الفصل السَّابع والأخير.. يا رُبىٰ

138 44 20
                                    

حاليًا..

فتحتُ عيناي أتنفَّس بعنفٍ، وكأنني خرجت من سباقٍ طويلٍ سلب مني أنفاسي أهبّ جالسًا مكاني، وكامل جسدي ينتفض بشراسةٍ أعهدها دومًا في مثل ذلك الموقف، بعد أن أغطُّ في سُباتٍ عميقٍ.

شعرتُ بالأرضيّة الباردة التي كنت منسدحًا عليها، تبعث صقيعها في جميع أوصالي، التفتتُ لأجدها متسطّحة جواري، وجهها طباشيري اللون لا تزال عليه تلك اللمحة المذعورة وإن سكن تمامًا، ظللتُ أحدّق في وجهها وابتسامة خاوية ترتسم علىٰ ثغري ببطءٍ وتروٍّ، مددتُ أناملي علىٰ وجنتها الباردة أمرّرُها فوقها وأنا أمعن التأمّل في وجهها المفارق للحياة، ثم قلت أخيرًا بعد صمتٍ دام لدهرٍ على ما يبدو:
«ذهبَت.. ذهبت ولم تطفئ نيرانًا أضرمَتها، ذهبت في ذات اللحظة التي سلبتني فيها كلُّ ما امتلكتُ يومًا، ذهبت ولم أستطع مسّ شعرةٍ منها، فقط.. ذهبت.»

تساقطت دموعي ألمًا وابتسامتي تزداد اتّساعًا ونبرتي تغصّ قهرًا:
«أحاول سلبها كل ما تمنّت يومًا، أعيش علىٰ أمل أن أستطيع سلبها ما تمنّت وهي لم تعد تتمنّىٰ من الأساس! كرهتْ هي البنفسجي فبنيتُ لها منزلًا بنفسجي الجدران، كرهت المرتفعات فجعلتُ لها منزلًا علىٰ الرُّبا واتخذته لها ولأحلامها سكنًا.»

بسطتُ يدي علىٰ جانب وجهها أهمس لها وكأنني أخبرها بسرٍ:
«أتعلمين؟ حتى الأزرق الذي لم تحب مثلما أحبّتهُ، دفنتُها به، كما دفنتكنّ جميعًا فيه، دفنتكنّ في نفس اليوم الذي عرفتها فيه، وماتت هي فيه!»

همست لها بصوتٍ أكثر خفوتًا وأنا أمسح بيدي علىٰ شعرها:
«ألا تريدين رؤية إخوتكِ يا صغيرتي؟ لكِ سريرٌ بجوارهن محفورٌ منذ الصَّباح.»

واصلتُ حديثي وابتسامتي في أوج أطوارها اتّساعًا:
«أخواتكِ الخمس سيرحّبون بكِ يا دانيتي، خصوصًا أنكِ مميّزةٌ وللغاية؛ فأنتِ أقرب الشَّبه بها: وقوعكِ في حبّ طبيب بائس وأنّني عرفتكِ في نفس اليوم الذي متِّ فيه!»

نظرتُ إليها أهتف بلهجة المعتذر:
«اعذريني؛ فهي كانت ترىٰ من ياء الملكيّة تدليلًا يصلح لجروٍ أليف.»

حملتُها بين ذراعيّ أطالع تقاسيم وجهها للمرّة الأخيرة، توجّهتُ بها إلىٰ الفناء الخلفي الذي حفرتُ فيه قبرها بالفعل والأمطار قد بلّلتني من رأسي إلى أخمص قدمي، وكذلك بلّلت محل إقامتها، وبجواره خمسة قبور أخرى معبّأة بذخيرتها، وجّهتُ إليها الحديث مجدّدًا بابتسامة واسعة أشير بذراعي إلىٰ كل قبرٍ علىٰ حِدة:
«رحّبي بأخواتكِ يا صغيرتي، هنا أولاكنّ، إيلاف، وهنا مُزن، وتلك سلسبيل، وهذه لين، ثم وَسن، وأخيرًا وهناك آخرًا...»

أشرتُ على حفرتها الفارغة أردف:
«محلّ إقامتك، دانية.»

وقع بصري علىٰ ذلك القبر الذي كان أمامهم جميعًا أكمل حديثي:
«وبالطَّبع تلك لعنتكنّ لأنّها من اختار أسماءكنّ ولأنّها من امتلك تلك الدُمى، رُبىٰ.»

أطلتُ النظر إليها أصيح بانفعال وتشفّي:
«رحّبي بحلمٍ آخر من أحلامكِ ينضم إليكِ يا.. رُباي.»

ألقيتُ بدانية في حُفرتها بثوبها الأزرق، ثم ألقيتُ الثرىٰ النَّديّ بقطرات المطر فوقها أردمها به، إلىٰ أن أصبحت الحفرة باستواء الأرض، ثم تنفّستُ الصُّعداء أدخل إلىٰ المنزل وثغري ينفرج عن بسمةٍ راضية..

نظرتُ إلىٰ الدُّمية أتأمّلها قليلًا، التقطُّها متناولًا القدّاحة وأشعلتُ فيها النيران إلىٰ أن استحالت رمادًا، ثم أوليتُها ظهري أفكّر فيما هو قادمٌ.
........................................................................

ما إن أنتهيتُ من استحمامي فوجئتُ أنّ المطر قد توقّف بالفعل، فقرّرت الاستمتاع بذكراها أجوب الشوارع ضاحكًا، بمعطفٍ بنفسجيٍ قاتم..

نزلتُ التَّلّ الذي يقطن فوقه المنزل، ثم انعطفت يمينًا طويلًا إلىٰ أن وجدتُ بشرًا وطريقًا به سيّاراتٍ عديدة، لمحتُ المقهىٰ الذي في نهاية الحي؛ فقد شعرت أنّني أشتهي كوبًا من القهوة السَّاخنة. ما إن هممتُ بتخطّي الطريق حتّىٰ ألقتني أرضًا سيّارة منطلقةً من حيث لا أدري، أغمضتُ عينيّ بقوّةٍ أقاوم ذلك الألم الذي اندلع في شراييني فجأةً، انفتح باب السيّارة وخرجت منه امرأة تتلحّف بشيء أزرق تهرع نحوي تهتف بتلعثم وتأسّف شديد:
«يا إلهي! أنا متأسّفة للغاية، لا أدري كيف حدث ذلك، بدلًا من أن أضغط علىٰ المكابح لست أدري أين دعستُ أنا!»

كان النَّمش يغطّي أنفها ومقلتيها شديدتي القتامة، نزل شابٌ من الجهة الأخرى يوبّخها وهو يهرول نحوي:
«ألا تتعلمين أبدًا يا صِبا؟ صدمتِ رجلًا وأنا معكِ، ما بال إن قدتِ وحيدة؟»

أخد الشاب يعاينني ويرىٰ ما إذا كان هنالك أي كسرٍ في عظامي التي تئِن بعنفٍ، ولكن كل هذا لا يهم الآن؛ فاسمها صِبا، أليس كذلك؟ ليتحدثّ إليّ باعتذارٍ وتلبّك:
«لست أعلم ما أقول، ولكنّها تتعلم القيادة، أنا آسف للغاية ولكن اطمئن، سأتكفل بكل شيء حتّىٰ الإجراءات القانونية إن كنت تودّ السير في مثل هذا الطريق، واللعنة اتركي السيّارة وشأنها الآن يا صِبا!»

«رُبىٰ؟»

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تمّـت بحمد الله.

أراؤكم❤️.

رُبىٰ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن