عالمٌ منَ الوهم.

44 3 1
                                    

أنا هنا، ما زالَتْ أصابعي تحاولُ تسلّق الجدرانِ الزّجاجيّة دونَ تركِ بصماتٍ عليها، ما زلتُ أحاولُ ألّا أتبدّدَ في الأسرابِ الآدميّة، وألّا أتناثرَ في الممرّاتِ المبقّعةِ بالوجودِ الحقيقيّ للآخرين. إنّني أريدُ أن أُنْسى، لكنّني أريدُ أن يبقى شيءٌ منّي عالقًا في مكانٍ ما، كشامةٍ في جسدِ هذا العالم الذي أحلمُ أن يتغيّر.

أريدُ عالمًا الألمُ فيه أقربُ إلى استعارةٍ شعريّةٍ، عالمًا لا أحتاجُ فيه لبذلِ مجهودٍ لتعلّم الرقصِ وركوبِ الدراجة، والمشيِ والتّعثّر والتّحليق. أريدُ عالمًا يشبهُ الماضي، يشذّبهُ النسيان، يخفي منهُ أعقابَ السجائر، والأوساخَ تحتَ الأظافر، وآلامَ الظّهرِ، والغصّةَ العالقةَ في الحلوقِ أبدًا.

أذكرُ الماضي، فيما يحيلهُ النّسيانُ كلَّ يومٍ إلى شيءٍ أكثرَ جمالًا يخادعني ويغويني؛ أستلقي على بطنيَ في السّرير، أستنشقُ رائحةَ المرضِ بينَ الوسائدِ والشّراشف، وأطفو في الذّاكرة. أؤدّي بكلّ حواسي وبكلّ سعادَتي مشهدًا مثاليًّا ليقتنصهُ النّسيانُ خلالَ أيّامٍ لن أفكّرَ في عدّها.

أريدُ عالمًا أستطيعُ فيهِ أن أشعرَ دونَ أن أعي أنّني أحاولُ ذلك، عالمًا لا أفكّرُ فيهِ بالأسبابِ والتّداعيات، عالمًا أستطيعُ فيهِ أن أتبعَ فراشةً حتّى تنتهيَ الطّريق، أو تتبخّرَ ذاكرةُ المشيِ من ساقيّ. أريدُ عالمًا يشبهُ الحلم، يختلطُ فيهِ الواقعُ بالخيالِ، وتتلاشى عواقبُ الأفعالِ، وتنسابُ الأغاني والكلماتُ دونَ انقطاعٍ.

أتذكّرُ نفسي على الأريكةِ البنفسجيّة، القطّةُ نائمةٌ على ساقيّ، النّافذةُ مفتوحةٌ فوقَ رأسي والهواءُ راكدٌ وبارد. أنظرُ إلى القطّةِ وأبتسمُ في لحظةٍ نادرةٍ من الصّفاءِ ويقظةِ الحواس، ثمّ أسمعُ صوتَ أمّي يناديني من بعيدٍ، تأتي إليّ وتخبرني إنّني كنتُ نائمةً في مكاني على الأريكةِ، وجهي مغمورٌ بالوسائدِ والقطّة نائمةٌ حيثُ عهدتها، شعرتُ بألمٍ في ساقيّ أسفلها، وبعنقيَ يطقطقُ حينَ رفعتُ رأسي، لقد كنتُ نائمةً، أحلمُ بالواقعِ كما أريدهُ أن يكون.

أسمعُ أحاديثَ والديّ وأختي والموسيقا في هاتفي، الأصواتُ المحبّبةُ تشوّشُ كلماتي وتخدشُ نصّي، تبعدني عن عالميَ الذي أحاولُ اختلاقهُ من حروفٍ جافّةٍ، وتشدّني إلى ذاكَ الّذي أريدُ تغييرَه.

لا أحاولُ استخلاصَ نتيجةٍ، أتوقّفُ عن اتّخاذِ الكتابةِ مسلكًا للتّفتيشِ عن الحلولِ، وأخوضُ فيها حتّى النّفسِ الأخير، أحيلُها دربًا للصّراخِ والتّصريحِ بالعجزِ بدلًا من محاولةِ اجتيازه. أشغلُ نفسي باختلاقِ تفسيرٍ شاعريٍّ لنسياني تأريخَ نصوصي؛ أسخرُ من نفسي، ثمّ أتذكّرُ أنّ الكتابةَ كلّها محاولةُ اختلاقِ تفسيرٍ شاعريٍّ للوجودِ.

أختلقُ تفسيرًا لمقتي هذا العالمَ، أجمّلُ الماضيَ والأحلامَ والنّهاياتِ السّعيدةَ، أسترجعُ لحظاتي فوقَ لعبةِ التوازنِ في عتمةِ الليلِ الخالي من المصابيح تحتَ النجوم، حينَ شعرتُ كمْ يمكنُ للماضي أن يستغفلَ الحاضرَ ويتلبّسه، وكم يمكنُ للواقعِ أن يتهادى في الحلمِ لحظاتٍ قليلةً. أتنفّسُ، أعيشُ حياةً كاملةً أحلمُ بليلةٍ على لعبةِ التوازن، النّافذةُ مفتوحةٌ فوقَ رأسي، والنّجومُ تطرّزُ ليلًا خاليًا من المصابيح، أماميَ فراشةٌ وطريقٌ طويلةٌ، وأنا، أستشعرُ خفّةَ جسدي وأطفو فوقَ ذلكَ كلّه.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 17 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

موسيقا الخريف | Autumn musicحيث تعيش القصص. اكتشف الآن