الجزء الأوّل: إهداء

1.6K 118 65
                                    

إلتهبتِ الأيادي تصفيقًا تواكب حرارة الهتافات تحيّي بلاغة الكلمة يجود بها نجم اللقاء بمناسبة توقيع كتابه الجديد ينضمّ إلى مجموعة سابقة لاقت إعجابًا منقطع النظير على مدى سنوات متتالية حتّى غدت علامة فارقة في الأدب الحديث بنوعيه النثريّ والشعريّ أثرَتِ الفكر أنعشتِ القلب وأضافت إلى سجلّ المكتبة التركيّة نفحةً وجدانيّة عاطفيّة تاقت إليها النفوس الحالمة تتعطّش إلى جرعات من الرومانسيّة تخفّف من حدّة جفاف فرضه عنوةً عصر التكنولوجيا.

لقاء حاشد داخل قاعة الاستقبالات في فندق "الماريوت" المطلّ بفخامة بنائه على زرقة البوسفور جمع في أجوائه الراقية وجوهًا ثقافيّة فنّيّة من اسطنبول وخارجها وعددًا كبيرًا من معجبي الأديب الكبير يمان كريملي وهو يطلق تحفته الأدبيّة الجديدة "الحياة في أنثى".

تزاحم المراسلون صوب المنصّة يتسابقون إلى اقتناص فرصة سانحة، فدردشة سريعة مع الكريملي ستشكّل سبقًا صحفيّا دون أدنى شكّ خصوصًا أنّ الأديب قليل الظهور ينأى بنفسه عن المناسبات الاجتماعيّة، يعيش في عالمه الخاصّ حياة هادئة ساكنة بعيدة عن ضوضاء المجتمع وصخب الإعلام يختلي فيها بأفكاره ليترك خصوبة الخيال على سجيّتها تنسج وتحوك البيان في بديع القصائد وروائع الروايات.

ترك المنصّة بهامته الموقّرة يسير صوب الجمهور مبتسمًا مصافحًا شاكرًا حفاوة الحضور، تفرض عليه اللياقة واجب الترحيب إنّما تحثّه نفسه إلى التحرّر من هذه المراسم، يتمنّى انتهاء اللقاء عند هذه اللحظة ليعود مسرعًا إلى صومعته لكن عليه أن يُكمل ما بدأه فهو لم يعتد يومًا الانسحاب في منتصف الطريق. لقد نفّذ رغبة نديم ابن أخيه على مضضٍ بعد وابل من الإصرار فسمح له بتنظيم هذا اللقاء لتوقيع الكتاب الجديد، وهذا ما لم يكن معتادًا عليه. لم يكترث يومًا لهذه المناسبات الترويجيّة لكن بعدما تسلّم نديم إدارة دار النشر التي أسّسها الكريملي منذ سنوات شاء أن يُخرج عمّه الأديب من قوقعته ويجمعه بالوجوه الثقافيّة التي تقدّر الإبداع والمبدعين. هي المرّة الأولى التي يشهد فيها نديم على عمّه وهو محاطٌ بهذا العدد من المعجبين، صحيح أنّ الحضور منبهرٌ بالحدث ما جعل الشابّ يُسرّ بالنجاح الكبير الذي حصده اللقاء لكن لم يخفَ عليه انزعاج العمّ، يتراءى له طيرًا أُبعِد قسرًا عن سربه يحاول مجاهدًا التأقلم برهبة الغربة. وفي جلبة الزحمة التي عجّت في الصالة دنا أحد المراسلين من نديم الواقف قرب طاولة التوقيع يبادره قائلًا:

- لقد وعدتَنا أنّ الأستاذ سيعطينا بعضًا من وقته، نحن مازلنا بالانتظار سيّد نديم

-وأنا عند وعدي، لكن دعني أنبّهك، لا إطالة في الأسئلة، كما تعلم... الأستاذ لا يحبّ كثرة الكلام

-عُلم سيّدي

لطالما كان للأدباء رؤية خاصّة في الحياة، يقولون القليل ليُفهم منه الكثير، ويمان كريملي عَلمٌ من هؤلاء المبدعين الذين يرَون الحياة بنظرة حالمة وفكر عميق. أديب فنّان في التاسعة والأربعين من العمر ناسك في معبد الأدب، من أجله تخلّى عن حصّته في شركة والده الهندسيّة وترك قصر العائلة في اسطنبول ولاذ إلى العزلة في بيت الريف معقل الهدوء ينشده مسرحًا حرًّا يطلق فيه جموح أفكاره الثائرة. حبّه للمطالعة أبصر النور مع براعم الطفولة حتّى أصبح شغفًا في الشباب يكشف موهبةً فذّةً في فنّ الكتابة. إلتحق بكلّيّة الآداب رغم اعتراض والده فريد بيك ليحصل على أعلى الشهادات وينشر بعد فترة وجيزة باكورة أعماله " موسيقى الليل"، رواية رائعة جعلت نجم الكاتب الصاعد يسطع مشعًّا في فلك الأدب. وهكذا بدأ الحلم يشقّ طريقه إلى الواقع يتحقّق تباعًا مع إبداعات متتالية تُرجمت إلى عديد اللغات بعدما ذاع صيتها خارج البلاد. هو عاشق للطبيعة ملاذه الوحيد، يلجأ إلى أحضانها كما يلجأ الطفل إلى حضن أمّه، يشكو لها همّه وينهل من معالمها المتدفّقة أسرار الوجود فتغدق عليه بأبهى الإيحاءات يتفنّن برسمها إحساس مرهف يؤمن بطاقة الإنسان تتجدّد حيويّتها مع انبعاث النور من شمس النهار وتغفو مرتاحة بين ظلال العتمة تنبثق من رحم الليل.

ملهمتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن