الفصل الرَّابع.

115 40 18
                                    

في وقتٍ ما..
منذ عشر سنواتٍ..

«أواثقةٌ أنكِ لا تريدين المجئ؟»

عقّبتُ متسائلًا عندما رأيتُها جالسةً أسفل شجرة منزلها تولّيني ظهرها ضامّةً إليها ركبتيها، هزّت رأسها نفيًا دون أن تلتفت نحوي، زفرتُ أنفاسي أتّخذ مجلسًا جوارها، وضعتُ كفّي علىٰ كتفها أسألها بنبرةٍ حانية:
«لا تزالين حزينة؟»

نظرت نحوي بطرف عينيها، ثمّ قلبت مقلتيها تبعد ناظريها عنّي، وهي تنفض كتفها بعنفٍ تقصد إزاحة يدي عنه، تبسّمتُ من رد فعلها الغاضب؛ فلا ضير من تدلّل حسنائي الغاضبة، أخذتُ فترةً أزن كلماتي بعناية قبل أن أتحدّث بنفس النّبرة الحانية:
«رُبى، أنتِ تعلمين أنّني أخاف عليكِ، فكيف أنكِ خرجتِ من المنزل بالتاسعة صباحًا ولم أجدكِ علىٰ أعتاب منزلكِ سوى بالثانية عشر بعد منتصف الليل وقادمة في سيارة زميلًا لكِ بالجامعة؟!  لقد كدتُّ أن أحترق غيرةً وأنتِ لا تشعرين بتلك النيران!»

التفتت نحوي تهتف بانفعال ومقلتيها تلتمع بالدموع:
«وتشكُّ بي أيضًا بعد ما فعلت من صراخ وردّ فعلٍ لا يصدر سوىٰ من طفل وليس من رجلٍ بالغٍ سيتزوّج بعد بضعة أشهرٍ؟! أنت حتّىٰ لم تترك لي المجال للتّوضيح!»

حاولتُ امتصاص نوبة غضبها وكظم غيظي أردُّ عليها بمنطقيّة:
«ألم يكن من الأولىٰ أن تهاتفيني وتُعلميني أنه كان لديكم تطوُّعًا في تلك المصحّة النّفسيّة عِوضًا عن أن تتركيني هكذا؟ ألم يكن من الأفضل قبل ركوبك مع زميلك هذا أن تراسليني أنكِ لا تجدين مواصلةً؟»

أمام ما نطقتُ به، سكتت هي، ولم تنبس ببنت شفة ضاغطةً شفتيها بقوّة وهي تنكس رأسها إلى الأسفل، أمسكتُ ذقنها رافعًا رأسها أسألها معاتبًا إيّاها بهدوء:
«ألا يحقُّ لي أن أعرف كل ذلك يا رُبىٰ؟ ألستُ خطيبك؟ ألستُ أولىٰ من زملائكِ بأعباء همومكِ؟ أم أنا همٌّ من تلك الهموم؟»

نظرت إلىٰ عينيّ تبادلني نظراتي المعاتبة بأخرىٰ حائرة معتذرة، ومتلبّكة. همّت بالتحدّث لكنّها أحجمت تعض علىٰ شفتيها في حرجٍ، استأنفت حديثي بنبرة أكثر لينًا:
«رُبىٰ يا رُباي، أدركُ أنّني لم أستطع تمالك أعصابي بالأمس، وأنّه كان بإمكاني الهدوء أكثر، ولكن في نفس الوقت لا تحاولي خلق الأسرار بيننا دون جعلي جعبتها التي تحتويها، ألستِ تخبرينني دائمًا أنني أمانكِ؟»

دمعت عيناها تهمس بندم:
«بلىٰ.»

مدّدتُ إبهاميّ أمسح عبراتها أقول بهدوءٍ:
«حسنًا؟»

تواترت دموعها دونما انقطاعٍ علىٰ وجنتيها، لأكتفي أنا بضمِّ رأسها لتنفلت شهقاتها تقول ما بين شهقةٍ وأخرىٰ:
«آسفة، فقط.. لا تكن غاضبًا منّي.»

أبعدتُها عنّي برفقٍ أضع قبضتيّ علىٰ كتفيها أردف بلينٍ وأنا أنظر في عينيها:
«لا عليكِ، فقط لا أطلب منكِ سوىٰ وضوحًا معي.»
أكملتُ بعدها بنبرةٍ محذّرة:
«ولا تعودي في سيّارات زملائكِ الشباب، خصوصًا ذلك السَّمِج الذي عدتِ معه، إمّا تتصلي بي، أو عودي مع واحدة من صديقاتكِ. أتقفنا؟»

أومأت سريعًا بتفهُّم، فلم أجد بُدًّا من أن أفتح لها ذراعيّ مجدّدًا في دعوةٍ صريحةٍ لتنضم بينهما، وقد لبّتها بطيب خاطرٍ ينقشع بها ما ساد من بغضاء، ويسود بانقشاعه صفاءً لا يعرف للخصام سبيلًا..

........................................................................

حاليًا..

ذهبتْ إلىٰ المطبخ تُعدُّ ما نتناوله للفطور، فدلفتُ وراءها لأجدُها تخفق بيضتين لي ولها، وبعضًا من اللحم المقدّد في مقلاةٍ علىٰ الموقد، وفور أن شعرت بخطواتي وجّهت رأسها نحوي متسائلة بابتسامةٍ عريضة:
«أتلك الدُمية لي؟»

قالت جملتها وهي تشير بيدها الفارغة إلى الدُّمية المُعلّقة علىٰ النافذة، ابتسمتُ بهدوءٍ أجيب سؤالها بسؤال آخر:
«ألا تُشبهكِ؟»

لتردُّ هي بحماسةٍ شديدةٍ بينما تضع البيض المخفوق في المقلاة محدِثًا صوت فرقعةٍ خفيف إثر اصطدامه بالزيت واللحم الساخن:
«ولذلك تساءلتُ، حتىٰ أنفي الطَّويل ومُقلتاي الخضراوان تجسّدت فيها!»

حبكت قصّتي أقصُّها عليها:
«وجدتُها عند امرأةٍ عجوزٍ في سوق حيّنا، لم أكد أراها حتى تخيّلتها أنتِ! ويال العجب، كان اسم العجوز دانية!»

تعالت ضحكاتها تعجُّبًا مما أخبرتُها به، ظلّت ابتسامتي كما هي أتقدّم من الثَّلّاجة أخرج منها ما أعِدُّ به طبقًا من السَّلطة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رُبىٰ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن