الفصل الخامس.

104 42 17
                                    

حاليًا..

نبحُر ما شاء لنا في بحورٍ من الذكريات، نبحر وبمحض إرادتنا الحُرّة مدركين أنّ الماء قد استحال رمالًا ابتلعتنا في جوفها، ندرك أن الرِّمال ليست أنيسةً ولا مواسيةً، ومع ذلك نستأنس بها ونقرّبها إلينا أكثر وأكثر ونظن أنّ الخلاص بين أيديها، وأيديها من خلف ظهرها تحمل خنجرًا تطعن به بغتةً.. وخلسة.

غريبٌ هو ذلك العشق! يجرّنا خلفه جرّ السّاقي للبهيمة، وننساق نحن بأريحيّةٍ ولهاثٍ محاولين بذلك أن نُحصّل جائزته المرجوّة، ولا نجد سوى ذلك الخنجر، فإما نَطعن أو نُطعن، ولا عزاء لاختيار ثالثٍ.

شعرتُ بصحن البطاطس يوضع علىٰ الطّاولة أمامي، رفعت رأسي من شاشة هاتفي، أبصرتها أمامي تسحب كرسيها لتجلس مقابلة لي، رمقتني بابتسامة خلّابة وهي تثرثر:
«يالي من مُغفّلة! تخيّل أنّني تركت البطاطس على النار إلىٰ أن نادتني رائحة الحريق! كل ذلك لأني أبحث عن السُّكر وأكواب القهوة! ثُمّ أين ماكينة القهوة هنا؟ ألا تمتلك واحدة؟»

رصّت كلماتها رصًّا باندفاع شديد بلا تريّث، فاكتفيتُ بإجابتها علىٰ سؤالها الأخير وأنا ألوك البيض في فمي:
«أفضّل تحضير القهوة السّريعة كما تعلمين.»

لتجادل هي:
«حتّىٰ تلك بالكاد وجدتها! بربّك أتأتي ذلك المنزل تقتات علىٰ كلاب الحي الضالّة أم ماذا؟!»

ابتسمت علىٰ جملتها الأخيرة أوضّح ببساطة:
«لم أعد آتي هنا كثيرًا، لم أخطو ذلك المنزل منذ ما يقارب العام ونصف العام.»

نطقت ضاحكة:
«لا عجب إن وجدتُ بعض الجثث إذًا، هذا ما ينقصني سماعه!»

ابتسمتُ بتهكّمٍ شديد، آه لو تعلم..

أكمل كلانا طعامه فتطلّعتُ إلىٰ النّافذة، فوجدتُ أن الجو بات أفضل كثيرًا، وإن لم تتوقّف تلك الرِّياح عن الهبوب، فتحتُ هاتفي ألقي نظرةً علىٰ السَّاعة.

إنها العاشرة...

تركت الشوكة من يدي أمسح فمي بمحرمةٍ ورقيّة، قمت من مكاني مادًّا كفّي نحوها أسألها بابتسامة ساحرة:
«إلىٰ أن يتحسّن الجو، هل تسمح لي دانيتي بتلك الرَّقصة؟»

ابتسمت تلاعب حاجبيها:
«بلا موسيقى؟»

أومأت بثقةٍ فوضعتْ يدها في يدي وابتسامة متدلّلة علىٰ ثغرها ترتسم، جذبتها صوبي أضع يدًا على خصرها والأخرىٰ كما هي، في يدها الأخرىٰ، وهي تضع يدها الأخرىٰ علىٰ منكبي تستند عليه، تفحّصتها بثوبها الأزرق الطَّويل ذي الحزام العريض، فصارحتها قائلًا:
«أتعلمين أنّه لطالما كان ذلك الثَّوب مثاليًّا عليها؟»

عقدت حاجبيها ولسانها ينطق بريبةٍ:
«من تلك؟»

أجبتها ناطقًا حروف اسمها ببطءٍ:
«رُبىٰ.»

حدّقت دانية في عينيّ لثانيةٍ قبل أن تمازحني:
«أرتدت ابنتنا ذلك الثوب قبل أن أرتديه أنا؟ يبدو أنني سأشكُّ في حبّك لي!»

جلجلت ضحكاتي في الأرجاء بتهكّمٍ أسألها:
«ابنتنا؟ من تلك يا عزيزتي؟»

طالعتني باستغرب جمّ وكأنني أخبرتها أنني أراها عنرةً برأس دجاجة، فقالت ببداهةٍ:
«ابنتنا رُبىٰ يا ريّان، أولست أنت من تخيّرته لها اسمًا؟»

لم أستطع تمالك نفسي أضحك بقوّةٍ أكبر وأنا أردّد بمرارة:
«لم أتخيّر لرُباي اسمها وإن أضفتُ إليه ياء ملكيّتي، تخيّرتُ كل شئ في حياتي إلّا هي! إلّا ما يخصُّها!»

نظرت نحوها وأنا أشعر بتلك النّيران تحرق صدري:
«أتعلمين؟ لطالما كَرِهَت هي اللّون البنفسجي! ولطالما أغرِمَت بالأزرق واتخذته لها أنيسًا!»

سحبتُ يدي من يدها أمسكُ بفكّها بعنف، فانفلتت منها شهقةً مصدومة، ثم تابعت حديثي المحموم:
«لم تكن يومًا مقلتاكِ بندقيتان، و مع ذلك لم أرَ فيهما غير بندقها هي! لطالما رأت في عينيكِ خُضرةً ستذيب طبيبًا وتوقعه في غرامها! ولكنها هي أذابتني قبلكِ، ويال السخرية سحقتني قبلكنّ جميعًا!»

شعرتُ بدموعي الحارقة تهطل علىٰ وجنتي صارخًا بحُرقة بينما أهزها بعنف:
«لمَ يا رُبىٰ؟ ماذا صعنتُ بكُ ليكون ذلك جزائي؟ أولم أهبكِ كل شئ؟ أولم أكن لكِ أبًا وأخًا وحبيبًا وصاحبًا وأنتِ التي لم يكن لها أحد؟ أولم أكن ذلك الكفء لكِ؟ أولم أكن كافيًا؟»

شعرتُ بها تتحدّث بصوتٍ مرتجفٍ:
«ريّان ع..»

لم تكد تنهي كلامها حتّىٰ قبضتُ علىٰ عنقها بكلتا قبضتيّ أصرخ حتّىٰ كادت أحبال صوتي تتقطع متجاهلًا صراخها:
«اخرسي! أولا تتذكرين ما فعلته؟ اليوم.. السابع من يناير، إليكِ تعرّفتُ مرتين يا ساقطة! أولاهما يوم ميلادي والآخر يوم موتك! لمَ متِ يومها يا رُبى؟ لمَ واللعنة أجيبيني!»

كانت مقاومتها شديدة في البداية تحاول الانفلات من بين يدي، ولكنني أحكمتُ قبضتي حولها ألصق ظهرها في الجدار خلفها، استأنفتُ مخرجًا ما في قلبي بصوتٍ خائر خائب:
«لمَ؟ أولم أكن أمانكِ؟ أولم أكن أهتم بكِ؟حتّىٰ دُماكِ اهتممتُ بها لأنها تخصّكِ، حتّىٰ هؤلاء كنت أحفظ أشكالهنّ وأسماءهنّ دميةً دمية، أنواع الشّوكولاتة التي تحبّينها، قهوتكِ المفضّلة، خوفكِ من النّوم في الظّلام، كرهكِ للبرد، ولعكِ بالكلاب، حساسيتكِ من القطط، لعنك للمطر كل ليلة رعديّة، غيرتكِ من جارتكِ لأن والدتها كانت تغيظكِ بجمال طبخها، خوفكِ من كل ما هو عالٍ ومرتفع! كل ذلك ولم أكن جيّدًا في نظركِ؟»

شعرتُ بارتخائها بين يديّ وقد استحال وجهها إلىٰ لونٍ أزرقَ قانٍ، همستُ بصوتٍ واهنٍ امتلأ بالحسرة:
«لمَ فضلتيه عليّ يا رُبىٰ؟ لمَ خنتِني؟ أكان هو أفضل مني؟ أستَحَقَّكِ هو، ولم أستحِقّكِ أنا؟»

همستُ بجملتي الأخيرة بمرارة وملوحة عبراتي في فمي علقمٌ، ارتخت وباتت عيناها مفتوحةً تحدّق في فراغ ما، رحلت إليها، صرختُ مجدّدًا أريد إجابة وأنا أهبط علىٰ ركبتيّ بجوارها أهزّ جسدها الخالي من الحياة بعنف:
«اجيبينـي، لــمَ؟»

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رُبىٰ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن