الفصل الأوّل.

413 56 24
                                    

السَّابع من يناير..
قبل عشر سنواتٍ..

مطيرُ الأيّام، ينادينا ونلبّي النداء مهرعين إليه، ليس حُبًّا في أن نبتلّ من رأسنا إلىٰ أخمص قدمينا، ولا رغبةً في أن نبيت أسبوعًا تنفضنا رعشة الحمّى تارة، ولا في أن يأخذ السُّعال منّا مأخذه تارة أخرىٰ، وإنَّما نُلبِّي نداء دواماتٍ ولقمة عيش نسعىٰ وراءها سعيًا أضنانا بما يكفي ويزيد، ومحاضرات يهذُّها مُلقوها هذًّا، وكلٌّ يبكي علىٰ ليلاه.

تأفّفتُ ضجرًا ما إن شعرت بذلك الضَّباب المتجمّع علىٰ عدسات نظّاراتي الطبيّة، تعيقني عن الرُّؤية بشكل سليم. نزعتها أنظّف عدساتها بروتينيّة شديدة أضعها علىٰ عينيّ مجددًا، زفرتُ زفرةً طويلةً أنظر في تلك المرآة بجوار باب شُقّتي أعاين هيئتي، ثم فتحت الباب أحمل حقيبة ظهري مغلقًا الباب خلفي بهدوء.

تقدّمتُ صوب سيّارتي وحذائي ذو العنق الطّويل يقرع الأرض المبلّلة جاعلًا من قطرات المياه عليها تتطاير، نظرتُ إلىٰ السّماء الملبّدة بالغيوم وشعرتُ أنَّها علىٰ وشك الإمطار مجدّدًا بعدما أنهت جولة متخّمة بالأمطار الغزيرة طوال اللّيل، تنهيدة طويلة غادرت ثغري وأنا أدلف السّيَّارة مديرًا محرّكها بهدوءٍ أنطلق نحو وجهتي - المعروفة حتمًا.

زفرتُ أنفاسي في كَدرٍ شديد ما إن أبصرتُ قطرات المطر تبدأ في الهطول على الزُّجاج الأماميّ، كان ذلك متوقّعًا على كلِّ حال. أخذت مسّاحات الزُّجاج تزيح قطرات المياه مُمكّنةً إياي من الرُّؤية لبضعة ثوانٍ، ثم يمتلئ سطح الزُّجاج أمامي بقطرات المطر مجدّدًا وقد شرعت في الازدياد بقوّة.

لجزءٍ من الثّانية التّالية، ضغطتُ على المكابح بقوّة أحاول تجنّب أية خسائر قد تلحق بي، جَراء اندفاع شبحٌ أزرق لفتاةٍ أمام سيّارتي السّائرة، ولكنني كنتُ قد صدمتها طارحًا إيّاها أرضًا.

نزلتُ من السَّيّارة، وقد استبدّ بي غضب يخالطه قلق على تلك المنبطحة أرضًا، هبطتُ على ركبتيّ أحاذيها وأنا أستمع إلى وقع خطواتٍ مهرولةٍ يقترب منا، تحدثتُ بقلق ولهوجة شديدة وأنينها المتوجّع هو كلُّ ما خرج منها:
«آنسة، هل أنتِ بخير؟ أنا..»

قاطعني صوتٌ جزِعٌ لِرجل يصيح جاثيًا على ركبتيه عند ذراع الفتاة يُدير رأسها ناحيته:
«رُبىٰ! رُبىٰ هل تسمعينني؟؟ رُبىٰ!»

كانت الفتاة تحاول التكّلم بلسان ثقيل وأنفاسٍ تجاهد لالتقاطها، ولكن جُلّ ما كان يخرج من ثغرها كان أنينًا خافتًا وتأوّهاتٍ متألّمة وهي تحاول الجلوس، لأوجّه حديثي بتوتّرٍ إلىٰ الرجل كنوع من المساعدة علىٰ ما تسبّبتُ به:
«سأتّصل بالإسعاف الآن، فقط احملها وأدخلها إلىٰ سيارتي ريثما يصلون؛ كي لا تُصاب بالبرد.»

أصابني الرجل بنظرة حارقةٍ، وقد كنتُ مصيبًا فيما أخبرته، ولكنه صاح بغضب:
«لستُ أعلم أي لعنةٍ تلك التي أعطتك رخصة لتقود مركبتك!»

أخذ يتفحّص الفتاة ليرى إذا ما أصابتها أي كسور، وذهبت أنا للاتصال بالإسعاف وعيناي على الفتاة. ساعدها ذلك الرّجل على الجلوس وهو يخبرها أن تثني ساقيها ثم تفردهما وكذلك ذراعيها. أخذت أتأمّلها والهاتف على أذني: عيناها البندقيّتان المتّسعتان بلمحة الألم فيهما، أنفها الطويل المستقيم سوى من ارتفاع طفيف فيه في منتصفه. كانت هي صُدفتي التي قابلتها يومها، لعنة قذفتني إليها ولم أفق منها إلىٰ الآن، نطقتُ بلا وعي اسمها أهمس حروفه وكأني أحفظها في عقلي:
«رُبـىٰ.»

........................................................................

عودة من الماضي

في بحور الذكريات غرقتُ توًّا، وفي بحورها أعلق أنا دومًا..

فقط أحدّق في تاريخ اليوم في هاتفي، ويشردُ ذهني عنّي وتشردُ الذكريات صوبه مهاجمة، فقط أتنهّد وكأن دقّات قلبي تخرج مع تنهّداتي.

السابع من يناير..

عشرٌ من السنوات مرّت، وعشرٌ غيرها ستمرّ، وفقط تلك الحلقة المفرغة هي كل ما أدور أنا به من فرط حنين وأنين، تأفّفتُ تلك المرّة غير متنهدٍ أخلع نظّاراتي أنظّف عدساتها بطرف كنزتي الشّتويّة، ما إن فرغتُ ارتديتها مجدّدًا أنظر إلى النافذة مقيّمًا الجو بالخارج وكما هو متوقّعٌ: مطيرٌ شديدةٌ رياحه وليس هناك ببشريٍّ يخطو خارج منزله إلّا كان ممسوسًا فاقد العقل والتمييز!

لم ينتشلني مما أنا فيه سوى يدها التي امتدّت إلى يدي تعانقها برفقٍ وصوتها الناطق بتساؤلٍ:
«ما يشغل بالك يا عزيزي؟»

ارتسمت علىٰ ثغري ابتسامة هادئة أشدُّ علىٰ كفّها أنطق متغزّلًا:
«تشغلني من هي لقلبي رُبًى، يا رُباه أنتِ.»

همهمت متسائلة بابتسامتها الخجولة:
«وأيُّ المعاني قصدت بها رُباك هذه المرّة؟»

دنوتُ ناحيتها أقبّل جانب رأسها متمتمًا:
«عقدة فؤادي المحكمة، يا رُباه.»

اتّسعت ابتسامتها الخجولة برقةٍ واستمتاع ورأسها يميل علىٰ منكبي، تأمّلتُ ملامحها الباسمة بِدءًا بمقلتيها البندقيتين مرورًا بأنفها الطويل كوجهها، رقيقة ملامحها وإن لم تكن بارعة الجمال، تحدّثت بعد صمتٍ دام لفترة وجيزةٍ بعد أن استمعت إلىٰ تنهيدتها التي انعكست على كتفي وكانت رسالةً قاسية تدعوني للاستيقاظ:
«تذكّرتُ يوم التقينا يا ريّان.»

وتذكّرتُ أنا يوم التقينا يا فؤاد ريّانك أنتِ، ربوةٌ رباها فؤادٌ فـهوىٰ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رُبىٰ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن