الجزء الرابع: لن أعتذر

491 33 10
                                    

ألجزء الرابع: لن أعتذرَ
إزدان القصر بمباهج الحبور لعودة صاحبه بالسلامة فارتدى بهوه الواسع حلّة من باقات الأزاهير من شتّى الأنواع والألوان تتقدّمها باقة رئيس الجمهوريّة تتباهى زاهيةً بزهرات الأوركيد البيضاء، باقات رائعة الجمال باهظة الثمن أرسلها رفاق الدرب وكبار القوم تهنئةً بسلامة الشفاء. دخلت السيّدة نازلي على كرسيّها المتحرّك جناح ابنها قرابة السادسة مساء ترطّب قلبها بنعمة رجوعه سالمًا إلى الدار، تصلّي وتبتهل إلى الله عزّ وجلّ أن يحميه من كلّ سوء ويردّ عنه ويلات الزمن، ألفته ممدّدًا على السرير يطالع أحد الملفّات فخافت عليه من المجهود، وبلهجة تفيض بالترجّي بادرته متوسّلة:
-أرجوك بُني... أرجوك... أعطِ نفسك مجالًا لتتعافى، لا تقم بأيّ جهدٍ حتّى تستعيد عافيتك
وضع الملفّ جانبًا ومدّ يده تلتقي بيمناها فوق حافّة السرير ثمّ قال يُطمئنها:
-غاليتي، أنا بخير، لا تخافي، قراءة بسيطة لا تكلّفني أيّ مجهود، وعدتك عند وصولي أنّني ساكون حريصًا على صحّتي
-أساسًا، فخامة الرئيس بذاته أبلغني أنّك لن تطأ السراي قبل شهر، يريدك أن تقضي فترة النقاهة مطمئنّ البال
-أجل... فخامته أبدى تعاطفًا غير مسبوق، وأولى إدارة الوزارات لنائبه ريثما أعود إلى مهامّي
-لا تتصوّر مدى سعادتي عندما أعلمني نديم أنّك ستبقى في أضنة هذه المدّة، صحيح أنّه هو من أقنعك بالبقاء إلى جانب والدتك لكن بالنهاية أنت هنا... بقربي
-كلّ ما في الأمر أنّني لا أريد إزعاجك بالزوّار، فأنت تركت قصر أنقرة لهذا السبب
-حبيبي، نديم وضع جدولًا للزيارات وجينغار سيحرص على تنفيذه، لن يُسمح إلّا بزيارة واحدة عصر كلّ يوم ابتداءً من آخر الأسبوع المقبل
ضحك يمان ضحكة خفيفة وقال ممازحًا:
-يعني تحالفتم جميعكم على عزلي
ما إن أنهى كلامه حتّى سُمع طرقٌ على الباب فإذا بعدالت تُعلم السيّدة عن وصول ضيفتها فتوشّح وجه العجوز ببريق من الغبطة وسارعت في القول:
-بني حبيبي، سأتركك الآن لترتاح، عشاؤك سيكون جاهزًا عند السابعة، إحرص على تناول أدويتك في مواعيدها المحدّدة
دفعت عدالت كرسيّ السيّدة إلى الخارج وأغلقت الباب على الرئيس وهو يشيح بنظره صوب الأدوية الموضوعة بعناية على منضدة السرير، فطار به الخيال إلى صاحبة البرنس الأبيض تتنقّل على هوادة في غرفة الإنعاش تقلّب بين العقاقير، تخفّف من سرعة المصل، تعاين ضغط الدم... مشاهد كثيرة بقيت عالقة في الذهن والقلب تأبى الرحيل رغم حدّة القرار بالانسحاب، أيجوز أن يحنّ المريض إلى أجواء العناية؟ أيشتاق إلى طيف الممرّضة تنهال عليه بابتسامات الرجاء؟ أيتمنّى الرجوع إلى الوراء ليحظى من جديد بذلك الاهتمام فيغوص حرًّا طليقًا هانئًا في بحر الزمرّد؟ أعاده من حنين رحلته الحالمة رنين الهاتف الداخليّ ليُعلمه جينغار عن وصول باقة أخرى من الزهر باسم مجيد بيرم نائب من نوّاب الأمّة. وما إن أقفل السمّاعة حتّى ارتطمت يده بعلبة من الأدوية تدعوه مرّة أخرى إلى رحلة الخيال فانتفض مستاءً يهوي على العقاقير بضربة من الغضب دحرجتها متناثرةً على الأرض تزامنًا مع صرخة مكبوتة في الأعماق تلعن ضعف إرادته المسلوبة ألف لعنة وتثور بوجه جرأة الخيال يخون الواقع رغم محاولات الهروب.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
أقفلت جميلة الدكّان وقفلت راجعة إلى البيت تحمل كيس الحاجيات لتحضير العشاء، حسناؤها ستتأخّر في العودة على غير عادة بعدما أوكلها رئيس قسم العناية بمتابعة ملفّ أحد المرضى. تزامن دخولها الحديقة مع وصول سليم ينزل من سيّارة أجرة وهو يناديها:
-سيّدة جميلة، مهلًا أرجوك...
إستدارت مقطّبة الوجه متعرّفة على صاحب الصوت لترمقه بنظرة استهجان وقبل أن تنبس ببنة شفة سارع سليم إلى القول:
-سيّدة جميلة، أرجوك... أعرف أنّك غاضبة منّي وترفضين رؤيتي لكن أحتاج بشدّة إلى التحدّث معك بموضوع عاجل، أعدك أنّني لن أزعجك بعد الآن، أنا أتعشّم بفرصة أخيرة
وضعت الكيس أرضًا بشيء من العصبيّة ثمّ تقدّمت من البوّابة تقفلها بإحكامٍ وتنهره قائلةً:
-سيّدة جميلة التي اعتبرتك من خيرة الشباب، خدعتها بطيبتك المزيّفة، بئس الأخلاق... إستقبلناك في الحيّ بيننا وعاملناك بالحسنة فإذا بك تلهث راكضًا نحو الممنوعات وتعاشر سوء القوم أصحاب السوابق... إسمعني للمرّة الأخيرة... لن أراك مجدّدًا تحوم حول البيت ماذا وإلّا قسمًا بالله العظيم سأشكوك إلى الشرطة
بقي صوت سليم يتردّد في الحديقة مستجديًا عطف جميلة التي دخلت بيتها من دون أن تعطيه المجال للكلام، فظلّ واقفًا وراء السور يلعن حظّه العاثر ألف لعنة ويتوعّد بالانتقام.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
خرج الرئيس من الحمّام فألف جينغار يلملم العقاقير عن الأرض وطبق العشاء على طاولة جانبيّة أمام النافذة، أحسّ بشيء من الامتعاض فبادر خادمه قائلًا يداري تصرّفه المتهوّر وهو يتوجّه ناحية الطاولة:
-تناولت زجاجة المياه على عجلة فأوقعت الأدوية من دون قصد
-لا بأس سيادتك، السيّد نديم غادر إلى أنقرة، سيعود غدًا مساء، بلّغني أن أتمنّى لسيادتك حظّا سعيدًا
كان يكشف الغطاء عن الطبق ليبدأ بالطعام فأتاه كلام جينغار يسترعي انتباهه فسأل مستفهمًا:
-حظًّا سعيدًا؟؟؟ لماذا؟ يعني بأيّ شأن؟؟
-لا أعلم سيادتك، كلّ ما قاله إنّ سيادتك ستحتاج هذه الفترة إلى الحظّ السعيد
إزاء كلام جينغار هزّ الرئيس رأسه يوشّح وجهه بعض التجهّم وهو يفكّر بكلام صديقه: " يبدو أنّه يعوّل كثيرًا على الحظّ، لم يعرف أنّني وضعت حدًّا للموضوع" وبعد أن تناول الشوكة يستعدّ للأكل سمع خادمه يقول:
-صحة وعافية سيادتك، أتأمرني بشيء آخر؟
-شكرًا جينغار، يمكنك الذهاب
لطالما شغلت الصدفة أدوارًا مفصليّة في حياة البشر، وإن كان من الحريّ توضيح الدور فولادة الإنسان بحدّ ذاتها كناية عن صدفة، يجد نفسه وليد أهل وبلد وبيئة لم يختر أيًّا منها، تتفنّن الصدفة على هواها في تحديد جنسه وعرقه ودينه، وأغلب البشر يسلّمون لهذه الوقائع فيعيشون أعمارهم قانعين مكتفين بما أراده لهم القدر، والقلائل هم الذين يثورون على واقعهم غير المرغوب ليغيّروا ما يمكن تغييره سعيًا إلى تحقيق آمالهم الثائرة ولعلّ كلّ ما يجري من صراعات ومشاحنات اجتماعيّة ما هو إلّا ترجمة حقيقيّة لمآرب في النفوس تحاول جاهدة التغلّب على حقيقة الحاصل. أمّا الأغلبيّة التي تنحاز إلى صيرورة الواقع فهي في بعض مفارق الطرق لعبةً طيّعة بيد الصدفة تتحكّم بمفاصل رئيسة في حياتها شاء من شاء وأبى من أبى. تقتنص الأوقات أو الأماكن على حين غرّة لتجود على المرء بحلاوة العيش أو تسكب على جروحه مزيدًا من الألم. ويمان كريملي واحد من الذين شقّوا طريقهم في الحياة بأصابع من فولاذ، وضع نصب عينيه هدف القيادة في السياسة وانطلق إلى تحقيقه دون أن تردع أحلامه شوائب الحواجز، ناضل واستبسل حتّى بات يمسك زمام أمور الدولة، تحمّل وزر القيادة ودفع ثمن أحلامه غاليًا، صحيح أنّ محاولة اغتياله باءت بالفشل لكن حادث مقتل والده وأخيه كان مدبّرًا من منظّمة إرهابيّة تنفث سمومها في أرجاء الوطن كي تطيح بمقوّمات الازدهار والأمن. جرح دفين في أعماق إنسانيّته ما انفكّ يومًا من النزف حرمه سند الأبوّة الحامية وجناح الأخوّة الداعمة وقتل روح الحياة في قلب الزوجة والأمّ فأحال دفء بيت العائلة إلى دار باردة تفتقد إلى رونق الحياة رغم مباهج المظاهر الزائفة. وبدخول سحر صدفةً عالم سيادة الرئيس تفتّحت في قلبه المنسيّ براعم الأمل بغد واعد بالحبّ والولادة الجديدة لإنقاذ روحه الضائعة في صحراء قاحلة تشكو من الجفاء والعطش. وربّما روحه هذه المتعطّشة إلى ينابيع الحبّ هي التي هامت في نقاء الممرّضة في فترة قياسيّة تكادُ لا تُحتَسب في الزمن، فما قيمة يومين في جدول الوقت؟ عطلة نهاية أسبوع واحدة نثرت في ثناياه بذور العشق والولع. وها هي الصدفة تعود إلى التلذّذ في اللعب لتضعه بين يدي ملاك الرحمة سقيمًا يشكو من الألم والإحباط.
إستدار صوب الباب يأذن للطارق بالدخول بعد انتهاء العشاء فإذا بها تطلّ على وحدته بوجه توشّحه ملامح الحياء وثغر يلوّنه أثر الابتسام، بقي جالسًا في مكانه لا يقوى على الوقوف وكأنّ عقله امتنع عن إعطاء الأوامر راضخًا لسحر المفاجأة غير أنّ نظره جاهد في المقاومة ليبصر هائمًا حضورها المباغت. وفي خضمّ لقاء العيون ولحظات السكون قالت والدته قرب الباب:
-يمان، حبيبي، طبيبك أرسل الآنسة سحر كي تكمل لك علاج الحقن، ستمرّ كلّ مساء بعد الدوام
إلتفتت سحر صوب السيّدة وأحنت رأسها انحناءة خفيفة كأنّها تثني على الكلام وبصوت ناعم الأنغام هتفت وهي تعيد نظرها إلى الرئيس:
-مساء الخير سيادة الرئيس
أسند يده إلى المقعد يحاول النهوض ويردّ التحيّة من صميم القلب:
-مسااااااااء الأنوااااار... أهلًا وسهلًا آااااانسة سحررررر
وإذا بوجه الأمّ يشرق غبطة أفرجت فيضًا من السلام، وبسكوت تامّ أرجعت رأسها إلى الخلف تومئ لعدالت بالانسحاب إلى الجناح. كانت تشعر بسعادة الدنيا تتراقص جذلى في روحها المنهكة، تحوّلت ظنونها السابقة إلى حقيقة لا تقبل الجدل، وحيد قلبها متيّم بالصغيرة ومهما كابر ودارى شعوره فحدس الأمّ أقوى من التكابر والمداراة. كلّ ما تتمنّاه الآن أن تبلغ غايتها في تقريب قلبين يحتاجان فقط إلى واحة من التواصل تفتح لهما سبل السعادة الأبديّة. ساعدتها عدالت في التمدّد على السرير وناولتها الهاتف عن الطاولة تحرّر رسالة خطّيّة إلى نديم والبسمة تُنير محيّاها: " يبدو أنّ سعينا في الموضوع يسلك طريقه إلى النجاح".
ما زال واقفًا بهامته الطويلة أمام هالة حضورها يظلّلها برقيّ نظراته المفعمة بالرجولة، وهي أسيرة حالها المرتبكة تتمسّك بحقيبة يدها معلّقة في الكتف تنتظر أن تأتمر لحركة تريحها من التعلّق. بارحة في مكانها تستنجد الكلمات علّها تخلّصها من هيبة الموقف. في غرفته الخاصّة، تراه في ثياب النوم وقد ترك أعلى أزرار القميص حرّة طليقة تكشف عن تفنّن الشيب في تلوين شعيرات الصدر الممتلئ يزيّنه سلسال ذهبيّ عريض بعض الشيء ينزلق منسابًا بخفية الإثارة. دنا منها على مهل يمدّ ذراعه صوب الأريكة يدعوها للجلوس ويكسر رهابة الصمت اللذيذ:
-أرجوك... تفضّلي... لا تبقي واقفة
تنحنحت مرتابة تبلع ريقها تتحضّر لمواجهة الموقف وترخي بالحقيبة ترتاح بجانبها على زاوية الأريكة:
-عسى سيادتك بخير
لجأ إلى الزاوية الأخرى يحترم أصول التباعد وبادرها مجيبًا وهو يلقي نظرة إلى ساعة يده:
-من المفترض أن أكون بخير... متى موعد الحقنة؟
وقفت منتصبةً عند السؤال وأجابت باقتضاب:
-حالًا، يجب أن أغسل يديّ
وقبل أن تترك الغرفة قال بصوت هادئ وهو يشير إلى باب جانبيّ:
-لا داعي للخروج، الحمّام هناك
غسلت يديها ببعض التوتّر، لا تعرف سبب انزعاجها من السؤال عن موعد الحقنة، ربّما أشعرها أنّه يريد أن ينهي الأمر بسرعة كي تغادر وتتركه إلى وحدته، شدّت على نفسها تستجمع بعضًا من الهدوء وعادت إلى منضدة السرير تتناول علبة الدواء لتجهّز الإبرة وبصوت أعاد دور الممرّضة إلى الساحة قالت بشيء من الحزم:
-أرجو سيادتك أن تكشف عن زندك، الإبرة في العرق
-كم إبرة في العلاج؟
-ألعلاج سيستغرق أسبوعين يعني إبرة واحدة كلّ مساء بعد العشاء هذا بالطبع عدا عن أدوية الصباح
-ومن سيتكفّل بإعطائي جرعة الصباح؟
استدارت صوبه تسير بخطى ثابتة وهي تحمل الإبرة والقطن المطهّر والعاصبة في وعاء معقّم ثمّ جلست بجواره ورمقته بنظرة اندهاش لتردّ بكلّ ثقة:
-وهل تستوجب حبّة دواء وجود ممرّضة؟ سيادتك، يكفي أن تضع الحبّة في فمك وتشرب المياه وينتهي الأمر
-أكره حبوب الدواء... أفضّل الإبرة عليها
-إسمح لي سيادتك لكنّك المريض الوحيد الذي يؤثر الحقنة على حبّة الدواء
-لأنّني أؤمن بسحر الإبر، يعني... هي سريعة المفعول
- أحيانًا، من وصفة بسيطة يأتي خيرُ الشفاء
-إن كان الداء مستعصيًا فلا مجال للشفاء إلّا بعد تذوّق الوخزات
-إذن هنيئًا لسيادتك وصفة الشكّاتِ
لاح على ثغره طرف ابتسامة تتهلّل للطفها في المشاكسات، لطالما استعذب سجيّتها في التصرّف. مدّ زنده المكشوف صوبها يراقبها وهي تربط العاصبة برفق وتحاول أن تعثر على الوريد. ملمس أناملها الناعمة أيقظ في داخله ذكرى شوك الورد فقال وهو يحني رأسه يبحث عن لقاء عينيها عند الكلام:
-أتذكرين إبرة الورد؟
أمسكت سحر الإبرة بيدها تستعدّ للحقن غير أنّ سؤاله دغدغ ذاكرتها فأومأت رأسها إثباتًا :
-أذكر كلامك عن السقيم... سيادتك، هل غيّرت رأيك؟ يعني هل تشعر ببعض التوتّر؟ يمكنني الانتظار قليلًا ريثما تهدأ
-لااااااا، لا أشعر بالتوتّر من الإبرة إنّما أحتاج إلى بعض الوقت... أقصد... أشعر ببعض التشنّج في زندي
-حسنًا، سأحاول أن أريح سيادتك من التشنّج بقليل من التدليك
أمسكت بيده بين راحتيها تمرّر أصابعها باحترافيّة المهنة، تعلو بها صوب السبغ والساعد ثمّ تنزل برفق إلى ظهر اليد وهو شبه ممدّد على الأريكة يتأمّلها بشغف مستسلمًا لأهواء الحركات تجود في عديد الجولات، وبعد انتهاء المهمّة رفعت رأسها تسأله عن الوضع:
-والآن؟ أتشعر سيادتك بتحسّن؟
أومأ لها برأسه استحسانًا عاجزًا عن الكلام بعدما أطاح التشنّج بكلّ الجسد، فيا ليتها تركته محصورًا في الزند لكنّها بريئة من الإثم لا تعرف ما تفنّنت به أناملها السحريّة، وهو كالطفل الليّن استجاب للتموّجات العذبة فاكتسحت كيانه رغبةٌ مدويّة زلزلت صمود رجولته المستنفرة. كلّ الوعيد بالتخلّي والانسحاب ذهب مع الريح حين لامست أصابعها بشرة جسمه المتعطّشة إلى الدلال، فهبّت مشاعره منتفضةً تطالب بالعدل تُطلق العنان لسجيّة التحرّر من الكبت. أرجعه إلى واقع اللحظات أنغام الصوت تتمنّى له الشفاء بالسلامة فسألها على وهلة:
-والإبرة؟ ألن...
إبتسمت وهي تشير إلى الحقنة الفارغة من الدواء:
-يبدو أنّك لم تشعر بالوخزة
-لااااا، لم أشعر بها يدك خفيفة كالريشةِ
-جيّد، من المستحسن أن تبقى ممدّدًا بعد الحقنةِ
-أفضّل الارتياح على السرير
-حسنًا، كما تشاء سيادتك
دنت منه تمدّ يُمناها تعاونه في النهوض بعد رؤيته يجاهد في المحاولة، وما إن وقف على الرجلين حتّى هوى بهامته على الأريكة ساحبًا معه نحافة الجسد لتهدأ الممرّضة فوق الصدر المشتعل تحتضنها ذراعه الملتفّة حول الخصر. إنسحبت الحروف من المعركة تترك الساحة للهيب التنهّد يكشف أسرار العشق فتعانقت الأنفاس تحتفل بحرارة القرب حتّى هامت الأهداب غارقةً في وحدة البصر، وقبل أن يستيقظ الوقت من رؤى الحلم همس الرئيس المتيّم بلهفة الرغبة:
-مااااااااذا تفعلين بي يا سحرررر؟
متأرجحة بين الانسجام والانفصال، تاهت الحسناء في دلائل السؤال يغمر فيضًا من إيحاءاتٍ أطبقت عليها بالتزام صمت أغرى العاشق في الاسترسال:
-قلبي أسير هوى عينيك فليتك تشفعين له عند الزمرّد، أثقله جفاء الصدّ وأعيا نبضَهُ عبءُ التردّد
أبعدت جسمها تهرب من نار الالتصاق علّها تستجمع شتات الروح بعدما بعثرتها زوبعة الكلام فإذا به يجذبها مجدّدًا إليه راجيًا إكمال طقوس الاعتراف:
-سحررررر... أنتِ الداءُ والدواءُ... منك ينبعثُ الشفاءُ
فاح عبق الخجل يعطّر شغف العبارات ساكبًا على الوجنتين حمرة الورد تلوّن اللحظة بالارتباك:
-أنا... أنا...
-أنتِ اختصارٌ لسائرِ النساءِ
-سيادة الرئيس...
-سيادة الرئيس... مغرمٌ متيّمٌ مفتونٌ بأحلى النساء
تلألأ الدمع في زمرّد المقلتين يُغدقُ على القائل انفعال التأثّر من صدى الأقوال فانتفض قلب العاشق بين الأضلع يهتزّ للمشهد، وعندما انساب اللؤلؤ على طراوة الخدّ تمايلت كفّه السكرى تنتشي من اللمعان تجوب المحيّا لطافةً وهي تبلسم ذرف العبر. إستقامت على الفور تُبعد الذراع عن الخصر تفرك يديها من شدّة الاضطراب تبحث عن مفردات تقيها دورها في الكلام حتّى عثرت على جملة صبّت الزيت على النار:
- سيادتك... أعتقد أنّك متعبٌ وبحاجة إلى الراحة... مفعول الإبرة...
رمقها بنظرة عتاب تمتزج ببعض الغضب جعلتها تقف مضطربةً تمسح ما تبقى من الدمع وتحمل الحقيبة تُنذر بالمغادرة لكن بسرعة البرق هبّ منتصبًا يطلق العنان إلى الصوت:
-أوَتعتقدين أنّني كنتُ أهذي؟ ألف لعنة على الراحة والهذيان...
عضّت على شفتيها تلوم لسانها على التسرّع وتتحضّر لمواساة بقدر المستطاع لكنّه سبقها إلى الإكمال بعد أن هدأت عاصفة الغليان فهمس بثقة نابعة من سموّ مراتب العشق تلخّص كلّ الكلام:
-لن أعتذر عمّا قلتُ فالاعتذارُ واجبٌ بعد الخطإ ... وعشقي لكِ صوابٌ مطلقٌ غيرُ قابلٍ للجدلِ
إلتفّت متوجّهة نحو الباب تنفذ من قوّة نظره الثاقب يترقّب التسليم للحكم وما إن وضعت يدها على المقبض
تهمّ بالخروج حتّى استدارت تستسلم لرغبة البقاء والكلام، لقد أتى اعترافه يكلّل زهو الأحلام ليعد حياتها
بجميل الأيّام، هو الرجل الذي أسهرها الليالي تحلم به آتيًا على ذلك الحصان، هونفسه اعترف جهرًا بحبّه
فماذا تبغي أكثر للاحتفال؟ لماذا تبخل عليه بصدى التجاوب والانسياب؟ تقدّمت بخفرٍ تناظره بخجلٍ وتُطلق
سراح المكبوت في الصدر معترفةً:
-أنا... أنا خائفة من مقامك... سيادة الرئيس

سيادة الرئيس الموسم الأوّلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن