الفصل الثَّاني.

219 50 52
                                    

الرَّابع عشر من يناير..
قبل عشر سنواتٍ..

سحبتُ نفسًا عميقًا إلىٰ رئتيّ أعاين هيئتي وتلك الباقة ذات الورود الأنيقة ربّما للمرَّة الألف، أخذتُ قراري وسرتُ أخيرًا في طرقة المشفىٰ - المحمّلة رائحتها بالمطهّرات والمعقّمات- صوب غرفتها، أحمل الزهور البنفسجيّة بين يديّ. وقفتُ أمام الباب أزفر أنفاسي على مهلٍ قبل أن أطرق الباب منتظرًا لوهلةٍ أن يأذن لي أحدٌ بالولوج، سمعتُ صوتها المتسائل لحنًا تراقص له فؤادي طربًا:
«من الطَّارق؟»

حمحمتُ مجيبًا:
«إنّه أنا، ريّان.»

استمعتُ إلى حمحمتها هي الأخرى، ثم انتظرت لبضع ثوانٍ قبل أن تسمح لي بلهجةٍ ممتعضةٍ استشعرتُها:
«تفضّل.»

أدرتُ مقبض الباب أدفعه للأمام بخفّة، ولجتُ غرفتها التي لا تختلف كثيرًا عن غرف المستشفيات، بجدرانها ذات اللون السّماوي وأرضيتها البيضاء. وجدتُها جالسة على سريرها مُمدّدةً ساقيها بحجابها الأزرق المعقود حول رأسها بعشوائيّة وعجلةٍ لكنه يُخفي شعرها ورقبتها، لم أستطع ألّا أنظر صوبها متأمّلًا ذلك الوجه وتلك الملامح ضاربًا بضرورة صرف بصري عنها عرض الحائط، لكنني تمالكتُ نفسي أحدّثها بلباقةٍ مادًّا يدي بباقة الورد أضعها على الطاولة المجاورة للباب:
«صباح الخير يا آنسة رُبى.»

زفرت بضيقٍ بائن تردّ تحيّتي بغمغمةٍ وعيناها المغتاظتان على الباقة البنفسجيّة باغتياظٍ أكبر:
«صباح الخير.»

تنحنحتُ قليلًا أحاول الدُّخول في صُلب موضوع زيارتي مباشرةً:
«آملُ أنّكِ أفضل حالًا ممّا رأيتُكِ عليه في الزِّيارات السَّابقة.»

هزّت رأسها بابتسامة متكلّفة وكأنها تريد طرحي أرضًا، لولا تلك الجبيرة في يدها. ثم نطقت بنبرتها ذات البحّة المميّزة وهي تعبث بهاتفها:
«نعم وللّٰه الحمد. كان بودِّ خالي أن يقابلك هو اليوم، لكنّه في دوّامةِ عمله.»

رفعت رأسها عن هاتفها قبل أن أجيبها تستأنف حديثها بلهجةٍ لاذعة:
«والآن أتريد شيئًا آخر؟ كما ترى خالي ليس بمتواجدٍ. لا؟ إذًا خذ زهورك بلونها الذي يثير غثياني وامضِ.»

نطقت كلماتها معاودةً النّظر في هاتفها مرّةً أخرىٰ، وأخذتُ أنا بضعة لحظاتٍ أحدّق بها في صمت، أحفظ ملامحها وأحفظ كلماتها التي تكرّرها هي على مدار أسبوعٍ من يوم الحادث كلّما ذهبتُ لرؤيتها، وأحفظ أنّها تكره اللون البنفسجي، وأنّها تكرهني أكثر ممّا تكرهه. سحبتُ إلى رئتيّ نفسًا عميقًا ثم مضيتُ كما قالت هي، أمضي لبعض الوقت فحسـب.

........................................................................

«ريّان، ريّـان.»

استفقتُ علىٰ صوتها مجدّدًا وهي تنقر كتفي بإصبعها، أجفلتُ أحدّق بوجهها الذي يطالعني باستغرابٍ جمٍّ، وفور أن شعرت بتركيزي معها هتفت بمزاح:
«أذلك لأنك تذكّرت يوم لقائنا الأوّل؟ لا يبدو وقع ذلك سيّئ للغاية.»

لأجاري مزاحها مستفسرًا:
«هنالك الأسوأ منه إذًا؟»

لتهز كتفيها تجيبني بمداعبة:
«لا أظن أن هناك ما هو أسوأ من الطريقة التي التقينا بها.»

توقّفت لوهلةٍ تنظر نحوي بحقدٍ اصطنعته تستأنف حديثها:
«تبدّل تحاليلي بتحاليلَ غيري لأصبح حبلىٰ وأنا عزباء! أهنالك ما هو أسوأ من ذلك بنظرك يا حضرة الطبيب؟»

تعالت قهقهاتي أتذكر ما فعلته بها، برّرتُ موقفي قائلًا:
«ولولا ذلك لم تكوني لتقعي في حُبّي أيّتها البائسة، هيا اعترفي!»

ابتسمت بدلالٍ وهي تُقرّ:
«بالفعل، وهذا ما جعل لحياتك معنًى أيّها المُحب الأكثر بؤسًا.»

جاريتها بلُعبتها تلك وقد اكتفيتُ بابتسامة متسلِّية، فإذا بها تُكمل بسخرية:
«جعل لحياتك معنى، وجعلني مستغربةً من وجودي في ذلك البيت بنفسجي الجدران الذي تأخذني إليه لأوّل مرّة وقد تزوّجنا منذ سنة! ما قصّته؟»

تريّثتُ لبضع لحظاتٍ، وشريط عريضٌ من الذكريات يمرُّ أمامي، ثمّ تكلّمتُ بهدوءٍ أوضّح ما غمض:
«هذا بيتي القديم، به معظم ذكرياتي على الأرجح مذ كنت بالجامعة، وقد شعرتُ بالحنين إلى ذكراه فلم أجد ذكرى أفضل من ذكرى زواجنا لكي أضمّها إلى ما في ذاكرتي فيه.»

همهمت متفهّمة مصدّقة كلامي بالطّبع، لأجدها تُعلّق:
«ما أكثر رُبا ذلك الحي! والتي إحداها يحتلُّها ذلك المنزل، عجيبٌ أمرها.»

آه لو تعلمين! همستُ بداخلي ساخرًا، ثم وجّهتُ حديثي لها متغزّلًا:
«منزلٌ على الرُّبا، ودانيةٌ من الفؤاد اعتلت رُبـاه.»

ضحكت برقةٍ من تغزّلي بها ناطقة بابتسامة:
«لا عجب أكثر من حبّك لاسم رُبى حتى منزلك كان على الرُّبا قد بُنِيَ.»

لأعقّب:
«لا تعجبي من اسم ابنتنا يا رُبى فؤادي.»

تنهّدت تشبك أصابعها بأصابعي برفقٍ، وكذلك فعلتُ أنا. هيمن الصمتُ على الأجواء، وهيمنت علىٰ عقلي غيلان الذّكريات تلتهم ثناياه التي اندلعت منها، آه من رُبى صُعدت ولم ينزلها صاعدها، آه من رُبى الفؤاد ومن اعتلاها يتخذّها مسكنًا، ما بال أنها اتخذتها مَسكنًا بمقلتين ناعستين وقلبٍ جسور؟ اكتفيتُ بها غنيمةً، وكفى أنني بالرُّبى أظفـرُ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رُبىٰ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن