن تتمكّن سحر من استيعابه، وكيف لها أن تستوعب حياة رجل حرمته المناصب السياسيّة من رونق اللحظات العاطفيّة؟ ما عاشه بالقرب منها استثناء صارخ لقواعد حياته المكتظّة بالملفّات والاجتماعات والواجبات... وقد استعذب هذا الاستثناء، فاكتفى برؤية حماستها وهي تعتلي الحصان وهو على الأرض ممسك بالرسن يتظاهر بالارتياح لكنّ داخله يشتعل متأجّجًا كالنار، تسرّع في التعبير عن جمالها دون أيّ تمهيد، هو من يُشهد له بالتأنّي وطول الباع في معترك السياسة وجد نفسه معها متهوّرًا يقع في أولى الاختبارات لينطبق عليه القول المأثور " لكلّ جواد كبوة".
حلّقت الطائرة ليل الأحد عائدة برئيس الوزراء إلى أنقرة ليعاود مهامّه بعد انتهاء العطلة، أسبوع حافل بالمواعيد الوزاريّة ينتظر جهوده على أحرّ من الجمر. أغمض عينيه يعيد مشهد وداع أمّه في الحديقة وهي تصرّ عليه انتهاز كلّ فرصة سانحة للعودة، مازالت عباراتها تتردّد في ذهنه :" أرجوك بني، لا تحرمني من رؤية وجهك، سأنتظر مجيئك في العطلة القادمة"، ومازالت مقلتاه تبصران الممرّضة الواقفة إلى الشرفة، آثرت الابتعاد عن لحظات الرحيل لكنّها لم تستطع منع وداعه الصامت الساكت يكتم في سرّه سيلًا من الكلام بقي عالقًا في الزمن يأمل موعدًا للاكتمال. وقفت تنظر نحو البوّابة، لفيف من الحرّاس وسيّارات المواكبة بانتظار الرئيس، أتراها ستلتقي به من جديد؟ أيمكن أن تعد قلبها بقصّة جميلة بعد ما قاله قرب النبع؟ مشهد مغادرته أرجعها إلى الواقع، ربّما لطفه أنساها فخامة مكانته السياسيّة وجعله بنظرها رجلًا من عامّة الشعب، يتمتّع بسجيّة التصرّف والقول لكنّ الواقع بعيد عن الخيال، إنّه ثاني رجل في الدولة التركيّة، فكيف لها أن تقحم روحها وقلبها في مغامرة من سابع المستحيلات؟
أعطت سحر السيّدة علاج المساء ودلفت إلى غرفتها تأخذ قسطًا من الراحة، أدارت التلفاز تقلّب في المحطّات علّها تجد ما يملأ وقتها ريثما يحين موعد دواء منتصف الليل، فإذا بسيادة الرئيس يحلّ ضيفًا في برنامج سياسيّ يُذاع مباشرة على الهواء. إنتفض قلبها يدقّ بسرعة، وتسمّرت عيناها على الشاشة تمعن النظر في تفاصيل مظهر الأناقة، وتشنّف أذنيها تُنصت إلى صوته يجود في الكلام... ما أبهى حضوره الآسر يفرض هيبة الرقيّ! إنّه أمامها على الشاشة يتفاعل بجدّيّة المنصب مع المتحاور، ليته ما جاء تلك الليلة، ليتها ما تعرّفت عليه عن كثب، ليتها تفلح في نسيان لحظات النبع... لكنّها فاشلة في النسيان. بقي لها يومان في القصر وتنتهي مهمّتها بانتهاء العلاج، سترحل بهدوء وتُنقذ قلبها من التحسّر على المُحال، تدفن في ثناياه بذور قصّة حُكم عليها بالانتهاء قبل الابتداء، ليبقى سيادة الرئيس ذكرى حلوة عذبة دغدغت وجدانها في أحد الأيّام. تعود من حيث أتت، إلى حضن أمّها الدافئ، لقد حنّت إلى بيتها المتواضع واشتاقت إلى عملها في قسم العناية الفائقة، لكنّها ستفتقد السيّدة، إعتادت على مجالستها والاستماع إلى أخبارها الحافلة بالذكريات الحلوة والمُرّة، لن تنسى اللطف الذي أحاطتها به كما لن تنسى الدموع التي ذرفتها أمامها في بعض الليالي عندما كانت تهبّ في قلبها ذكرى أمير، ابنها المتوفّي جرّاء حادث سير مروّع حصد روحه وروح والده. عايشت سحر حزنها في الليالي الموحشة فآنست وحدتها ووانست ألمها لتحتلّ في نهاية المهمّة مكانة في قلب السيّدة. إنتهت الحلقة على التلفاز فلملمت المشاهدة بقايا الذكريات تشدّ على نفسها مُجبرةً علّها تُسكت الأصداء تتردّد بسِحر الهمسات كلّما لاح أمامها طيف رئيس الوزراء.

سيادة الرئيس الموسم الأوّلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن