الجزء الثالث: لن أتّصل
تهاوى على السرير مُرهقًا بعد نهار زاخر بالاجتماعات، يفرك صدغيه يتخلّص من صداع ألمّ به منذ الصباح. إنقضى الأسبوع على هذه الوتيرة لا يترك له مجالًا للتنفّس سوى في ساعات النوم القليلة. مزعجٌ ذلك الإرهاق يسلب منه حيويّة النشاط، يُغرقه في بحر من الخمول. لم يتغيّر شيء في دوامه، هو النمط نفسه منذ سنوات فلماذا هذا القدر من التعب والهوان؟ سؤالٌ لا يحتاج تفكيرًا للإجابة، فصاحبه، في قرارة نفسه، يُدرك التغيير الذي استبدّ به بعد العطلة في أضنة. طيف الممرّضة لا يُفارق خياله، وكأنّه تحالف مع الإرهاق كي يسلب الرئيس ما تبقّى من الصمود. أيجوز أن يصبح مسلوب الإرادة لا يقوى على انتزاع صورتها من عقله وقلبه؟ لم يعتد يومًا التفكير إلّا بالسياسة والأمن وشؤون الدولة فكيف تسرّبت هذه المرأة إلى هواجسه؟ لم يمنع نفسه من التعبير عن جمالها فصدّته بوابل من الكلام. فاشل في العلاقات النسائيّة، تنقصه الخبرة في هذا المجال، فيا لسخريّة القدر! رئيس الوزراء بعظمة قدره يُدير حكومة بحقائبها الوزاريّة المتعدّدة يجد نفسه عاجزًا عن إدارة قلبه المستسلم. وفي صميم احتدام الأفكار، دخل عليه جينغار يعتذر عن الإزعاج ويحمل إليه هاتف البيت:
-السيّدة الوالدة على الخطّ سيادة الرئيس
عدّل جلسته فاركًا وجهه بتشنّج اليدين ثمّ تناول السمّاعة متنحنحًا يُرجع جهوريّة الصوت:
-غاليتي، مساء الأنوار
أتاه صوتها مُفعمًا بحنان الأمّ المشتاقة تطمئنّ على وحيدها المتبقي لها في الحياة، تسأله عن موعد قدومه يعطّر حنين أنفاسها وتبثّه خبر رحيل سحر مع طلوع الصباح. كبت صدمة الخبر بكثير من التحكّم ثمّ أغلق الخطّ بشيء من الخيبة والانهزام. كم تمنّى أن تنتظر عطلته الثانية! ولماذا تنتظرها؟ ألم تتحاشَ رؤيته بعد المجيء من المزرعة؟ إنّما هو يبغي أن يراها، إشتاق إلى الزمرّد يلمع في مقلتيها، حتّى أنّه حنّ إلى كلامها المتأهّب دومًا للصدّ يعكس جوهر الطبع المتحفّظ، لكن لسوء الحظّ لا يمكن أن يكون في أضنة إلّا غدًا مساءً حين تصبح آمال اللقاء وهمًا يتبخّر في الهواء. فجأةً، إلتفت إلى جينغار كمن اكتشف حلًّا للّغز وأمره بإيجاد رقم الممرّضة الجديدة على الفور.
-------------------------------------------------------------------------------------------------
فتحت جميلة ذراعيها تحضن ابنتها العائدة من الدورة بحسب معلوماتها، أسبوعان من الفراق كانا كافيين لوقد شعلة الشوق خصوصًا أنّ الابنة لم تعتد يومًا المبيت خارج الدار. وما إن دلفت الأمّ إلى المطبخ تحضّر كوبًا من الشاي حتّى لمحت سحر من النافذة المطلّة على المدخل سليم يترجّل من سيّارة أجرة ونظره شائح صوب البيت. قامت من مكانها تفتح الباب للضيف وهي تقول في نفسها: " ما الذي أتى به عند الصباح؟ يبدو أنّ أمّي قامت بالواجب"، وقفت عند العتبة وكتفت يديها تنتظر عبوره من بوّابة الحديقة وحين اقترب منها بهامته الطويلة قالت بكلّ برود:
-لم تضيّع الوقت
فبادرها بعصبيّة:
-لماذا لم تردّي على اتّصالاتي؟ مللت من تصرّفاتك الصبيانيّة
-أجئتَ تحاسبني على تصرّفاتي؟ كنت أعتقد أنّك أتيت للاعتذار
-ولماذا أعتذر؟ هل أنا من سافرت دون إعلامك؟ هل أنا من امتنعت عن الردّ على مخابراتك؟ لكن عذرًا آنسة سحر... أنتِ لا تخطئين إطلاقًا، أنا دومًا المُلامُ
-على رسلك أيّها المحترمُ، أنسيت كيف كان آخر اللقاءات؟ شتائمك وصلت إلى آذان السكّان، لا أريد أن أراك بعد الآن، أتعرف لماذا؟ لأنّك تفقد أعصابك واتّزانك عندما تعاقر الخمر، أنت خدعتني بتصرّفاتك الزائفة، أهنّئك استطعت أن تضحك عليّ بأكاذيبك لكن كفاك لحدّ الآن، كفاك تمثيلًا وخداعًا
-لا يمكنك تركي، أنا أحبّك ولن أسمح لك بتركي، ماذا وإلّا أحوّل حياتك إلى جحيم يا سحر
وقع كلام سليم على مسمع الأمّ الآتية من المطبع كالصاعقة فهبّت منتفضة تُبعد سحر عن الباب وتكيّل له الصاع صاعين:
-كيف تجرؤ على الكلام مع ابنتي بهذا الشكل السوقيّ يا عديم الشرف، اعتبرتك شابًّا حميد الأخلاق لائق التصرّف إنّما كنت مخطئة، على كلٍّ، هذه حياتك وأنت حرٌّ بها لكن إبتعد عن ابنتي، إيّاك ثمّ إيّاك أن تحوم حولها بعد الآن، هل تسمعني؟ سأشكوك إلى الشرطة، هيّا غادر بيتي حالًا
ما لبثت أن أنهت التوبيخ حتّى أغلقت الباب بوجهه وهي تتنهّد من الغيظ فأمسكتها سحر وأجلستها على الأريكة ثمّ خاطبتها بهدوء:
-أكان من الداعي أن تحرقي دمك بسببه؟ قلتُ له ما يستحقّ، أرجوك لا تغضبي
-ابنتي، حبيبتي، كنت أنوي إخبارك عند مجيئك، هذا اللعين ممثّل كبير، يدّعي أمامنا بالعفّة والطهارة وهو من سوء البشر، إقبال زوجة المرحوم أنيس أخبرتني عن إدمانه على المخدّرات، أخوها في قسم الشرطة رآه عندما كان يزورها في الحيّ فنبّهها من سوء أخلاقه النتنة
-إعتقدت أنّك أنتِ من أبلغته عن موعد وصولي
-إطلاقًا، يبدو أنّ زياد من أعلمه بالأمر، أمس عندما اتّصلت بي كان في الدكّان يشتري بعض الأغراض، يبدو أنّه سمعني
-فهمت، هو صديقه المقرّب، ما يُزعجني أنّني وثقت به في بادئ الأمر، لكن بان على حقيقته... أمّي... دعيني أقيس ضغطك، ربّما...
-حبيبتي، لا أشكو من شي، ما يهمّني الآن راحتك، إسمعيني، هل... هل أحببت ذلك المعتوه ؟ يعني أتشعرين بالأسى على رحيله؟
-أمّي... لا تقلقي، سليم كان مجرّد رفيق، اعتقدت سابقًا أنّه يمكن أن يتحوّل إلى... شيء آخر... لكن عندما بدأت أكتشف أكاذيبه نفرت من وجوده، لهذا السبب لم أعلمه بذهابي إلى اسطنبول
-حبيبتي، كان عليك إخباري منذ البداية كي أقطع له الطريق قبل أن يتمادى في تصرّفاته
-صدّقيني، لا أكترث لأمره، دعينا نستمتع بشرب الشاي، إشتقت إلى دردشاتنا العذبة
---------------------------------------------------------------------------------------------------
لم يتمكّن يمان من الوصول إلى أضنة قبل العاشرة مساء، حظي بمجالسة والدته ساعة من الوقت ثمّ تركها تخلد إلى النوم ونزل إلى غرفة الطعام يتناول عشاءه وحيدًا. شاح بنظره إلى إناء من الزهر على الطاولة، لعلّها هي من قطفت وروده هذا الصباح قبل الرحيل، ليته استطاع أن يراها قبل أن تغادر القصر للأبد، أيمكن أن تعود؟ حبّذا لو تعود فيعود السبيل إلى اللقاء؟ أخبرته والدته أنّها أنهت العلاج لهذا الشهر، ربّما ستحتاج وجودها للعلاج القادم، أمدّ الله الوالدة بالصحّة لكنّ مرض الربو لا يتركها خصوصًا في مواسم تفتّح الزهر. أبلغته عن قرار بقائها في أضنة فهل يمكن أن تجمعه الأيّام بالممرّضة مرّة أخرى؟ تناول هاتفه الخاصّ، ذات رقم سرّيّ لا يظهر على الشاشة عند التخابر، لم يحسب عدد المرّات التي حاول أن يتّصل بها منذ مساء الأمس، يدوّن رقمها على الشاشة وسرعان ما يمحوه على الفور، يريد أن يسمع صوتها، يحتاجه يدغدغ مشاعره المضطربة، يحتاجه يعوّض عليه أسى الفراق لكن يعود ويغيّر رأيه في اللحظة الأخيرة لائمًا نفسه على هذا الانصياع:" لااااا، لن أتّصل".
---------------------------------------------------------------------------------------------------
-سحر، حبيبتي، هيّا، الفطور جاهزٌ، حضّرت لك فطائرك المفضّلة، هيّا قبل أن تبرد
تعالى صوت جميلة من غرفة الطعام وهي تضع على الطاولة إبريق الشاي، مازالت سحر تسرّح شعرها أمام المرآة شاردة الذهن شاحبة الوجه، لم تنم جيّدًا ليلة الأمس رغم شوقها لدفء فراشها، بقيت تتقلّب في السرير حتّى أولى ساعات الفجر. تزاحمت المشاهد في عقلها تعيد لها ما عاشته في القصر مع السيّدة ومع ابنها، ابنها الذي هزّ كيانها بنظراته وكلامه. وبحركة سريعة وضعت الفرشاة في الدرج تتخلّص من أفكارها الواهمة وتعود مُرغمةً إلى الواقع تحمل حقيبة يدها وتخرج متثاقلةً إلى مائدة الفطور:
-أمّي، حبيبتي، ما كلّ هذا الطعام؟؟؟ لمَ أتعبت نفسك؟
-حبيبتي، أراك باهتة المحيّا هذا الصباح، ألم تنامي جيّدًا؟
أجابت وهي تزيح الكرسيّ لتأخذ مكانها:
-لا... لم أغفُ إلّا عند الفجر
- ذلك اللعين وتّرك، حبيبتي إنسِ أمره ولا تسمحي له أن يعكّر صفو مزاجك، هو لا يستحقّ أن تنزعجي من أجله
-لاااااا، أمّي أؤكّد لك أنّه ليس السبب، لا تقلقي عليّ، اليوم أعاود عملي وأعود إلى حياتي الطبيعيّة
-إذن، ما هو السبب صغيرتي؟ أسمعك
-ليس من سبب، كلّ ما في الأمر أنّني... أشعر ببعض التعب، هذا كلّ شيء
-أفهمك حبيبتي، هذا كلّه بسبب جدول الدورة المُثقل بالحصص، فطور أمّك سيعيد إليك النشاط والحيويّة
أحسّت سحر بغصّة عند الكلام وشعرت بشيء من السوء، مهمّتها السرّيّة جعلتها تكذب على والدتها، ليتها تستطيع إخبارها بالحقيقة كي تزيل عن كاهلها وِزر الكذب، ليتها تفضفض لها عمّا عاشته في القصر فتعرف حينها فقط سبب التعب. تناولت قطعة من الفطائر وقالت تحاول الهروب من حقيقة الاعتراف:
-أتعلمين؟ إشتقت إلى عملي
-لا بدّ أنّ المستشفى اليوم مطوّق بالحرّاس ورجال الأمن، يعني حالة من الاستنفار
إرتشفت سحر قليلًا من الشاي ثمّ بادرتها بحسّ فكاهيّ:
- آااااهٍ منك يا أمّي! أتستأهل عودتي حالةً من الاستنفار؟
-حبيبتي، أنتِ تستأهلين كلّ الخير، إنّما كنت أتابع أخبار الصباح فعرفت أنّ رئيس الحكومة نُقل فجرًا إلى مستشفى "الحياة" في حالة طارئة
-ماذااااا؟ ماذا تقولين؟ كيف حالة طارئة؟
-حبيبتي، أنا لم أقل شيئًا ، هذا ما ورد في النشرة الصباحيّة، لم يُذكر أيّ توضيح آخر
هبّت سحر من مكانها كالمجنونة تختصر المسافة التي تبعدها عن الباب بخطوات قليلة وقد تجمّدت في رأسها فكرة واحدة " حالة طارئة" فإذا بوالدتها تلحق بها إلى الخارج تسألها باستغراب:
-ما بك حبيبتي؟ لمَ العجلة؟ لم تأكلي شيئًا بعد...
كان سليم واقفًا عند الناصية يراقب خروجها من المنزل حتّى يرافقها في طريقها التي اعتادت أن تسلكها مشيًا للوصول إلى محطّة الباص فيعرب لها عن أسفه علّه يحظى بفرصة أخرى تعيد المياه إلى مجاريها، لكنّه رآها توقف سيّارة أجرة أمام البيت على غير العادة وكأنّها على عجلة من أمرها تسابق الوقت للذهاب فلفّ عائدًا إلى المكتبة خائب الظنّ معوّلًا على صباح الغد ربّما يعده بلقاء جميلة الحيّ.
---------------------------------------------------------------------------------------------------
ركضت سحر إلى الطبقة الأولى تلتحق بقسم العناية الفائقة، لم يكن دخولها المستشفى بالشيء السهل، فقد انتظرت مطوّلًا أمام الباب الرئيسيّ المحاط بالأمن والحرّاس كي تمّ التأكّد من بطاقة انتسابها إلى الطاقم الطبّيّ، إجراءات مشدّدة لا تسمح لأحد بالدخول حتّى لذوي المرضى الراقدين في الغرف. إرتدت البرنس الأبيض بسرعة البرق وتوجّهت صوب مكتب الدكتور إيهاب تعلمه عن انتهاء مهمّتها وتعرف منه خبرًا عن الرئيس الراقد في العناية. ويا للخبر الذي سمعته! تعرّض رئيس الوزراء إلى أزمة قلبيّة جرّاء تشنّج حادّ في الوريد ممّا سبّب له ارتفاعًا في ضغط الدم أدّى إلى الإغماء. يحتاج إلى البقاء تحت المراقبة الدقيقة لمدّة ثماني وأربعين ساعة كي يستعيد القلب الضخّ بشكل طبيعيّ إن لم يحدث أيّ طارئ ليس بالحسبان.
ما إن أطلّت سحر قادمةً من الممرّ حتّى رآها نديم الواقف عند الباب فقفز نحوها قائلًا:
-آنسة سحر، سألت عنك منذ قليل، سيادة الرئيس أمانة بين أيديكم، أتمنّى عليك ألّا تتركي جانبه
إستجمعت سحر قواها تُخفي الهمّ يدبّ في قلبها وردّت من موقع المسؤوليّة:
-بالتأكيد، هذا... هذا واجبي، لا تقلق سيّد نديم، عن إذنك عليّ الدخول
دخلت سحر قسم العناية وأخذ نديم مكانه بالقرب من جينغار يربّت على كتفه مواسيًا:
-إن شاء الله، ستمرّ الأزمة على خير، صديقي لا يستسلم بسهولة، أعرفه جيّدًا
-إن شاء الله... ما يُزعجني أنّني لم أكن إلى جانبه حين احتاج إليّ
-لا تلم نفسك جينغار، لست مذنبًا إطلاقًا، كلّمني قبل مجيئه وأعلمني أنّه آتٍ لينعم ببعض الهدوء، عدالت تصرّفت كما يجب، فور اتّصالها بالإسعاف خابرتني مباشرة
-سيّد نديم، سيادة الرئيس لم يكن على سوًى مؤخّرًا، إشتكى من صداع أليم يوم أمس، أعطيته مسكّنًا بنفسي، لم أره يومًا بهذا الإرهاق، إتّصالك فجرًا أرعبني، خفت من... حماه الله من كلّ مكروه
-عليه أن يتخلّص من الضغط الذي يعيشه، ألم تسمع ما قاله الطبيب؟ لا يمكنه أن يُكمل بهذه الوتيرة الخانقة، أتمنّى ان يخرج من هنا بسلامة ولي معه كلام كثير
دلفت إلى غرفة الإنعاش تعتريها لهفة إلى لقياه، تمنع عينيها من ذرف الدموع بعد رؤيته ممدّدًا على السرير بهامته الطويلة ساكن الحركة مكشوف الصدر. قضت في هذا القسم سبع سنوات عاشت فيها معاني الأسى والحزن على بعض الحالات الحرجة، تأثّرت بصمت دون أن تسمح لردّات فعل تخلّ بتوازن الواجب، حالات لا تُحصى من الأمراض قابلتها بقوّة وعزيمة فأحاطتها بكلّ العناية. لم تشعر إطلاقًا ما تشعر به الآن، في هذه الدقيقة وهي سارحة في وجهه المستسلم للمرض والنوم. ظلّت واقفة على مقربة منه لا تقوى حتّى على مراقبة الآلات الموصولة إلى صدره ويديه. أصواتها المتعاقبة تزيد من ارتجاف قلبها ويديها وهي تحاول أن تتناول ملفّه الطبّيّ عن الطاولة المرفقة بالسرير. إنّها المرّة الأولى التي تتأمّله دون رادع أو مانع، فما أرقى الشيب يغزو شعره ويتفنّن في لحيته المهذّبة! ما أقوى ملامحه تصرخ رجولةً رغم وطأة الوعكة وتأثير المنوّم! ليتها تستطيع أن تعترف بوسامته كما فعل منذ أيّامٍ، لكن كلّ ما تريده الآن أن يتخلّص من هذه المحنة بسلام، أن تراه واقفًا أمامها يخاطبها بصوته الجهوريّ ويأسرها بتلك النظرات التي أشعلت في داخلها فتيل الانجذاب، وهل اكتفت مشاعرها بالانجذاب؟ باتت تُدرك أنّ قلبها أصبح ينبض بحبّ سيادة الرئيس. أجل... هو الحبّ بكامل قواه السحريّة ينساب إلى ثنايا فؤادها الهائم، تجهل كيف تمكّن منها على جناح السرعة واجتاح خلايا جسمها المرتعش واستبدّ بذرّات روحها المستسلمة.
بقيت السيّدة نازلي في السرير طيلة النهار، عادت إلى حالتها النفسيّة السابقة، انقطاع عن الطعام والكلام والتواصل، نظرات تحاكي الفراغ ويدان تضغطان بشدّة على قميص أزرق من قمصان الرئيس. مشهد واحد يسجنها وراء قضبانه القاسية المؤلمة منذ الفجر، لحظة وقوع ابنها أمام ناظريها. دخل غرفتها يطمئنّ عليها فإذا به يهوي أرضًا مغمًى عليه ليدبّ الذعر في أرجاء الجناح والقصر. بجوارها عدالت تحاول جاهدة أن تخفّف عنها وطأة الحدث، تلازمها بتفاني الخدمة وتوكّل أمر الرئيس وأمرها إلى الله القادر على شتّى الأقدار.
لم تتفاجأ جميلة باتّصال سحر قرابة العصر تعلمها عن البقاء في المستشفى لمناوبة ليليّة فرضها رقود رئيس الوزراء في العناية الفائقة، فالطاقم الطبّيّ بأكمله أطبّاء وممرّضين وممرّضات على أهبة الاستنفار، وهل يمكن ألّا يجنّد المستشفى طاقمه ومعدّاته وإمكانيّاته من أجل رئيس الوزراء؟
إنّها الثالثة فجرًا، إستغلّت سحر خروج زميلتها إلى الاستراحة لبعض الدقائق كي تلوذ إلى جوار الرئيس، مدّت يدها المرتجفة بحياء تبغي مداعبة جبهته علّها تُخمد النار المشتعلة في قلبها منذ الصباح، وقبل أن تصل أناملها إلى الجبين العريض لاحظت حركة خفيفة في الأهداب تشير إلى بداية الصحو فانتفض قلبها للحدث ثمّ ما لبث أن طار وحلّق في الجوّ حين فتح الرئيس مقلتيه المنتفختين ببطء التثاقل متنهّدًا بوهنٍ ليلوح وجهها المتهلّل فوق نظره الضبابيّ الذي بدأ ينقشع شيئًا فشيئًا حتّى انجلت له صورة المحيّا فأطلق سراح صوته المكبوت يستفيق رخيمًا من عمق السبات:
-سحرررررررررررر
-سياااااادة الرئيس... حمدًا لله على سلامتك
رطّب شفتيه بريق الثغر يُنعش جفافًا من طيلة النوم، وبزفرة فاضت بوهج من الأمل همس بكلام متقطّع:
-أنننننننتِ... هناااا؟
-أجل... أنا هنا... إلى جانبك... يعني... سيادتك تعرّضت لأزمة قلب عابرة والحمد لله مرّت على خير
-وأنتِ إلى جانبي، لم تتركيني...
-أرجوك... لا تجهد نفسك بالكلام، سأنادي الطبيب حالًا
-لااااااااا، إنتظري... قلبي...
-قلب سيادتك بخير الآن، يحتاج فقط إلى الراحة، يعني على سيادتك عدم إجهاده
-هو... هو مَنْ أجهدَني... لم يحتمل... لم يحتمل...
-سيادة الرئيس... أرجوك... يجب أن أنادي الطبيب المناوب للكشف العامّ، دعنا نطمئنّ على سيادتك
هبّت سحر نحو الهاتف الداخليّ تبشّر الطبيب بالخبر السعيد، وكيانها يتراقص كالفراشة ولسان حالها يفيض بأدعية الشكر.
قضى الرئيس ثماني وأربعين ساعة في العناية بعدما استعاد وعيه الكامل، كان لا بدّ من هذه المراقبة الدقيقة للتأكّد من انتظام عمل القلب، وقبيل نقله إلى جناح خاصّ في الطبقة الثانية وقفت سحر أمام السرير بابتسامتها المعهودة وبادرت بالقول بكلّ الهدوء:
-دقائق قليلة وسترتاح من هذه العزلة، تركيا كلّها تنتظر سيادتك خارجًا
نظرات الإعجاب التي فاضت في مقلتيه منعت عنه الاستفاضة بالكلام، أُعجب بضميرها المهنيّ ينبض بالرحمة والمحبّة، هام في اهتمامها لأدقّ تفاصيل راحته، وكم قدّر كلامها مع والدته تطمئنها عنه وتعطيه الهاتف ليبلّل قلب الأمّ المضطرب! وبعد لحظات من السكوت اعترف بشيء من التلميح:
-في الحقيقة، أكنّ بجزيل الشكر لكِ ولقلبي
-قلب سيادتك؟ عذرًا... لكن لم أفهم المقصد
-لولاه لما نعمت بهذه العزلة...
-سيادة الرئيس... أنا لم أقم إلّا بواجبي ثمّ... حفظ الله قلبك من أيّ شرّ... على سيادتك الاهتمام به... يعني لا تُجهده هذه الفترة، أعرف تمامًا حجم مسؤوليّات سيادتك لكن الصحّة تأتي قبل كلّ شيء، والطبيب أوصاك بالراحة والنقاهة لمدّة شهر
ألقى يُمناه على صدره جانب القلب وهتف متنهّدًا:
-قلبي اعتاد هموم السياسة ومشاغلها منذ زمنٍ لكن يبدو أنّ في الحياة أمور أخرى كنت أجهلها... تُرهق القلب أكثر من السياسة... والمشكلة أنّني لا أستطيع التحكّم بها
-لا شيء أهمّ من صحّة سيادتك
-إكتشفتُ مؤخّرًا أنّ الحياة برمّتها فاتتني... فما نفعُ الصحّة بلا حياة؟
توقّف الكلام عند هذا الحدّ بعدما دخل ممرّض شابٌّ يُعلم سحر عن موعد إخراج الرئيس من العناية. لاحقت نظراتها ذهابه ممدّدًا على العربة النقّالة بتأثّر لحظة الفراق وما إن توارى عبر الممرّ حتّى اختفت خلف الستار الحاجب تداري عبراتٍ تهدّد بالانهمار.
عجّت صالات الانتظار بالزائرين يتوافدون إلى المستشفى على مدار الأيّام للاطمئنان على سيادة الرئيس، رجال الدولة بمختلف أطيافهم ومناصبهم أتوْا يتمنّوْن الشفاء العاجل لسيادته. لازم نديم صديقه ليل نهار يقوم بواجب الاستقبال يساعده في المهمّة جينغار المخلص الذي لم يفارق سيّده لحظة واحدة. أمّا الرئيس فكان مشوّش الأفكار، مضطرب الانفعال، لم يرَ وجه سحر منذ خروجه من العناية، هي في المستشفى، في المبنى نفسه الذي يقبع فى إحدى غرفه، قريبة وبعيدة في آنٍ، أيمكن أن يُرسل بطلبها؟ لكن بأيّ ذريعةٍ؟ وإذ بصرير الباب يعلن وصول أحدهم فرفع رأسه عن الوسادة مشنّف الأذنين شاخص العينين مترقّبًا هويّة الزائر وعندما أطلّ نديم أمامه عائدًا من مقابلة الطبيب أرخى حواسّه على الفراش منقادًا خاضعًا لخيبة الأمل، وقبل أن يستسلم لشروده بادره نديم مبشّرًا:
-إفرح يا صديقي، غدًا صباحًا ستغادر المستشفى
-جيّد
-بلّغت مكتب الإعلام في السراي لنشر الخبر واتّصلت بالقصر، ماما نازلي تترقّب عودتك بفارغ الصبر
-أعرف
-كأنّي أراك على غير سويّة؟!؟! هل تشكو من أيّ ألم؟
-لااااااا، أنا بخير
-أنت شارد الذهن، قليل الكلام، تبدو منزعجًا، يمان ... أنا أعرفك جيّدًا صديقي، ما بك؟
نفض الغطاء عنه بشيء من العصبيّة وردّ بصوت حازمٍ:
-نديم... قلت لك إنّني بخير
قرّب الصديق الكرسيّ من السرير وقال بعد لحظات من التفكير:
-سيادة الرئيس، لا شيء يغفل عن صديقك... أنا أسمعك... ولا داعي للإنكار فأنا، كما تعلم، مراقب ماهر...
-أنت إسمعني، لست بوضع يسمح لي تحمّل إصرارك
-إذن ما عليك إلّا الإفصاح عمّا يضايقك، تعلم يقين العلم أنّني لن أتركك أسيرًا لهذه الحال
-ما بها حالي؟
-يمان... توقّف عن المراوغة وقل لي ما بك؟
تحت إصرار نديم المُطبق قال الرئيس مستسلمًا علّه يريح تفكيره بالفضفضة:
-يبدو... يبدو أنّني التقيتُ بالمرأة التي كنّا نتحدّث عنها منذ أيّام
-أعرف
رمقه بنظرة استغرابٍ وسأله على الفور:
-تعرف؟؟؟؟ ماذا تعرف؟؟؟
-يمان، عزيزي، نظرات الإعجاب بالمرأة يلتقطها أيّ رجلٍ بسهولة، فكيف إذا كان هذا الرجل صديق العمر؟ أنا لم أسألك سابقًا عن الأمر لأنّ سفري إلى اسطنبول لم يسمح لي برؤيتك، وهذا موضوع لا يُثار عبر الهاتف، هات أخبرني عن التفاصيل
-أيّ تفاصيل نديم؟ لا وجود لأيّ تفاصيل، كنت متسرّعًا بعض الشيء وهي... هي لم ترحّب بطريقتي أو لا أعلم... من المؤكّد أنّها لم تشعر بما يجتاحني من مشاعر لحظة لقائها
-ماذا فعلَتْ؟
هزّ رأسه مغمض العينين وكأنّه يستعيد مشهد النبع ثمّ أجاب معترفًا:
عبّرتُ لها عن مدى جمالها بمنتهى الشفافيّة فإذا بها تُلقي عليّ محاضرة في الكلام والنوايا المبطّنة
إبتسم نديم وهو يفرك جبهته بأطراف أصابعه يستعدّ لحلّ يُنير ذهن صديقه المشوّش:
-التعامل مع المرأة دقيق بعض الشيء، يعني عليك أن تكون صبورًا، تمهّد للأمور على نار هادئة، بالنتيجة التغزّل بجمالها بهذه السرعة لهو شيء حسّاسٌ لا تتقبّله جميع النساء
سكت نديم قليلًا عند رؤية صديقه يتنهّد متأفّفًا من قلّة خبرته ثمّ بادره بالسؤال:
-كيف قضيت أيّامك في العناية؟ ما قصدته هل قمت بأيّ تلميح؟
ردّ الرئيس بصوت خافت تخنقه غصّة الانهزام:
-حاولت... لكن... لم أفلح
وهي؟ كيف كانت تعاملك؟ أعني هل لاحظت أيّ اهتمام فائض؟
-لا أنكر أنّها عاملتني بمنتهى التفاني لكن هذا لا يفسّر شيئًا، هي أساسًا مشهودٌ لها بحسّها الإنسانيّ، تعتني بجميع المرضى بفيض من الرحمة
-يمان، إسمعني، إن كنت تؤمن فعلًا بالشعور الجديد الذي يجتاحك فعليك بالمحاولة عديد المرّات حتّى تتأكّد من حقيقة شعورها، إن لقي قلبك صدًى في روحها فهنيئًا لك يا صاحبي
-وإن لم يلقَ...
-دع التشاؤم جانبًا وفكّر بالخطوة القادمة، أنت ستكون متفرّغًا هذه الفترة يعني بحكم إجازتك المرضيّة، أنا عليّ الذهاب الآن، سنكمل كلامنا لاحقًا إنّما عدني أن تأخذ بنصيحتي
غادر نديم الجناح لينظّم خروج الرئيس من المستشفى بتنسيق مع مكتب الأمن تاركًا صديقه مجدّدًا مع شروده، تسيطر على هواجسه فكرة لعينة واحدة أثارها نديم في الحديث، "إن لقي قلبك صدًى في روحها..."، لطالما كره في حياته أسلوب الشرط وما ينطوي عليه من ترقّبٍ لنتائج أسبابه. عوّدته القيادة إطلاق أوامر صارمة تستوجب تنفيذًا سريعًا دون أدنى احتجاج، ونجاحه الساحق في إدارة الوزارات نابع من هذا المبدإ، يدرس قراراته خير درسٍ قبل إطلاقها إذ لا يقبل على نفسه الفشل أو اللغط لكن يتراءى له أنّ بين أحكام القيادة السياسيّة وأحكام الفؤاد هوّة سحيقة تُبعد احتمال اللقاء إلى أبعد المجالات. لن يبقى أسيرًا لهذا الشعور المشروط بسيل من الاعتبارات، لن يسمح له أن يذيقه مرّ النَفسِ والعيش، قضى حياته بعيدًا عنه وعن آلامه المبرحة بعيدًا عن عجائب وغرائب عالم النساء. سيكمل طريقه وحيدًا كما بدأها، فهو لن يراهن على كرامته التي ستُسحق إن لاح عقم المحاولة، وإن سلّم جدلًا لخلاص عزّة نفسه من الجرح فكيف يضمن سلامة قلبه؟ أيحتمل ضربة قاسية تقضي على ما تبقّى من نبضاته المثقلة بالأعباء؟ أغمض عينيه بوهنٍ يريح بصره من الفراغ ويحرّم على ذاته العبث بمشاعر عاشت دفينة في أعماق داخله منذ زمن، فلتقبعْ مكانها مدثّرة بغطاء من النسيان مستقرّةً آمنةً لا تخشى صراعات الانفلات.