ألجزء الثاني: لحظة خارج نطاق الزمن
إنتظمت حياة العائلة بعد العودة إلى اسطنبول رغم كثرة الانشغالات. من جهة كان على نهال أن تشرف على توضيب البيت كي يليق بالحفلة التي ستُقام على شرف تسلّم زوجها منصبه الجديد في غضون أيّام قليلة، صحيح أنّ القصر فخم ومجهّز بأثمن المفروشات والتحف وقد ورثه ظافر عن والده لكنّه خالٍ من أيّ حياة كونه تُرك منذ مدّة طويلة ويحتاج إلى بعض التصليحات. ومن جهة أخرى صادفت العودة إلى الديار مع انتهاء العام الجامعيّ وبداية العطلة الصيفيّة فسارعت سحر إلى تحضير كلّ الوثائق المطلوبة لتنتسب إلى جامعة "ألتن باش" للعام المقبل، لم يبقَ لها سوى سنة واحدة كي تحصل على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة. لطالما كانت منجذبة إلى الفنون بشتّى أنواعها وترغب في تحويل هذا الانجذاب إلى نشاط رئيسيّ في حياتها وعملها، وأكثر ما كان يشدّها إلى هذا العالم الراقي فنّ الرسم، فهي منذ نعومة أظافرها تملأ الصفحات رسمًا وألوانًا وتحلم باللحظة التي ستفتح فيها مرسمها الخاصّ. لقد وعدها والدها أن يكون لها ما تريد شرط أن تتقيّد بما يطلبه دون أدنى اعتراض، وهذا يلزمها بالتخلي عن نشاطات عديدة تفرح قلب فتاة بعمرها. صحيح أنّه قدّم لها رفاهة العيش لكنّه بتربيته المتشدّدة حرمها من أمور كثيرة، لم يكن يسمح لها بالخروج إلّا مع والدتها، حرمها من أن يكون لها صديقة أو رفيقة إذ لا يحبّ أن تنخلط ابنته مع أناس مختلفين عن البيئة التي تنتمي إليها في الأصل والتي تنظر إلى التربية بمفهوم مختلف. قائمة طويلة عريضة من الممنوعات جعلت سحر سجينة مقيّدة بين جدران البيت لا تخرج إلّا للذهاب إلى الجامعة برفقة سائق والدها الخاصّ الذي يبقى بانتظارها حتّى يعود بها عند انتهاء الدوام. هكذا عاشت في روما منذ مجيئها في مرحلة المراهقة حتّى بلغت أعوامها الأربعة والعشرين، رفيقتها الوحيدة والدتها تخفّف عنها عبء الوحدة والغربة وتعوّضها بحنانها المتدفّق تربية الوالد الصارم.
جلست سحر على الكرسيّ أمام طاولة المكتب تنتظر الموظّفة لتأتي لها ببطاقة الانتساب من قسم الإدارة. جالت بنظرها مترقّبة فأغرتها بعض مجلّات متناثرة على منضدة صغيرة أمامها، تناولت واحدة وقع عليها بصرها صدفةً وبدأت تقلّب صفحاتها بحركة عابرة حتّى توقّفت بغتةً عند عنوان بالبنط العريض يتصدّر إحدى الصفحات: "الحياة في أنثى" إبداع آخر في مسيرة يمان كريملي. لمعت عيناها جذلًا تتهافتان إلى قراءة سريعة تحمل إليها أخبارًا عن أديبها المفضّل.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
في قصر الكريملي الكائن في منطقة بيبيك الراقي نزل نديم إلى البهو يستعدّ للمغادرة فوجد عدالت بانتظاره:
-صباح الخير نديم بيك، الفطور جاهزٌ
-صباح النور، يبدو أنّك نسيت أنّني لا أتناول إلّا القهوة في الصباح