أحتضن كوبَ الشاي بين يديَّ الباردتين، حرارته تبعث فيهما خدرًا لذيذًا. بخارهُ الدافئ يلمس وجنتيَّ ويكسوهما بحمرةٍ شبيهةٍ بتلك التي تضرّج السماء عند الغروب. رائحته الثقيلةُ تخترق أنفي باعثةً فيَّ نعاسًا محبّبًا. عادةً، هذه الرائحةُ تكفي لسحبي والتحليقِ بي بعيدًا عن كلّ الضغوط التي تحيطني، فأنعمُ بقليلٍ من الصمتِ وإن كان يخفي خلفه صرخاتٍ كثيرةً، وعلامات استفهامٍ لم يُجَب عنها بعد، وأنعم بقليلٍ من الصفاء وإن كان مجرّد طفوٍ فوق المياه العكرةِ التي تغرقني.
إلّا أنّ الأمرَ في هذه المرّةِ كان مختلفًا، فعوضًا عن أن أنعمَ بالصمتِ ارتفعت إشارةُ استفهامٍ عاليًا في رأسي وغطّت على كلّ شيءٍ آخر، وعوضًا عن أن أنعم بالصفاء غرقتُ أكثر داخل إشارة الاستفهامِ تلك، وغطت ضبابيتها عينيّ.
كشريطٍ شُغّل معكوسًا، عدتُ من مكاني هذا عندَ منضدتي إلى خطواتي في المطبخ أثناء تحضير الكوبِ الكائن بين يديّ الآن. أوقفتُ الشّريطَ لحظةً وفكّرت، ماذا لو أنني لم أُعدَّ كوبَ الشاي هذا منذُ البدايةِ؟ ماذا كنتُ لأفعلَ الآن؟ وإن كانَ تغيير الأمرِ الذي يحدث الآن سهلًا بسهولة تحضير كوب شاي، فما الذي يضمن لي أنني سأحبّ هذا الشاي نفسه مستقبلًا؟
بالتفكيرِ في الأمر، تبدو أسئلتي هذه أقرب إلى السخف، وغير مترابطةٍ، لكن في تلكَ اللحظةِ كنتُ أراها الأسئلة الأكثر أهميةً، والأكثر منطقيّةً في هذا العالم.
أحاولُ أن أُقدّم الشريط، أن أعرض ما سيجري، لكنّ النهاية لا تعرض سوى محاولاتي اليائسة، فهذا الشريط لا يتوقفُ عن السير، إلا أنني لا أجد فيه ضالتي مهما فعلت، لا أجد فيه المستقبل.
كم أنّ هذا مرعب! كلّ تلكَ الأشياء التي تختزل العالمَ بأسره في نظرنا اليوم، كيف سنراها غدًا؟ هل سنكنّ لها الحبّ نفسه؟ وهل ستعني لنا ما تعنيه لنا اليوم؟
وإذا عدتُ بالشريطِ نحوَ بدايته، نحوَ النفس الأوّل الذي دخلَ رئتيَّ، وتتبّعتُ كلّ منعطفٍ غيّر مسار حياتي وقادها لتصير ما هي عليه اليوم. هذه المراقبةِ الدقيقة لكلّ تلك المنعطفات المؤثرةِ تأثير موجةٍ عظيمة، والبسيطةِ بساطةَ تحضير كوب شاي، هل يمكنني من خلالها أن أحصل على لمحةٍ صغيرةٍ عن المنعطفات القادمة؟ وهل هناك شيءُ في هذا العالم يستطيع أن ينفي -من الألف منعطفٍ التي قد تأخذها الأحداث- ولو منعطفًا واحدًا؟
أعتقد أن تساؤلي هذا ليس في محلّه، فإذا أردتُ أن أبحث عن بدايةِ الشريط، هل ستكون ولادتي بدايته فعلًا؟ ماذا عن مئات المنعطفات التي أدّت إلى ولادتي؟ ماذا عن ألوف المسارات التي تقاطعت في اللحظة التي أخذتُ فيها أنفاسيَ الأولى؟ هل لي أن أتجاهلها كلّها؟ لا أستطيع، و لا سبيلَ أمامي للوصول إلى بداية الشريط في هذه الحالِ.
أغلق عينيّ، وأنفض التساؤلات وأرميها بعيدًا عنهما، إنني لا أمتلك إجاباتٍ تكفي كلّ هذه الأسئلة، لكنني أمتلك كوب شاي، وليس لي في هذه اللحظة سوى أن أرتشف منه ببطءٍ، وأستمتع بطعمه الشهيّ.
أنت تقرأ
موسيقا الخريف | Autumn music
Non-Fictionمع كل ورقة شجرٍ تسقط تسمع مقطوعة كمانٍ وتقرأ هنا. خواطر، قصصٌ من فصلٍ واحد.