الجزء الثالث: لم ألتقِ بها إلّا مؤخّرًا

515 91 57
                                    

جلست سحر إلى المائدة تشارك والدتها وجبة العشاء شاردة الذهن تتقاذفها مئات أفكار ولدت بعد ذلك اللقاء. إنقضى على حفلة الخطوبة يومان وهي مازالت على هذه الحال، أسيرة تجاذبات ذهنيّة أغرقتها في السرحان وضاعفت ميلها إلى السكوت المعتاد، تفكّر بذلك الأديب الكبير وبدور الصدف في الحياة تطلّ على غفلة غريبة لتتفوّق على توقّع الإنسان. نظرت نهال إلى طبق وحيدتها بطرف العين ثم ألقت يدها على ذراع سحر فانتفضت الصبيّة السارحة تستجمع ذهنها المشوّش :

-أمّي... ماذا هناك؟

أمالت الوالدة برأسها صوب وحيدتها تجيب بهدوء:

-حبيبتي... أنا من يودّ أن يسألك، لاحظت مؤخّرًا أنّك تهملين طعامك، حتّى حساء الفطر الذي كنتِ تتهافتين إلى تناوله برد في الطبق ثمّ أراك شاردة معظم الوقت... حبيبتي هل من أمر أجهله؟ أرجوك صارحيني...

-أمّي... أنا بخير... كلّ ما في الأمر أنّني لست جائعة

-لاااا، المسألة لا تتعلّق بالجوع... أنا متأكّدة... كأنّ شيئًا يشغل بالك...

-وما الذي يشغل بالي في الوحدة التي أعيشها؟

تنبّهت سحر إلى لمحة الحزن التي لاحت على وجه أمّها فأسرعت إلى تنميق عباراتها:

-أظنّ انتقالنا إلى اسطنبول هو السبب

-لكنّك كنت في غاية الانشراح عند وصولنا

- لعلّه بسبب التغيير المفاجئ أو التعب من مشقّة السفر والتوضيب، لا أعرف... لكن ثقي أنّني سعيدة جدًّا بالعودة، أشعر أنّني أستعيد مراهقتي التي تركتها هنا منذ سنوات

قالت نهال بشيء من الفكاهة:

-في هذه أنت محقّة، ما أراه باديًا عليك يذكّرني بعوارض المراهقة... كأنّك عدت إلى تلك الأيّام

إبتسمت سحر تودّدًا فأكملت الوالدة الكلام بنبرة امتزجت بالحنان والجدّيّة:

-على العموم حبيبتي أنا دومًا إلى جانبك، لا تنسي هذا أبدًا، كلّ ما يهمّني أن أراك سعيدة

سكتت الوالدة لكنّ قلقها على ابنتها لم يسكت، لقد تعمّدت أخذ الحديث إلى مسرًى آخر تحاشيًا لأيّ ضغط إنّما حدسها ينبئها بأنّ وحيدتها ليست على ما يرام، هو الموضوع نفسه، وماذا يمكن أن يكون غيره؟ تناولت الكوب ترتشف جرعة من الماء وهي مصمّمة على تنفيذ ما يدور في رأسها منذ مدّة فالتأجيل لن يُجديَ نفعًا لذا ستقوم باللازم فور عودة ظافر من السفر وهذه المرّة لن يمنعها تسلّطه عن المطالبة بحقّ ابنتها في مساحة من الحرّيّة المسؤولة تُنعش أعوامها الأربعة والعشرين. هزّت نهال رأسها كمن يؤكّد لنفسه صواب القرار ثمّ تناولت الملعقة تُكمل تناول الحساء.

----------------------------------------------------------------------------------------------------

دخل جينغار غرفة سيّده صباحًا فألفه ممدّدًا على أريكة جانبيّة يُلقي بذراعه على الجبين سارحًا في عالمه الخاصّ وعلى صدره ترتاح رواية "ملهمتي"، دنا منه على مهل ليسأل بصوت منخفض:

ملهمتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن