الجزء الثامن: من أين يأتي الصبر بعدما كواه الجمر؟

439 34 10
                                    

كانت الساعة تقارب العاشرة صباحًا عندما فتحت جميلة عينيها بتثاقل لترى ابنتها إلى يمينها جالسة على كرسيّ راخيةً رأسها على حافّة السرير يغفو بين ذراعيها أمام ساعد الأمّ المضمّد. لم تفارق سحر جانبها منذ خرجت من غرفة العمليّات، تراعيها بحبّ الضنا وتعتني بأوجاعها بحسّ الممرّضة الخبيرة الرحيمة. مدّت الأمّ يدها اليسرى متأوّهة ترزح تحت آلام الرضّات في كلّ الجسم، تحاول مداعبة شعر ابنتها المنثور على الشرشف الأبيض، قلبها يتقطّع على وحيدتها منذ ليل الأمس، مذ فاقت من مفعول المخدّر. وما إن شعرت سحر بحنان اللمسات حتّى رفعت رأسها تسأل بصوت القلق:

-أمّي، ما بك؟ هل تشعرين بالألم؟

ردّت جميلة مبتسمة رغم الوجع الذي أيقظها:

-حبيبتي، أنا بخير، لا تخافي، أريدك أن تذهبي إلى البيت وترتاحي، أنا هنا بين أيدٍ أمينة

-ماذا تقولين ماما؟ مستحيل أن أتركك، ألا يكفي أنّني لم أكن إلى جانبك في أصعب الأوقات؟

أغمضت جميلة عينيها زافرة متنهّدة كأنّها تعبت من تكرار الكلام عينه:

-ابنتي، وحيدتي، توقّفي عن لوم نفسك، أنظري أنا الآن بخير، الجيران لم يتركوني، الشكر لهم، هذا نصيبي، قدّر الله وما شاء فعل حبيبتي... إذهبي استحمّي ونامي قليلًا ثمّ تعالي، أرجوك لا تجعلي كثرة الكلام تُرهقني

إنحنت سحر صوب وجه أمّها تطبع قبلة على جبينها هامسةً:

-سيّدة جميلة، أنصحك بالسكوت إذن... لن أغادر المستشفى إلّا معك، نقطة على السطر... سأذهب لإحضار فطورك، حين أتت به الممرّضة صباحًا كنتِ نائمة فلم أشأ إيقاظك

---------------------------------------------------------------------------------------------------

ما زال متهاويًا على الأريكة منذ أكثر من ساعة، الجلسة نفسها والحركات عينها، يُطبق الورقة ثمّ يًعيد فتحها للقراءة العاشرة أو العشرين أو ربّما المئة والعشرين، من يحصي عدد المطالعة؟ يقرأ ويشيح بنظره صوب طاولة الشرفة حيث بقي العطر والمشبك رهن الشمّ والمداعبة، دقّ جينغار باب الجناح يدعوه إلى قهوة باتت كالثلج تنتظر عبثًا نزوله إلى الحديقة فلم يأذن له بالدخول، رنّ هاتفه عديد المرّات فبقيت الرنّات عالقة في الجوّ، حالة من الجمود أطبقت على صدره المشتعل، أخمدت صولاته وقمعت جولاته وكبّلته إلى الصدمة منكسرًا لا يقوى حتّى على الوقوف، كأنّ غضبه الثائر تنكّر بقناع من الذهول بدّد أفكاره وغيّبه عن الوجود. غدّارة هي الحياة تهب المرء أغلى الهبات لكن تسلبه التنعّم بها في آخر اللحظات، ترفعه عاليًا إلى السحاب وعلى غفلة تهوي به إلى القاع، فكيف يواجه جبروت الغدر؟ كيف السبيل إلى النجاة؟

طرقاتٌ خفيفة على الباب أطلقت سراح صوت مخنوق يجاهد في الانفلات:

-جينغااااار...

سيادة الرئيس الموسم الأوّلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن